تخطى إلى المحتوى

سمراء..- الأديبة فاطمة صالح صالح

شابّين، كانا.. في السادسة والتاسعة عشرة..
مابين قريتِهِ المكوّنة من ستة بيوتٍ ترابية، وقريتها، أغراهما صفاءُ النهر، بالنزول، والتباري بالسباحة، لم يكن يدري بأنها ستسبقه بعِدّةِ أمتار، عائمةً، كحوريةٍ فوق المياهِ، وخِلالها.. أسرعَ خلفها، وأمسكَ بطرف فستانها المُشجّرِ الطويل، الذي التصقَ بجَسَدها الأبيضِ الغضّ، وتعالتْ ضحكاتهما في ذلك الوادي العميق.. ولم يدريا كيف حصل ماحصل.! وبقدر شعورهما بالمُتعة، شعرا بالإثم.. كيف حصل ذلك، بلحظةٍ خارِج الزمان والمكان..!؟ طأطأتْ رأسَها، وهي تغسلُ بقعَ الدمِ عن فستانها البَليل، اقتربَ منها، وضَمّها إلى صدره، لكنها دَفَعتهُ بقوّة، وتابعتْ إزالة آثارِ الإثم العظيم، الذي لايُغتفَر،لا مِن الأرض، ولا من السماء..
بعد الغروب، وصلا إلى مشارف قريتها. طلبت منه العودة إلى مزرعتهم، قبل أن يصلَ إلى أمام دار أهلها. عادَ، خافِضَ الرأسِ، وآثارُ النشوةِ ماتزالُ تبعثُ القشعريرةَ في جسمهِ وروحه. لم يعبأ بوعورةِ الدرب الترابية الضيقة، على ضفة النهر من الشمال، ولا بأغصانِ أشجار الدلب، والجوز، وشُجيرات الآسِ، والعُلّيق. وصلَ إلى بيتهم، بعد أن خيّمَ الظلامُ على الكون. لم يستجب لطلبِ أمهِ أن يشاركهم العشاء، تركَ حباتِ الزيتون تسبحُ في زيتها أمامهم، قبل أن تستقرّ في بطونهم مع قطع خبز التنور الشهية، وقطَع البصل اليابس.
لم يطل عليه الوقتُ، حتى استسلمَ لإغفاءَةٍ فوقَ سريرهِ الخشبي الذي يجمعه بأخيه الصغير، فوق فرشة رقيقةٍ من الأسمال البالية، المفروشة فوق قطعةٍ من الخشب، تسندها من زواياها الأربع، بعضُ الحجارة، وشجيرات (البلاّن ) الشوكية المضغوطة. لم توقظهُ لسعاتُ البعوض، أو خوارُ البقر، وثغاءُ الخرافِ والماعز، أو نهيق الحمير. أيقظه حلمٌ جميل، لم يجرؤ على أن يخبر به أحداً، حتى سمراء، التي كانت معه في ذلك الحلم.
– هل قطعتِ النهرَ سِباحةً، ياسمراء.؟ كان عليكِ أن تجتازيهِ من تحتِ الدلبة، كانت الصخور ستمنعُ عنكِ البلَل.!
لم تُجِبْ سمراء.. عادت أمها وسألتها : – مَن أوصَلَكِ.؟ حامد؟ أم خليل.؟
– أوصَلَني خليل، وعادَ مستعجلاً، كي يساعدَ أخاهُ في سقيِ الدواب.
– وكيفَ هي أختك؟!
– بخير، لله الحمد، لقد استعادَتْ عافيتَها.
– الحمد لله، جَلّ شأنه.
استلقتْ سمراءُ فوق فراشها المبسوطِ على أرضِ الغرفةِ الترابية، وتحته حصيرٌ منسوجٌ من القشّ. تدثّرتْ باللحاف، رغم حرارة الطقس، فخَفَّ ارتعاشُها قليلاً، قلبُها مُنقبضٌ، ورغبتُها بالصمتِ شديدة، تفكيرُها تجَمّد كثلجِ كانون. لم تنم تلك الليلة، كانت ترعبُها إلى درجةِ الشّلَل، فكرةُ العقوبةِ الإلهيّة. أهلُها، يمكن أن تخفي عنهم ماحدث، لكن، أين تذهبُ من الله..؟!!
