لم نفاجأ بالارتفاع الجنوني لأسعار الفروج والبيض، فالمؤشرات منذ ثلاثة أعوام على الأقل كانت تُنذر بقدوم موجة سريعة وغير مسبوقة من ارتفاع أسعار منتجات قطاع الدواجن، ومن تابع هذه الارتفاعات لم يتوقع أن تتدخل الوزارات المعنية للجمها، أو منع وصولها إلى حدّ لم تعد ملايين الأسر السورية تقوى على شراء الفروج أو البيض إلا بالقطعة!.
كل القرارات التي صدرت بموافقة اللجنة الاقتصادية، وخاصة خلال الأعوام الثلاثة الماضية كانت ترفع أسعار الفروج والبيض، كما سائر السلع والخدمات الأخرى، وكانت النتيجة: الفروج لم يعد أكلة شعبية، فعندما يتراجع إنتاج سورية من الحليب مثلاً -وهي المادة التي كانت رخيصة جداً وبمتناول جميع السوريين- من 300 ألف إلى 100 ألف طن، من الطبيعي جداً أن يتراجع إنتاج الفروج والبيض لا بفعل ارتفاع أسعار هذه المواد فقط، وإنما بفعل تراجع القدرة الشرائية لملايين السوريين أيضاً الذين أرغمتهم القرارات غير “الرشيدة” بدعم الزراعة على تخفيض استهلاكهم من الحليب والألبان والأجبان والفروج والبيض، ليضحي المشهد الغذائي للمواطن بأنه غير سارٍ بل ومخيف، وسبق لوزير الزراعة أن قالها علناً: أمننا الغذائي في خطر!!.
والسؤال المؤرّق جداً: ماذا يشغل اللجنة الاقتصادية إن لم يكن محور اجتماعاتها وقراراتها تأمين السلع والخدمات بما يناسب دخل الأسرة السورية؟.
لقد تعوّدنا على مدى الأعوام الماضية أن نوجّه أصابع الاتهام إلى التجار في كل مرة ترتفع فيها الأسعار، ولكن ماذا عن الجهات الحكومية التي لا تتردّد أيضاً برفع أسعار منتجاتها وخدماتها مع كل تعديل لسعر الصرف أو رفع لسعر المحروقات والأعلاف والأسمدة.. الخ، وبالتالي نسأل: من أخرج الفروج والبيض من موائد ملايين السوريين.. التّجار أم الحكومة؟.
حرمان المداجن من المازوت
مع تقنين توزيع المازوت وهو عنصر أساسي في تكلفة الفروج والبيض لجهة رفع أسعارهما، انشغل المحافظون بتلقي شكاوى المربين الخاصة بنقص المادة، وهذا يعني إما شراء المازوت من السوق السوداء وبأسعار باهظة لا تقلّ عن ثلاثة أضعاف سعرها الرسمي، أو بتخفيض الإنتاج، أو باللجوء إلى الخيار الأقسى وهو: إغلاق المدجنة!.
ومن الواضح جداً أن لا وزارة النفط التي تقترح رفع أسعار المحروقات مرة تلو المرة، ولا اللجنة الاقتصادية التي توافق على مقترحات الوزارة تكترث لما لهذا “الرفع” من نتائج كارثية على تراجع الإنتاج وزيادة التكلفة، والأهم والأخطر تدهور القدرة الشرائية لملايين الأسر السورية!.
والفروج والبيض مثالان صارخان على تأثرهما برفع سعر المازوت “المدعوم”، فلم تزدد التكاليف فقط حتى في حال تأمين حاجة المداجن من المحروقات، بل خرجت عشرات المداجن من الخدمة دون أي اكتراث لما آلت إليه الأوضاع من أي جهة حكومية وتحديداً من اللجنة الاقتصادية.. ترى لماذا؟.
ومن الملفت بل والغريب أن ما من جلسة لمجلس الوزراء ناقشت تأثير رفع سعر المحروقات على قطاع الدواجن، ولو فعلتها مرة واحدة لخلصت إلى نتيجة -ربما لا تريد الاعتراف بها رسمياً- وهي: الأسرة السورية محدودة الدخل ستدفع ثمن رفع سعر المحروقات!.
