*د. نبيل طعمة
السياسة تصنع التاريخ، تجيّره كما تشاء، تتلاعب فيه، تفككه وتعيد تركيبه بحسب حاجاتها، تجرده من وجوده وتبني عليه إرادتها، فهو موجود ضمن أهم بنودها، طبعاً “التاريخ لا يعيد نفسه” إنما يُستحضر من باب أنه حاضر على أجنداتها، ها هي، وأقصد السياسة، تتناوله من عمق التاريخ الديني الذي بُني في الشرق الأوسط وغُرز في فكره، وعُمّم من خلاله على شعوب العالم أجمع، حيث سيطر على العقول دون نقاش أو بحث أو تقصٍ للحقيقة، أدلف من هذا الباب إلى ما قبل آلاف السنين، أبحث في تلك السياسة الخطيرة التي أنجزت “أبرام إبرهام إبراهيم” إلى صاحب هذا الاسم الذي اعتبر مؤسساً لديانة التوحيد بعد أن كان هناك انتشار هائل للآلهة؛ ولم يكن هناك أديان “لا اليهودية ولا المسيحية ولا الإسلام” ليس فقط لشعوب هذه المنطقة؛ إنما لشعوب العالم أجمع، جمعها هذا الاسم “إبراهيم” وقدمها للبشرية، فهو لم يأتِ بدين، وكتبت ذات مرة أن الإبراهيمية ليست ديناً، لأن إبراهيم أوجد فكرة الإله الواحد من خلال تأمله وصوفيته، ولم تكن لديه أي ديانة سوى دعوته للتوحيد، وما نقرأه عن تاريخ ديانة اليهود ما هو إلا تلاعب سياسي في التاريخ، لأن موسى القادم من مصر ما بين “1391 – 1271” قبل الميلاد والمسيحية صفر ميلادي في بيت لحم وظهور الإسلام في مكة “610م” لكم أن تدققوا.
كيف نسجت السياسة منظومة إبراهيم الذي وُلد في أور سومر، وانحصرت ولادته في الفترة بين 2324-1850 ق.م وقد رافقت الأسطورة هذه الولادة وما نُسج عنها لاحقاً، من محاولة حرق النمرود “ملك بابل” له في “بحيرة الأسماك” الواقعة في مدينة “أورفا” التركية حالياً، ونجاته منها في الأسطورة الدينية، ومن ثم وصوله إلى “حلب” التي سميت بذلك نتاج حلبِ الشاة فيها، ومتابعة رحلته إلى “دمشق” ومن ثم إلى “القدس” ثم إلى “طيبة” مصر عاصمة الفراعنة، وبعدها إلى “مكة” مع هاجر التي أنجب منها إسماعيل، وبنائه القواعد في مكة، وعودته إلى مصر واستعادته زوجته من الفرعون؛ التي زوجها له من باب أنها أخته، حيث ورد في تعاليم التوراة وتلموديها (الأورشليمي والبابلي) أن الأخت من الأب تستطيع أن تتزوجها وتزوجها، وعودته واستقراره في أرض كنعان فلسطين.
الاتفاقات الإبراهيمية التي اخترتها عنواناً لهذه المادة، وقرنتها بعلاقة السياسة بالتاريخ، كون هذه الرحلة المكوكية التي أنجبت إسماعيل “حام” وإسحاق “سام” اللذين امتلكا ديانة التوحيد، وأُسس من خلالهما “أبناء الله” “وأبناء الجارية” بحسب تعاليم التوراة والتلمود التي حضرت بعد ذلك: (إن الله خلق اليهود من جوهره وخلق باقي البشر من نطفة حمار) وبعد ما يقرب من أربعة آلاف عام ونيف، وفي عهد ترامب الذي حكم الولايات المتحدة الأمريكية كرئيس “2016-2020” وصهره “كوشنير” يطرح حلاً للشرق الأوسط تحت مسمى الاتفاقات الإبراهيمية؛ هذه التي استندت إلى فكرة التجوال الجغرافي “لأبرام” في الآرامية والعبرية القديمة، من أور سومر في العراق إلى جنوب الأناضول في تركيا إلى سورية وفلسطين ومصر والسعودية، حيث تم تحديد هذه المساحة التي ولدت عليها فكرة التوحيد، ومن بعدها مثلث الديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية، وأن الحل بالعودة لهذه الفكرة التي لم يكن لديها أديان إنما فكرة “إبرام إبراهام في المسيحية وإبراهيم في الاسلام” والفكرة الثانية التي استندت إلى العهد القديم وتفاسيره التلمودية، وما استند إليه أيضاً من قرآن المسلمين، حيث نجد في الأول أن الإله يخاطب إبراهيم قائلاً:( إن كل أرض نظرتها عيناك وكل أرض وطأتها قدماك هي ملك لك) والثانية بعد أن وُلد لإسحاق يعقوب “المسمى إسرائيل” بالآية ” يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ” وهنا تأتي أسئلة يجب الأخذ بها والتفكر قبل الإجابة عليها: هل يُعقل أن يعد الله فرداً بأرض نظر إليها وسار عليها وأن تكون ملكاً له؟ وهل يعقل أن يفضل الله شعباً على شعوب الأرض قاطبة؟ وأيضاً هل يُعقل لزوجة إبراهيم ساره “ساري” أن تهبه جاريتها ومن ثم يصلح شأنها فتلد له إسحاق؟ وهل يعقل أن نوحاً الذي أنجب (سام وحام) أن يتحولا إلى سيد وعبد “سام السيد وحام العبد”؟ أدع برسمكم التفكر في هذه المسائل.
وإذا عدنا للمغزى العميق من الاتفاقات الإبراهيمية التي استحضرها كوشنير، والذي قُدمت له هذه الوثائق التاريخية واستند إليها معتبراً إياها أنها الحل النهائي لكامل معضلات الشرق الأوسط، ومن خلالها ستكون إسرائيل السائدة “السيد” على شعوب ودول هذه المنطقة بحكم الوعود الإلهية لها، والقوى الهائلة التي قُدمت من قبل الغرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، لهذه الدولة المصطنعة المسماة” إسرائيل”.
السياسة تتلاعب بالتاريخ والجغرافية وأديان البشرية، تمسح من التاريخ ما تريد، وتبيد من الشعوب ما تشاء، وتفرض إرادتها على المستسلمين من العرب والمسلمين، ولولا وجود الباحثين عن أسرار الحياة والمحافظين الثقاة على تسلسلها لفسدت الأرض بما عليها، وللأسف ليس الكل يعلم ذلك، والذين لا يعلمون يؤيدون بجهلهم الجهل ويحولونه إلى علم، أرجو من العالِمين والعارفين متابعة البحث والتقصي والإجابة عن هذه الأسئلة. هذا غيض من فيض الاتفاقات الإبراهيمية، وجزء يسير من تلاعب السياسة بالتاريخ والجغرافية، والسؤال الأخير هل سيقبل هذا الإقليم بالاتفاقات الإبراهيمية في حال فوز ترامب “2024-2028” وفرضه عليه؛ أم سيكون لسياسات هذا الإقليم رأي آخر.