لم تشعر بالحقدِ على خليل، بل خافتْ عليه ممّا يعتريها من مشاعر الذنب العظيم، والعقوبة الإلهية، وصَمّمتْ ألاّ تراهُ بعد تلك الحادثة، ورفضت أكثر من مرة، طلبَ أمها أن تزور أختَها، وتنقل لها بعضَ الطعام المطبوخ، والإطمئنان على صحّتها، وصحة وَليدِها الذي لم يتجاوَز عمرُه الشهرَ، بعد، وأبوه غائبٌ منذ عدةِ أشهر، يعمل في لبنان.
مضتْ أشهر، لم تلتقِ سمراء بخليل، لكنّ ذهنَ كلٍّ منهما ظلّ مع الآخر، تختلطُ فيه مشاعرُ الغِبطةِ، بشعور الذنب العظيم، فتتشظّى نفساهُما.
كانت سمراءُ، خلالَ ذلك الوقتِ، كثيرةَ التوعّك، وكم مرّةٍ فاجأها الغثيانُ عند نهوضِها باكراً لتذهبَ مع أهلها إلى حصاد القمحِ والشعير..!! حتى أنها سقطتْ مغشياً عليها، في أحد الأيام، تحتَ لهيبِ شمسِ الظهيرةِ، بين سنابلِ القمحِ، والمنجلُ في يدِها. هُرِعَالأهلُ نحوها، وراحوا يرشونها بالماءِ الباردِ، من جَرّةِ الفخّار، ومرّةً يكسرون بصلةً يابسة، ويضعونها مقابلَ أنفها، عَلّ رائحتَها الواخذةَ توقظُ سمراء، لتستريحَ قليلاً في ظِلِّ شجرةِ البلّوطِ، قبل أن تعاودَ العملَ في الحصاد. وتستسلم للنوم، وهي جالسة مع العائلة، يتناوَلون العشاء، بعد كلّ نهارٍ مُجهِد.
لم يُخفّف تعبُ أيام الحصادِ، أو تكسيرُ الحجارةِ، من إحساسِ خليل بالعار، وبالذنب، ولم يستطعْ أن يتخيّلَ أنه ينظر في وجهِ سمراءَ الجميل، الذي لايبارحُ ذهنه، حتى أنه لم يكنْ يجرؤ على تصوّرِ مَلامحهِ الناعمة، وكيف غيّرتْ تلك الحادثة تقاسيمَه.
من قبلِ شروقِ الشمسِ، حتى قيلولة ما بعد الظهيرة، لم يكن يرفعُ ظهرهُ، وهو يقطعُ السنابلَ بمنجلهِ الصقيلِ، ثمّ يجمعُ كلَّ حزمةٍ، ويربطها من وسطها بسوقِ بعضِ السنابلِ الطرية، المَرِنة، ثم يُلقيها خلفهُ، ويتابع العملَ، قبل أن تجمعَ العائلةُ حزَمَ السنابلِ، وتنقلها على ظهر الحمارة العجوز، إلى البيدرِ، لتُدرَسَ لاحقاً، وتُستخرَجَ حبوبُها. وكلّما وجدَ أنه ماتزال لديه طاقةٌ، يصعد بعد الغداء نحو أعلى الجَبَل، ليعملَ بقطعِ الحجارةِ البركانية السوداء، ليكمِلَ بناءَ بيته الصغير، الذي قسَمَهُ له والدهُ قبلَ رحيلهِ عن هذه الفانية، وحوله قطعة أرضٍ تصلح للزراعة، بعد أن يحفرها بفأسهِ، ويقتلعَ صخورها، حتى لو بقيتَ عدة أعوام تشتغل وتقطع وتبني، دون أن تُكمِلَ بيتكَ الصغير النائي، لكنه يطلُّ على مدىً واسعٍ شاسع، يختلف عن مدى قريتكَ الخضيلةَ، التي لايُرى منها أبعدَ من ضفةِ النهرِ بقليل. وبعد الغروب، يعود إلى قريته الصغيرة، نازلاً سلالِمَ الدّربِ الطويل، لايخيفهُ الظلامُ، ولا عُواءُ أبناءِ آوى، في الوادي السحيق.
