يقول مهندس عمل باليابان: «كنت في زيارة إلى شركة قطارات الرصاصة (شين كان سن) والتي يفخر بها اليابانيون ويعتبرونها أحد عوامل النهوض الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية». طرحت سؤالاً: «لماذا لم تتمكنوا من تحقيق المركز الأول عالمياً في سرعة القطارات رغم كل ما حققتموه من تقدم تقني؟» أجاب المسؤول الياباني : «لأن تحقيق المركز الأول عالمياً في سرعة القطارات ليس من أولوياتنا! فبالنسبة إلينا معايير السلامة وحياة ركابنا أهم من المركز الأول».
في الواقع منذ بدء تشغيل قطار الرصاصة في عام 1964 وعلى مدى أكثر من نصف قرن نقلت فيه هذه القطارات أكثر من عشرة مليارات مسافر لم تسجل حالة وفاة واحدة. كمثال عملي، في 2007 وقع زلزال في غرب اليابان بقوة ست ونصف درجات تسبب في خروج قطار الرصاصة من مساره من دون وقوع أي إصابات بشرية، وبالرغم من ذلك، فقد اعتبر المهندسون اليابانيون أن خروج قطار يسير بسرعة مئتين كلم/ ساعة بسبب زلزال مهما كان قوياً خطأ لا يغتفر ومشكلة يجب حلها فوراً.
وخلال فترة وجيزة، تم تفعيل نظام جديد لاستشعار الموجات التي تسبق الزلازل ببضع ثوان، يتم خلالها عبر مركز التحكم الرئيس تخفيض سرعة جميع القطارات بشكل آلي حال رصد هذه الموجات بحيث لا يقع الزلزال إلا والقطار شبه متوقف مما لا يتسبب بخروجه عـن مساره، وفي زلزال (توهوكو) آذار- 2011 بقوة تسع درجات ومع وجود أكثر من ستمائة وسبعين قطاراً سريعاً في المناطق التي ضربها الزلزال، ظهر أثر النظام الجديد، فلم تسجل حادثة واحدة ولم يخرج أي قطار عن مساره.
سبب طرح قصة قطار الرصاصة هو دعوة للتفكير في الأولويات بالنسبة للمدير، فأصحاب النظرة الضيقة والمحدودة لن تتجاوز اهتماماتهم تحقيق الأرباح المباشرة وتقليل التكاليف حتى لو أثر ذلك على الجودة والسلامة، وربما حصلوا على إشادة وعلاوات رغم أنهم يخاطرون بمستقبل الشركة على المدى الطويل.
بالمقابل، فالمديرون الذين يمتلكون المسؤولية والرؤية سيفكرون بمصلحة الشركة والمنظمة على المدى البعيد.
ومن غير المستغرب أن تجد بعـض المديرين يبحثون عن سبق إعلامي ويركزون موارد المنظمة لتطوير أسرع قطار في العالم ولو على حساب الأمن والسلامة.
بالنسبة لأي مسؤول، فتحقيق مؤشرات الأداء والأهداف قصيرة المدى شيء أساسي؛ ولكن هنالك أوقات يجب أن يتحلى فيها بالشجاعة للتضحية بالمكاسب السريعة لتحقيق مصالح أهم للمنظمة على المدى البعيد.
مثال آخر: كانت طائرة ركاب تطير في طريقها عبر المحيط الأطلنطي في خط مستقيم ؛ ظهر لها فجأة طائرة حربية سريعة.
يبطئ طيار الطائرة المقاتلة الشاب ويطير بجانب طائرة الركاب ويقول لقائدها بالراديو: رحلتك مملة بطيئة … أليس كذلك؟ انظر ماذا سأفعل…! ويقوم الشاب بالمناورة بطائرته ثم يتسارع ويصعد بسرعة للأعلى وينزل في عرض استعراضي خلاب..
بعدها مرة أخرى يطير بجوار طائرة الركاب وسأل قائدها: حسناً كيف رأيت ذلك.؟
يجيبه الطيار: استعراضك يا بنيّ مثير للإعجاب للغاية.. لكن ألق نظرة علينا هنا … لتر ما يمكنني فعله ولا يمكنك فعله..!
راقب طيار المقاتلة طائرة الركاب؛ لكنه لم يرى شيئاً يحدث..! تستمر طيارة الركاب في الطيران في خط مستقيم وبنفس السرعة…
بعد خمس دقائق أجرى طيار طائرة الركاب اتصالاً لاسلكياً مع طيار المقاتلة وسأله: حسناً ماذا تقول الآن.؟ يسأله قائد المقاتلة: ولكن ماذا فعلت!
يضحك طيار طائرة الركاب ويقول: نهضت وحرّكت ساقي.. وذهبت إلى مؤخرة الطائرة إلى الحمام وأخذت فنجان قهوة ؛ وكعكة بالقشدة… وأنتَ لا تستطيع عمل أي من الذي قمت به أنا.
المغزى من القصة هو: عندما تكون غـراً تبدو السرعة والاستعراض: رائعين … ولكن مع اكتسابك للحكمة والمعرفة.. تفهم قيمة الراحة والسلام والهدوء…
أتصور حان الوقت للإبطاء من اندفاعنا؛ وتهوّرنا.. والاستمتاع ببقية رحلتنا بالحياة بهدوء وسلام.
بالختام وفي المواقف الصعبة عـلى المدير قبل اتخاذ قراره أن يتخيل نفسه في قطار الرصاصة، ويسأل نفسه بكل صدق: «هل أولويتي هي السرعة أم سلامة الركاب؟».