وبما أن وزارة النفط لا تهتمّ بتأمين حاجة الأسرة، وخاصة القاطنة في الجبال، بتأمين احتياجاتها من المازوت بما يتناسب ودخلها، بل وتخفضها إلى 100 أو50 ليتراً، فهي حتماً لن تهتمّ بتأمين حاجة قطاع الدواجن من المازوت، أو برفع أسعار الفروج إلى مستوى أصبح فيه حكراً على المقتدرين مالياً!.
أليس غريباً أن تزعم وزارة النفط أن ليس لديها قائمة بأعداد المداجن وطاقتها في محافظة مثل طرطوس تأتي في المرتبة الأولى في مجال تربية وإنتاج الفروج على مستوى القطر؟ وهل رفع مخصّصاتها من المازوت الزراعي يتطلب تدخل المحافظ؟!.
الاستنتاج الوحيد هنا أن التنسيق إما معدوم بين الجهات الحكومية، أو أن وزارة النفط لا تردّ على طلبات ومذكرات وزارة الزراعة؟.
من المؤسف بل والمؤلم جداً أن ليس لدى أي جهة حكومية حتى الآن رؤية أو خطط معلنة لوقف نزيف قطاع الدواجن وخروج الفروج والبيض من موائد ملايين السوريين!.
حاجة السوق أم القدرة الشرائية!
لقد لفتنا تصريح لأمين سر غرفة زراعة دمشق محمد جنن بتاريخ 13/10/2021 يقول فيه: (ورغم انخفاض أعداد المربين إلا أن الكميات المتوفرة من الدواجن والبيض تكفي حاجة السوق وتزيد، وأن الأمر متعلق بالعرض والطلب، والذي يتعرض للخسارة في هذا الموضوع هو المربي والمواطن).
لكن الواقع الفعلي يكشف أن المعروض من الفروج والبيض أقل بكثير من حاجة ملايين الأسر السورية.. ترى كم عدد الأسر التي بمقدورها شراء فروج واحد بحدود الـ20 ألف ليرة أسبوعياً أو شراء كيلو شاورما “الأكلة الشعبية” سابقاً بحدود الـ30 ألف ليرة؟.
أليس غريباً أن لا وزارة الزراعة ولا اللجنة الاقتصادية ولا المجالس المحلية في المحافظات توقفت ولو لدقيقة أمام ظاهرة شراء الفروج بالقطعة والبيض بالواحدة أو الاثنتين لا بالصفيحة أو نصف الصفيحة؟.
وإذا كانت الحكومة تكرّر معزوفة (هاجسنا تحسين الوضع المعيشي للمواطن) فهل النتيجة تكون بحرمان ملايين الأسر السورية من الفروج والبيض إلا بكميات قليلة جداً بل أقل من الكفاف؟.
لا علاقة للعرض والطلب في سوق الفروج والبيض، فأي مادة لا يقوى على شرائها سوى المقتدر مالياً يعني أن هناك خللاً في معادلة الإنتاج والاستهلاك وفق القدرة الشرائية للمواطنين التي تؤمّن احتياجاته من المواد الأساسية كالفروج والبيض، ودون ذلك هراء بهراء!!.
ما شهدته منتجات قطاع الدواجن خلال الأعوام القليلة الماضية، وتحديداً هذا العام على صعيد أسعار الفروج والبيض، يدفع فعلاً للتساؤل: ماذا تبقّى للأسرة محدودة الدخل والموارد من غذاء أساسي بعد حرمانها تدريجياً من الأساسيات: اللحوم الحمراء فالأجبان والألبان فالفروج والبيض؟ ما حدا بالخبراء إلى طرح مقترح لن يجد طريقه إلى التطبيق وهو (تخفيض تكاليف الإنتاج).
