يبدو أن السيناريوهات المحتملة لإعادة هيكلية الراتب ومتمماته حسب ما صرحت به الحكومة مؤخراً لم تحصد تفاؤلاً أو ارتياحاً في أوساط الشرائح المستهدفة من موظفي القطاع العام، إذ لا ترق النسب المدروسة لمستوى الحلول المجدية للتصدي للأزمة المعيشية الراهنة التي يعاني منها كافة المواطنين وعلى وجه الخصوص موظفي القطاع العام لانخفاض دخولهم الشهرية مقارنة بارتفاع معدلات التضخم، ما أدى لتدني واضح بالقدرة الشرائية، فرغم الزيادات الأخيرة لا تزال الرواتب المقطوعة بحدود المائة ألف ليرة فقط، والصافي أقل بكثير لاسيما في حال التزام شريحة كبيرة بقروض أو أقساط شهرية، وذلك في ظل تضاعف أسعار المواد الغذائية ومستلزمات المعيشية عدة مرات إذ بلغت نسبة التضخم في معظم السلع أكثر من 50 ضعفاً، بينما الرواتب ازدادت بنسبة 3.6% فقط .
تقديرات ..
تشير التقديرات المتداولة حول تكلفة الغذاء فقط للأسرة شهرياً المنسوبة لأحد خبراء الاقتصاد بنحو 800 ألف ليرة سورية، دون حساب تكلفة اللباس والدواء أو الظروف الطارئة، وهي قيمة منطقية تبعاً لأسعار السلع، ما يعني أن ما ينشر حول دراسة منح التعويضات على الراتب الحالي، أو فتح درجة في سلم الرواتب لمن وصل إلى سقف الراتب، ستكون حلول مجتزئة ولن تثمر عن تغير حقيقي يطال قيمة الراتب أو أدائه الاقتصادي بتحسين القدرة الشرائية وتحريك الأسواق، وكثيراً ما سبق إشاعات الزيادة مطالبات بضرورة ضبط الأسواق وجنون الأسعار بدلاً من زيادات غير مجدية تتآكل قبيل صدورها.
مقارنات..
هناك العديد من الدراسات الاقتصادية تؤكد أن بناء الرواتب والأجور مرتبط بمعدل الأسعار، والتي تعتمدها معظم الدول نظراً لأهميتها في تحسين القدرة الشرائية وضمان دوران رأس المال في الأسواق، وبالتالي زيادة الاستهلاك مقابل زيادة الإنتاج المحلي ونشاط الأسواق.
كما يمكن اعتماد مؤشر الفقر في البلدان النامية لبناء الرواتب، فبحسب تقرير صندوق النقد الدولي يتراوح مؤشر الفقر بين 1 إلى 2.5 دولار كمصروف يومي للفرد، والذي يتم بعد احتساب الأسعار الحقيقية في البلدان لقياس معدلات الفقر، ويعادل المؤشر بحسب سعر العملة المحلية نحو 90 ألف ليرة سورية للفرد الواحد شهرياً، ولأسرة مؤلفة من خمسة أفراد ما يقارب 1.3 مليون ليرة شهرياً كحد أدنى للفقر، ولكن ورغم كثرة الدراسات الاقتصادية والمؤشرات العالمية التي يمكن الاستناد إليها في عملية إصلاح الرواتب يبدو أن الحكومة لم ترغب في اعتمادها واقتصر التعديل على مقارنات ما بين الواقع والأمس في مجال التعويضات الشهرية فقط أو الحوافز أو قيم اللباس أو الوجبات الغذائية التي تصرف للعمال والموظفين في القطاع الإنتاجي، والتي لا تتعدى قيمتها بضعة آلاف بعد الزيادات الأخيرة، ومنها ما يصرف على أساس راتب عام 2011 أو ما قبله وبنسب ضئيلة، وبالتالي أن تكتفي بمنحها على أساس الراتب الحالي لن تحل الإشكالية بحسب بعض الموظفين كون طبيعة العمل التي يتقاضونها تتراوح بين 6% و12% للغالبية العظمى و40% للمدرسين على سبيل المثال، متسائلين إذا تم رفع التعويضات بنسبة 100% هل ستصل براتب الموظف للحد الأدنى – وليس المتوسط – لتلبية مستلزمات معيشته الشهرية، ناهيك عن ضآلة الراتب الذي سيتم اعتماده كأساس لعملية المنح وهو كمبلغ نقدي غير كاف لمدة لا تتجاوز الأسبوع كحد أقصى، وفي حال تم التعديل تبقى قضية رواتب المتعاقدين وهم غير مشمولين بذلك الترميم ولا يصرف لهم تعويضات أو حوافز، ورواتبهم الشهرية أقل ما يمكن اعتبارها مكافئة رمزية لنهاية الخدمة؟!
بالأرقام
في حساب مبسط وفقاً لعدد كبير من الموظفين بينوا أن أجور النقل تكلفهم وسيطاً نحو ألفي ليرة في اليوم الواحد، وبالتالي خمسون ألف ليرة شهرياً للمواصلات، وتكلف ربطة خبز واحدة بسعرها المدعوم ستة آلاف ليرة في الشهر، وبغير السعر المدعوم ترتفع القيمة لحدود 15000 ليرة، كما يكون استهلاك الأسرة بشكل وسطي للغذاء ولتكن على سبيل المثال استهلاك وجبة واحدة لمادة البطاطا يومياً تكلف نحو 90 ألف بمعدل كيلو ونصف وبسعر 1500 ليرة علماً أنه سعر وهمي مقارنة بسعره الحالي بالأسواق، يضاف إليها ما يقارب 34 ألف ليرة ثمناً لـ4 ليتر من مادة الزيت بسعر 8500 ليرة، فهل تغيب عن الحكومة حقيقة هذه التكاليف الأساسية لمعيشة الأفراد، علماً أن هناك العديد من الأساسيات التي يجب إضافتها إلى عملية الحساب لرفع مستوى المعيشي للمواطنين.