في أحد الأيام، وصَل في أول الليلِ، كعادته، وقبل أن يدخلَ البيت، المُشرَع على نسمات الصيف البخيلة، سمع صوتَ (الشيخ حامد ) يرتفع، وتخيّل أنه يسأل عنه. جمَدَ الدمُ في عروقه.. هل أخبرتْ سمراءُ أباها بما حصَل.؟! إذاً، لماذا يرتفع صوتهُ بما يشبه التهديدَ والوَعيد..؟! للبيتِ بابٌ واحد، فكيفَ تدخلُ دون أن يراكَ الجميع، ياخليل..؟! كيف، أيها العاثر..؟!
لم يكنْ ليخفى على (أم حمدان ) أنّ توَعُّكَ ابنتها، وصمتها الطويل، له مالَهُ، ثمّ.. ثمّ هل من المعقول أن بَرْدَ الصباح الباكرِ، هو السبب في إقيائها اليوميّ..؟! لا…. لا، ياسمراء.. أيتها الحمقاء، ماذا تخفين عن أمِّك..؟!
وأمام ضغطِ الجميع، اعترَفتْ بما حَصَل، وأفصَحتْ عن اسمِ خليل.
ضَرَبَتِ الأمُّ على رأسِها، حتى كادت تدميه، ولوَلَتْ، وشَتَمتْ، وضربتِ ابنتها، حتى كادَ يُغمى عليها.. سأقتلكِ يافاجرة.. ابنةُ (الشيخ حامد ) تفعلُ الفاحشة..؟! لعنةُ الله عليكِ، وعلى ذلك الوغد الجبان. كيف سأخفي الفضيحة..؟!
تهامَستْ نسوةُ القرية، فالبَرّيةُ لها عيونٌ وآذان. وهناكَ أمورٌ لايمكن أن تُخفى على أحد.. (الحُبّ، والحَبَل، وركوب الجَمَل.)..
بعدَ أخذٍ، ورَدّ، وشَتمٍ، وتحقيرٍ، وتعنيف، كان إلزامُ خليل بالزواج من سمراء، هو الحَلُّ الأمثل.. اقتادَها أهلُها من بيتهم إلى بيت خليل، الذي اصطحَبَ سمراء، بدَورِهِ إلى قِمّةِ الجبَل، ليعيشا ما كُتِبَ لهما في بيتهِ الحجَريّ، الذي لم يُكمِل بناءه، بعد..
وحيدَين، بعيدَين عن القرى، والناس. لايزورهما أحد، ولا يخرجان من البيت إلاّ لقضاء الحاجة، أوليعتني خليل بالمزروعات الصيفية، التي أعطت أكُلَها، واستطاع أن يأكلَ ويطعم زوجته منها، لعدّة أشهر، قبل أن يأتيها مَخاضُ الولادة. كان بطنها قد كبر بشكلٍ أثقلَ عليها كثيراً، كانت تميلُ في مشيتها، كبطّةٍ سمينة.
حتى أحاديثهما كان أغلبُها همساً، كي لايتسرّبَ صوتهما خارجَ حجارة البيت، نحوَ الدرب الترابية، التي تمرّ من أمامه، وتودي من، وإلى أقربِ قريةٍ لهما، على بُعدِ عدة كيلومترات.
لعدةِ أيام، وسمراءُ تتألّمُ، وتصرخ، وخليل يحاول التخفيف عنها، وطمأنتها، وهي تتشبّثُ به، دون جدوى.