نعم.. يمكن (خفض تكاليف إنتاج منتجات الدواجن بنسبة 70% من خلال خفض تكاليف إنتاج لحم الدجاج بنسبة 30% عما هي عليه اليوم، عبر خفض معدّل نسبة النفوق بالقطعان على مدار السنة، إلى ما يقلّ عن 5%، وتخفيض عامل تحويل العلف إلى ما دون 1.7 وتحسين إنتاجية أمات دجاج التسمين إلى ما يزيد على 135 صوصاً لكل أم بدأت بالإنتاج).
نعتقد أن هذه الإجراءات ستخفض تكاليف الإنتاج فعلياً، في حال استقرار أسعار المازوت والأعلاف أو توفيرهما بسعر مدعوم وكافٍ ومستقر ودائم، في حين الواقع يقول: إن وزارة النفط لم ولن تتوقف عن رفع سعر المازوت، كما أن مؤسّسة الأعلاف لن تتوقف عن رفع سعر الذرة الصفراء، واللجنة الاقتصادية جاهزة دائماً للموافقة على رفع جميع أسعار السلع الأساسية بما فيها المدعومة!!.
هكذا يرد المربون لتجنب الخسائر
منذ بداية العام الحالي وقبل رفع أسعار المازوت والأعلاف برزت مؤشرات تؤكد أن انتكاسة كبيرة ستصيب قطاع الدواجن، وأقدم المربون منذ شباط الماضي رداً على الانتكاسة بذبح أعداد كبيرة من الدجاج البياض، الأمر الذي أدى إلى انخفاض إنتاج البيض وبالتالي ارتفاع سعره خلال أشهر إلى مستويات غير مسبوقة، من 6 آلاف ليرة للصحن في آذار الماضي إلى أكثر من 12 ألف ليرة بل إلى15 ألف ليرة حسب وزنه، وارتفع سعر الفروج من المدجنة من 4 آلاف إلى 6 آلاف في حين يباع الكيلو المنظف بأكثر من 9 آلاف ليرة، وعندما تقوم وزارة التجارة بتسعير البيض والفروج حسب تكاليفها الفعلية فهي عملياً “تشرعن” خروج الفروج والبيض من موائد ملايين الأسر السورية!.
عندما يُقدم مربون على ذبح أفواج الفروج والدجاج البياض ويبيعونها لحماً ولا يريدون التربية مرة أخرى، ومربون يقومون بتخفيض أعداد الأفواج التي يقومون بتربيتها من 50 ألف فروج مثلاً إلى 20 ألف فروج.. فأي مستقبل لقطاع الدواجن إذا كانت ملايين الأسر السورية خفضت استهلاكها من الفروج والبيض إلى مادون حدّ الكفاف اليومي؟.
أرقام قياسية للأعلاف
وبعد المازوت تأتي الأعلاف كمكون أساسي ومسبّب لارتفاع أسعار الفروج والبيض، ومثل المازوت لم تتوقف الأعلاف عن الارتفاع، صحيح أن قلة من التجار تحتكر توريد الذرة الصفراء فتستوردها بدولار رسمي وتبيعها بدولار أسود، لكن الصحيح أيضاً أن اللجنة الاقتصادية توافق من شهر لآخر على رفع أسعار أعلاف الدواجن مثلما تفعلها مع المازوت دون أي اكتراث بالنتائج التي يتحمّل آثارها السلبية قطاع الدواجن من جهة، والأسرة السورية من جهة أخرى، فمع بداية هذا العام وصلت أسعار الأعلاف إلى أرقام قياسية، إذ ارتفع سعر طن الذرة الصفراء من 500 ألف ليرة في حزيران 2020 إلى 950 ألف ليرة مع بداية العام 2021، وارتفع سعر طن فول الصويا من 800 ألف ليرة إلى 1.7 مليون خلال أقل من ثمانية أشهر.
وإذا أضفنا إلى ذلك ارتفاع سعر الصرف كان من الطبيعي أن ترتفع أسعار الفروج والبيض دون أن تُعقد جلسة حكومية واحدة لمناقشة الإجراءات الضرورية لإسعاف قطاع الدواجن و.. الأسرة السورية!!. ومع أن هناك من حذّر منذ عشرة أشهر بأن وضع المربين سيصبح مأساوياً في حال لم تقم الحكومة بتقديم دعم الأعلاف للمربين، فقد تمّ حرمان قطاع الدواجن من احتياجاته الفعلية سواء المازوت أو الأعلاف!.