التمويل بالعجز..
الخبير الاقتصادي الدكتور علي كنعان أكد أن إصلاح الرواتب والأجور يكون على الرواتب بشكل أساس وليس متمماته كونها ملحقة به، وباعتبار أن نسب التضخم عالية جداً فيجب أن تبدأ المعالجة بإقرار زيادات متتالية على الراتب عن طريق التمويل بالعجز – الإصدار النقدي – كونها ستنعكس مباشرة في حركة نشطة في الأسواق ما يعني تنشيط الواقع الاقتصادي وتحفيز زيادة الإنتاج المحلي، فمعدلات التضخم العالية ناتجة عن ارتفاع كبير في الأسعار لتدني القدرة الشرائية وكساد بعض السلع، أو لنقص في المواد الأولية أو استيرادها بأسعار مرتفعة، فالزيادات السريعة المتتالية من شأنها أن تسبق معدلات التضخم وإن احتاجت لبعض الوقت، وفي معرض رده عن أضرار التمويل بالعجز بين كنعان أنه يحصد أضرار اقتصادية عندما يمول قطاعات خدمية لا تؤدي لزيادة الإنتاج، ولكن في حال تم لجهة إصلاح الرواتب والأجور فعلى العكس تماماً سيثمر عن نتائج جيدة كون كتلة الرواتب والأجور ستدخل في الأسواق وتزيد الإنتاج الوطني من خلال ارتفع عمليات البيع والشراء وازدياد الطلب على المنتجات المحلية بغض النظر عن سعرها كون الدخل قادر على تلبية حاجيات الفرد استناداً لتجارب بلدان مختلفة اعتمدت ذات المبدأ، كما أكد ضرورة إلغاء الدعم عن السلع المدعومة بشكل سريع ومباشر، وتوجيه قيمة الدعم للمستحقين نقداً، إذ بين أن الإعانات في الموازنة تقارب 5.5 تريليون فإلغاء الدعم وتوزيعه على الرواتب في سورية يزيدها بمقدار 300%، وبالتالي فإن إصدار زيادة أولى على سبيل المثال بمقدار 100% بالتوازي مع تقديم دعم للأسر التي لا تملك معيل بقيمة مئة ألف ليرة شهرياً، ستنتج مبلغ إجمالي لا يتجاوز ملياري ليرة ويحقق وفر بمثل قيمته للموازنة، على أن تعاد الكرة في فترة قريبة زمنياً من الزيادة الأولى لتحقيق قفزة نوعية في الرواتب والأجور وبالتالي تتجاوز نسب التضخم بشكل ملحوظ.
زيادات عينية
بالمقابل اعتبر بعض الخبراء أن النسبة التي ستقرها الحكومة على الرواتب مهما بلغت لن تصل إلى حد الكفاف للمواطنين، بل سيبقى معظم موظفي القطاع العام بشكل خاص كون نظيره القطاع الخاص والأعمال الحرة واكبت التضخم، وتناسبت رواتبها أو مدخولها اليومي مع الأسعار الراهنة، سيبقون داخل دوامة الراتب والقدرة الشرائية له، وتساءل الخبير الاقتصادي عامر شهدا بناء على ما تقدم هل يمكن للحكومة تقديم زيادة مكافئة للأسعار الحقيقية لتحقيق توازن نسبي بين الدخول والأسعار لاسيما في ظل وجود عجز يقدر بأربعة تريليون ليرة؟ وبالتالي إن لم تكن الزيادة موازية لنسب التضخم مع تثبيته، فكيف تم دراسة نسب التعديل ولاسيما وأن أي زيادة ستقر على الراتب ستؤدي إلى تضخم جديد ولن تحل الزيادات عن طريق المنح أو النسب البسيطة هذه الإشكالية، فالواقع يتطلب حلولاً جذرية مستندة للواقع الحالي، فالحل المطروح غير مجدٍ سيما وأن الحكومة اخفقت في معالجة ارتفاع الأسعار المتتالي اليومي والتضخم الموازي لها في حال إقرار زيادة، فما يتم طرحه لا يعتبر حلاً وبالتالي لن يكون هناك رفع قيمة الاستهلاك أو زيادة الإنتاج، وما يتم هو عبارة عن حلول جزئية لفترة لاتتجاوز 15 يوم على الأقل لتعود الكرة من جديد، ويدخل الموظفين في دوامة المطالبة بزيادة أخرى، وأكد شهدا أن الأفضل من الزيادة المنتظرة هو القيام الحكومة بتوزيع سلل غذائية على المواظنين وتقديم المشتقات النفطية دون دفع مبالغ مادية بقيم مالية توازي مقدار الزيادة المزمع إصدارها لتلافي استغلال التجار للأمر والإقدام على رفع الأسعار وزيادة معدل التضخم، واعتماد مبدأ الزيادة عينية بدلاً من زيادات نقدية ستزيد العجز والتضخم ولن تحقق الغاية المرجوة منها.