كانت بعضُ النسوةِ يسُقنَ حميرهنّ، عائداتٍ إلى بيوتهنّ عند الغروب، البشرُ والدوابّ مُرهقون من العمل المتواصِلِ طيلةَ أيام، ينقلون غِمارَ الحنطةِ، والشعير، من الحقول، إلى البيوت. تعالى صوتُ سمراءَ، المُستغيث، ونحيبُ زوجها البائس، الذي أُسقِطَ في يده، ولا يعرف ماذا عليه أن يعمل كي يساعدها في الولادة.. صاحَتْ إحدى النسوةِ، متسائلةً ماذا يحدث في ذلك البيت الآثم، فازدادَ نحيب خليل، وتابعت سمراءُ صُراخها، حتى خارَتْ قواها، وما من دليل على قرب خروج رأسِ الجنين. تهالَكَتْ على كتفِ زوجها، وهما جالسان على فراشهما الرّثِّ، العفِن. لم تتردّد بعضُ النسوة بالدخول، ولم تعِقها الأسمالُ التي توارى خلفها الزوجان. صاحَت إحداهنّ: -ياويلك من الله.! لماذا لم تخبر أحداً ؟ – لا أعرف مَن أخبر، ولن ينجدَنا أحد.
نقلتِ النسوةُ الخبر إلى القرية، تجرّأت عدةُ نساءٍ، وصعَدنَ إلى البيت البائس، لم تفلِح أيٌّ منهنّ بمساعدةِ المرأةِ على إخراج الجنين العنيد، الذي تشبّثَ برحم أمهِ، كأنه لا يريد الخروج إلى هذه الحياة. وعادَ الخبرُ إلى القرية، بأنّ المرأةَ تكادُ تموت. لا دايَةُ القريةِ، ولا أحد يستطيع فِعلَ شيءٍ مُفيد.
أحَدُ وجهاء القرية، وآخر من يمكن اللجوء إليه، في حَلّ أصعبِ المشاكل، أرسلَ إلى المدينةِ، يستدعي الطبيبةَ النسائيةَ الوحيدة، التي جاءتْ تقودُ سيّارتها الهَرِمةَ، عبر الطريق الوعرة، لعشرات الكيلومترات، وأوقفتها في آخر الطريق، قبل وصولها إلى القرية، ونزلتْ منا، تساعدها النساءُ في تسلّق الدربِ الموحشة، هي العرجاءُ، لكنها إنسانة. وقد ساعدت سابقاً، زوجةَ الوَجيه بإحدى ولاداتها المتعثّرة.
بعد حوالي نصف ساعةٍ من المسير الشاقّ، وصلت الطبيبة إلى البيت المستغيث، جُنّتْ، وصاحَتْ مستنكرةً – المرأةُ تموت… لماذا تأخّرتم بطلبِ المُساعدة، حتى الآن.؟! كان الجوابُ، صَمتاً.. ثم راحَ خليل يتوسّل إليها : – أرجوكِ يادكتورة.. ساعديها، أرجوكِ، ليس لي غيرها في هذه الدنيا.. – يا أخي، سأفعلُ ما بوُسعي، والباقي على الله..
كان الحَملُ توأمياً. استطاعت الطبيبةُ أن تُخرِجَ الطفلةَ، تلاها أخوها، لكن… بعد أن كان الثلاثةٌ جُثثاً هامِدة.
أسلَمتْ سمراءُ الروحَ لبارئها، غير آسفة. تركَ الجميعُ جُثتيّ الوليدَين، وتكوّموا حولَ جثةِ أمهما.. خليلُ يندبُ، ويعوِل بصوتٍ مُرتفع، لم يعُد يخاف من شيء، ولا على شيء.. لأولِ مرةٍ يرتفعُ صوتُهُ بعد تلك الحادثة..
حَمّلوا الجثامينَ على ظهورِ الدّواب، ونقلوها إلى تلكَ المزرعة، قرب النهر، حيثُ ووريَتِ الثرى في حفرةٍ واحدة. لم يجرؤ أيٌّ من الأقاربِ على زيارةِ القبرِ، لسنواتٍ طويلة..
_____________________________________________________
الكاتبة: فاطمة صالح صالح
المْرَيْقِب..
حزيران 2020م

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
Print

إقرأ أيضامقالات مشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

تابعونا على فيس بوك

مقالات