أكثر من ذلك.. لم تهتمّ إدارة المؤسسة العامة للأعلاف بعبارة أسعار غير مسبوقة للأعلاف، فأصدرت بتاريخ 9/7/2021 القرار 36 القاضي برفع أسعار مبيع سعر الطن الواحد من الذرة الصفراء إلى مليون وخمسين ألف ليرة. ومع ذلك، وزارة الزراعة مثل وزارة النفط تعلنها صراحة: الدعم يكون حسب المتوفر لا حسب الحاجة!!.
بشرى سيئة
المذهل في أزمة أسعار منتجات قطاع الدواجن أن الجهات الحكومية المعنية بشكل مباشر على دراية تامة بما كان سيحصل، فهي قرأت المؤشرات جيداً لكنها لم تفعل شيئاً لأنها تعوّدت على تنفيذ التوجيهات التي تأتيها من الحكومة، فمثلاً كان يمكن لوزير الزراعة أن يطلب إدراج مستقبل قطاع الدواجن على جدول أعمال جلسة أو أكثر لمجلس الوزراء لمناقشة المقترحات أو انتزاع قرارات تمنع تدهور اندلاع نيران أسعار الفروج والبيض، لكنه لم يفعلها حتى الآن، وكأنّ ما يجري لا يعني الوزارة مطلقاً أو يجري في بلد آخر!!.
وها هو مدير منشأة دواجن حمص يبشّرنا في 17/8/2021 بأن (أسعار الفروج ستشهد ارتفاعاً ملحوظاً في الفترة القادمة، وذلك بسبب عزوف عدد كبير من المربين عن تربية الفروج في مزارعهم، نتيجة ظروف التربية الصعبة المتجلية بغلاء أسعار الأعلاف “الصويا والذرة” لأن استيرادها متعلق بسعر الصرف، وكذلك ارتفاع أسعار الأدوية البيطرية اللازمة للعناية بالصيصان حتى مرحلة الفروج، هذا عدا عن انقطاع التيار الكهربائي وانعكاساته السلبية سواء على المربين أو المنشأة، حيث تحتاج المولدات عند تشغيلها لفترات طويلة إلى الصيانة وتحتاج إلى كميات كبيرة من المازوت للتشغيل. بالإضافة إلى أن كلفة الصوص الواحد 1100 ليرة ومنذ حوالي أسبوع فقط ارتفع سعره ليصل إلى 800 ليرة حيث كان يباع بـ 250- 300 ليرة، أي أن كلفة الكيلو الواحد من الفروج تبلغ 4700 ليرة، وكان يباع منذ فترة في السوق المحلية بـ3500 ليرة أي أقل من سعر الكلفة).
هذا التشخيص الدقيق جداً لواقع قطاع الدواجن على لسان جهة حكومية لم يستأثر باهتمام أي جهة صاحبة قرار بمنع حدوثه.. فماذا كانت الحصيلة؟.
الخلاصة..
التدخل الإيجابي لا يكون بطرح كميات غير كافية من الفروج في صالات “السورية للتجارة” بسعر 6 آلاف ليرة للكيلو، وإنما باتخاذ إجراءات وتقديم دعم وتسهيلات لقطاع الدواجن تمنع ارتفاع سعر منتجاته عما كانت عليه في عام 2017 على الأقل!.
إنها أضحوكة ومهزلة أن نصدر قرارات تُشعل نيران الأسعار لتصل إلى مستويات غير مسبوقة ثم نطرح كميات منها في صالات “السورية للتجارة” بسعر لا يناسب القدرة الشرائية، لنزعم من خلالها أنها أقل من سعر السوق!!.
الحل الوحيد كان ولا يزال برفع دخل الأسرة بما يتناسب مع رفع أسعار جميع السلع والخدمات.
علي عبود