الجرح القديم النازف لا يندمل بجراحة سريعة عادة.. هذه هي حكاية ملف الدعم الذي طالما كان جرحاً نازفاً، وكانت الإشكالية في علاجه دوماً مختصرة بجملة قصيرة “إيصال الدعم لمستحقيه”..
نعلم أن لا أحد في هذا البلد يرى أنه لا يستحق الدعم بشكل أو بآخر مهما كان ميسوراً، وأن المعادلة تتخذ بعداً جراحياً صعباً..لكن قبل الانشغال في مثل هذه التفاصيل المسكونة فعلا “بالشياطين” دعونا نبحث في الطرف الآخر من المعادلة، وهي الإدارة الحكومية لهذا الملف الصعب.. أي ليس لجهة الإصلاح وإنما الإدارة قبلاً..
و اسمحوا لي أن أعود بالذاكرة لأكثر من ٢٠ عاماً وأتحدث عن تجربة شخصية في عملي كصحفي – ولا أرغب بالحديث عن التجارب الشخصية لأن بعضهم حوّلها إلى استعراضٍ بغيضٍ – لكن ضرورة الموقف الراهن اقتضت النبش في الذاكرة..
اتصل بي وزير التموين حينها لأمر قال أنه سيشرحه مع فنجان القهوة، لبيت الدعوة لأجد أن الأمر يتعلق بالتفكير بتخفيض دعم السكر لأن الفاتورة باهظة والموقف يقتضي التصرف بحكمة، ولابد من توطئة إعلامية للقرار..
سألت الوزير عن رقم “عجز السكر” لكن لم يكن لديه تفاصيل، فتواصل مع وزير المالية الذي دعاني بدوره للقهوة في مكتبه وهناك بدأت الحكاية.. تحدث الوزير المهايني – رحمه الله – عن عجز السكر أو فاتورة الدعم وكشف عن أنها تزيد عن ١٦ مليار ليرة سورية وهو رقم كبير جداً في موازنة سنوية ربما لم تكن وصلت إلى 3٠٠ مليار ليرة آنذاك..
رغم أن الرقم كان بعد أن تم تخفيض حصة المواطن من السكر المدعوم من ١،٥ كيلو إلى ١ كيلو شهرياً..وبقسمة العجز على ١٢ كيلو في السنة مضروباً بعدد السكان الإجمالي..كان الناتج أكبر بكثير من مجرد ١٢ كيلو للفرد الواحد..سيما وأن مؤسسة التجارة الخارجية “تافكو” كانت تستورد الكيلو واصل أرض المرفأ بسعر يعادل ١٢ ليرة سورية فقط.. أي ثمة فروقات كبيرة وخلل في المعادلة استوجب مزيداً من البحث والتدقيق بعيداً عن المعطيات ” الدوغمة” التي أوردها الوزيران، وكانت المفاجأة !!!
ما تبيّن لنا من سجلّات مديرية الأسعار في وزارة التموين، أن الرقم الإجمالي لعجز دعم السكر لم يكن متأتياً من مبلغ ١٢ ليرة للكيلو..وإنما من كلف تصنيع السكر محلياً..وقد حصلت على الأرقام بدقة..فمثلا كلفة تصنيع الكيلو في معمل سكر تل سلحب وصلت إلى ٥٤ ليرة سورية، و في باقي المعامل لم تقلّ الكلفة عن ٤٠ ليرة..أي كان مصدر العجز ليس المستهلك النهائي، وإنما خلل كبير يبدأ من نسبة الحلاوة المتدنية في الشوندر المحلي، والاهتلاكات في المعامل والهدر، وتكاليف سوء الإدارة والفساد إن وجد..كلّها شكلت وسطي الكلفة الذي زاد عن ٤٥ ليرة وبالتالي ظهر رقم الـ ١٦ مليار كرقم عجز إجمالي..
الحادثة أو المثال يقودنا إلى سؤال ملح عن رقم عجوزات الدعم الرّاهنة، التي شكلت بمجملها مبلغ ٩ تريليونات ليرة في موازنة العام ٢٠٢٢ ، وهو رقم هائل فعلاً في موازنة بلغت أكثر بقليل من ١٣ تريليون ليرة..فهل حسبنا الرقم بشكل صحيح..هذا هو السؤال الذي علينا الوقوف عنده..ونحن نتوجه نحو إصلاح التشوّه في هيكليّة الدعم، وهو توجّه ضروري ولا بدّ منه ولا يجوز أن يبقى بشكله الحالي؟؟
ففي دراسة لأحد المتخصصين تبين أن “سرقة” ١٠٠ غرام من وزن ربطة الخبز الواحدة، ينتج في المحصلة ٧٥ ربطة خارج الحسابات لصالح صاحب الفرن أو مديره..وبعض الأفران الحكومية تخبز في اليوم ٣٥ طناً من الدقيق ..وبعض الأفران ” تأكل” ٢٠٠ غرام في الوزن من خلال زيادة نسبة رطوبة الرغيف والتلاعب بمعادلة الإنضاج..إضافة إلى التلاعب باستهلاك الوقود والخميرة وووو، وللأكياس حكايتها الطويلة أيضاً…كل ذلك ينتج في المحصلة رقم عجز الخبز ” الدعم” الذي يقارب 2500 مليار ليرة سنوياً، لتصل كلفة إنتاج الربطة الواحدة إلى ١٨٠٠ ليرة،..ويكون الفارق بين سعر البيع والكلفة هو مبلغ الدعم المحسوب على المستهلك.. فهل تأكدنا فعلاً من التكلفة، وهي تبدو معقولة بالمقارنة مع السعر لدى دول الجوار رغم أن الجودة هناك أفضل..لا نشكك بل نسأل؟؟
وفي قطاع الكهرباء هناك ضياعات واهتلاكات يطول شرحها ..المسؤول عنها ليس المواطن بل كل المفاصل الفنية العاملة في هذا القطاع العملاق..وتشكل كل هذه الضياعات في الأدوات والتجهيزات ونتائج الممارسات الخفية ..فاتورة دعم سنوية وصلت إلى أكثر من ٣ تريليون ليرة.. وهو رقم مقلق بالفعل.
الآن لا بأس بالعمل على هذا الملفّ لجهة مخرجاته، لكن الأهم بعد أن ننتهي من المهمة، أن تتوجه الحكومة للبحث في تفاصيل أخرى..ولعلها المهمة الصعبة التي لا نستطيع إخفاء توجساتنا من عدم قدرة حكومتنا على إنجازها، لأنها – باختصار – تندرج تحت العنوان الذي يشكل فوبيا لأي حكومة هو مكافحة الفساد..نعم الشطارة في مكافحة الفساد داخل منظومة الدعم…فلتستعد الحكومة بوزاراتها المعنية إذاً للشطر الثاني – الأصعب – وهي الآن تحت الاختبار.
الخبير السوري