تخطى إلى المحتوى

إعادة ترميم الضياع: طالبة سورية تبحث عن وطن قابل للعيش

دانيا النابلسي:

لم أكن أحتاج إلى دراسة العلوم السياسية لأفهم أن السياسة ليست فقط ما يُقال في المؤتمرات، بل ما يُعاش في الشوارع، في طوابير الخبز، في انقطاع الكهرباء، وفي نظرات أمي وهي تحاول أن تجعل راتبها يكفي لأسبوع آخر. لكنني درستها، ربما لأني أردت أن أجد تفسيراً منطقياً لهذا الضياع الذي يبتلعنا، أو لأني كنت أبحث عن أدوات لفهم كيف يُبنى وطن، وكيف يُهدم.

قبل عام 2025، كنت أتنقل بين المحاضرات وأنا أحمل في حقيبتي كتباً متنوعة في السياسية والاقتصاد والقانون والادارة، بينما أراقب كيف تتآكل هذه العدالة في كل زاوية من حياتنا:
– الكهرباء كانت تنقطع لساعات طويلة، فتتوقف الحياة، لأنها رفاهية.
– ⁠المياه كانت شحيحة، لا تكفي للاستحمام ولا لري الحدائق الصغيرة التي كانت تذكرنا بأن الحياة يمكن أن تنبت حتى في الخراب.
– ⁠النقل، كان رحلة عذاب يومية. الوصول إلى الجامعة يتطلب تخطيطاً دقيقاً، لا لأنني أحب التنظيم، بل لأن الحافلات لا تأتي مباشرةً، وإن أتت فهي مزدحمة، خانقة، كأنها صورة مصغرة عن الوطن. كنت أراقب كيف يؤثر على إنتاجيتنا، على قدرتنا لتحقيق الحلم.
– الخبز، فكان أكثر من مجرد طعام. كان للاستقرار، للكرامة، للعيش البسيط الذي نحاول أن نحافظ عليه. وعندما أصبح الحصول عليه تحدياً، شعرت أن الوطن ينهار من الداخل.
– ⁠الرواتب لم تكن تكفي، لا للكتب، ولا للدواء، ولا حتى لوجبة محترمة. كنت أدرس العدالة الاجتماعية وأنا أعيش نقيضها.

ثم جاء عام 2025، ومعه وعود بمشاريع جديدة. بدأوا يزيلون الركام من المدن، وكأنهم يحاولون إزالة آثار الألم. رمموا الطرق، أعادوا تأهيل بعض المدارس والمراكز الصحية والمؤسسات الحكومية، شعرت بشيء من الأمل، لكنه كان هشاً، كأنك تحاول بناء بيت على أرض ما زالت تهتز.
المشاريع جيدة، لم تكن كافية. لأن الكهرباء لا تزال ضعيفة، والمياه لا تزال شحيحة، والنقل لا يزال معطلاً، والخبز لا يزال أزمة، والرواتب لا تزال قليلة. كل تحدٍ يؤثر على الآخر، كأننا في شبكة من الأزمات، كل خيط فيها يشد الآخر نحو الأسفل.

أنا لا أكتب هذا المقال لأجل الشكوى، بل لأجل التوثيق. لأجل أن أقول إن المواطن السوري، وأنا واحدة منهم، لا يحتاج فقط إلى مشاريع، بل إلى رؤية. إلى وطن يُبنى على الإنسان، لا على الإسمنت. إلى سياسة تفهم أن الضياع لا يُرمم فقط بالجسور، بل بالثقة، بالعدالة، وبالكرامة.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
Print

إقرأ أيضامقالات مشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

تابعونا على فيس بوك

مقالات