فرصتا التعليم والعمل حق وواجب لكل مواطن، ومدعاة للسرور والفخر أن السلطات الرسمية بذلت منذ عقود مضت – ولا زالت تبذل – جهودا كبيرة لجعل فرصة التعليم متاحة للجيل الناشئ على كامل ساحة القطر، إذ ما من حي ولا قرية يخلو من مدرسة، بل توجد في جميع الأحياء والقرى الكبيرة أكثر من مدرسة ( تعليم أساسي حلقة أولى + تعليم أساسي حلقة ثانية + ثانوية )، وتم توسع انتشار الجامعات، بحيث يندر أن تخلو محافظة من كلية أو معهد، وسبق أن تم إحداث مدارس متنقلة مع البدو الرحل لتمكين أطفالهم من فرصة التعليم..
ومنذ سنوات خلت تم اعتماد التعليم الإلزامي المعتمد والمتابع في جميع المحافظات، وصدر إقرار الترفيع من صف لآخر حتى دخول الحلقة الثانية من التعليم الأساسي، ومن ثم إقرار واعتماد قبول جميع الناجحين في الثالث الأساسي في الحلقة الثانوية ( تعليم عام + تعليم مهني بأنواعه: صناعي – تجاري – زراعي – سياحي..) بالتتابع مع إقرار واعتماد قبول كافة الناجحين في الشهادة الثانوية في الكليات والمعاهد…
وترافق ذلك بتنظيم حملات دائمة لتعليم الكبار ومحو الأمية، وقد تم تحقيق محو الأمية في أكثر من محافظة، فالدولة تتحمل نفقات كبيرة جدا على التعليم في كافة مستلزماته (أبنية وأثاث ووسائل تعليمية ومعدات وآليات ورواتب كوادر تعليمية وإدارية..).
وقطعا لاحتمال وجود قصور في تحقيق فرصة التعليم لأحد بشكل أو بآخر، فقد شرعت السلطات الرسمية بافتتاح مدارس وكليات التعليم الخاص،ومن المعروف أن نسبة عالية من الميزانية مخصصة للتعليم، وقد كادت هذه النسبة تقارب خمس الميزانية العامة للدولة في أكثر من عام، وفقا للأرقام الواردة في المجموعات الإحصائية.
هذا الاهتمام الرسمي تواكب مع اهتمام شعبي، إذ اندفعت جميع الأسر السورية لتعليم أبناءها، ورغم مجانية التعليم في كافة مراحله، فلدى كثير من الأسر نفقات كبيرة على أبنائها في كافة المراحل التعليمية، وإن كانت الدولة تنفق – بعض السنوات – ما يقارب خمس ميزانيتها على التعليم، فكثير من الأسر تنفق أكثر من هذه النسبة من دخلها على تعليم أبنائها، وخاصة بعد انتشار ظاهرة التعليم الخاص المرخص، والتعليم المنزلي المسمَّى بالساعات الخصوصية الذي أصبح شائع الانتشار منذ السنوات الأولى من عمر الأبناء، بدءا من رياض الأطفال وانتهاء بالشهادات الجامعية العليا، وهنا لا يغيب عن البال التراجع المذهل والخطير للحالة التعليمية في المناطق التي اجتاحها الإرهاب خلال السنوات العشر الماضية، هذا التراجع الذي أسفر عن حرمان مئات آلاف الناشئة من فرصة التعليم، وشيوع انتشار الأمية مجددا، ولكن الأمل متواكب مع العمل لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة في المناطق التي تم تحريرها، والتحضير لذلك عقب التحرير المرتقب للمناطق التي لا تزال رهن الإرهاب، الأمر الذي سيرتب على السلطة نفقات كبيرة، لكن رغم هذا ستعتبرها من أولوياتها.
من التمعن بهذا الكم الكبير الكثير من الإنفاق الرسمي والشعبي على فرصة التعليم، نجد أن هذا الإنفاق يثقل الكفة الأولى من الميزان، بينما نجد أن الكم الأصغر والأقل من الإنفاق الرسمي والشعبي على فرصة العمل- وعلى العكس مما هو مفترض – لا يثقل الكفة الثانية لتتوازن مع الكفة الأولى، لا بل من الموجب أن تزيد عنها بكثير من الوزن، ولكن الملفت للانتباه أن استعدادات السلطات الرسمية لرصد وإنفاق مبالغ مالية لتأمين فرص عمل لمن تأمنت لهم فرصة التعليم، هي دون المستوى المطلوب المأمول والموعود، فالاستعدادات الرسمية الواجبة الإعداد والإقرار والتنفيذ في ميدان إحداث جبهات عمل بما يوازي ما تم ويتم إحداثه من جبهات تعليم – لتشغيل أولئك الذين تم إنفاق مبالغ كبيرة على تعليمهم- أقل مما يجب، فالتوسع في إحداث جبهات عمل في القطاع العام قليلة، لا بل عشرات جبهات العمل الموجودة سابقا ضمرت أو رهن الضمور، والعمالة الجديدة التي يتم استيعابها في القطاع العام أقل بكثير مما تخرجه الكليات الجامعية، إذ من المعروف أن مئات آلاف العمال ( قرابة 300 ألف عامل)، يدخلون ميدان العمل مجددا كل عام، وهم من خريجي الكليات والمعاهد والمدارس الفنية والمتسربين من المراحل الدراسية، ولكن الذين يتم استيعابهم سنويا في إدارات القطاع العام، يتراوح حول عشر هذا العدد، ولا جدال أن فرص العمل في القطاع الخاص والأهلي تستوعب أعدادا غير قليلة من العاملين الجدد، ولكن كثيرون منهم يشكون من ضعف توفر هذه الفرصة.
هذا القصور في الإعداد لفرصة العمل لا ينحصر فقط بالسلطات الرسمية، بل الملفت للانتباه أن نسبة كبيرة من الأسر التي تنفق مبالغ كبيرة على تعليم أبنائها، يندر أن تخصص أية مبالغ مماثلة أو أقل لتأمين فرص عمل لهم، بل ربما تعمد بعض الأسر لبيع بعض ممتلكاتها لإنفاقها على تعليم أبنائها، ولاحقا تتهم الدولة بقصورها عن تأمين فرصة لأبنائها المتخرجين، وتنسى قصورها هي بالذات، فلو عملت السلطات الرسمية والجهات الشعبية على إيلاء الإنفاق على تأمين فرص العمل، على غرار الإنفاق على تأمين فرصة التعليم، لما كانت البطالة بالحجم التي هي عليه، ولما كانت الشكوى قائمة من ضعف إنتاج الكثير من المواد وارتفاع أسعارها، فليكن الهم الرسمي والشعبي باتجاه العمل لتحقيق التوازن بين كفتي الإنفاق على فرصة العمل وعلى فرصة التعليم معا.
هذا المقال منشور في صحيفة البعث /صفحة اقتصاد / ليوم الجمعة 26/ 11 / 2021