* زياد غصن
تضييق تركيا مائياً على جارتيها العربيتين هو سياسة تركية عمرها عقود طويلة من الزمن، تقوم على خفض كمية المياه المتدفقة عبر نهري الفرات ودجلة إلى كلٍّ من سوريا والعراق، الأمر الذي تسبَّب، وما زال، بخروج مساحات واسعة من دائرة الاستثمار الزراعي في كلا البلدين، فضلاً عن إلحاق ضرر كبير بمشروعات جر المياه، سواء المخصصة للشرب أو لري المزروعات أو لإنتاج الطاقة الكهربائية.
الإجراء التركي ليس جديداً أو وليد هذه الفترة، إذ إن التلاعب بحصص دمشق وبغداد من مياه نهري دجلة والفرات شكَّل سياسة لازمت عمل جميع الحكومات التركية المتعاقبة منذ عدة عقود، رغم وجود عدة اتفاقيات ومذكرات تفاهم يعود تاريخها إلى ما قبل 100 عام، آخرها كان الاتفاق الشهير الذي أُبرم بين الدول الثلاث في العام 1987 لتقاسم مياه النهرين.
ربما تكون الفترة الوحيدة التي خرجت فيها أنقرة عن سياستها العدائية هي عندما تقاربت مع دمشق إلى درجة الانفتاح الكامل خلال النصف الثاني من العقد الأول من القرن الحالي، لكن إذا كانت إثيوبيا تبني سداً ترى فيه الخرطوم والقاهرة تهديداً مباشراً لأمنهما المائي، فما الذي يدفع أنقرة إلى التلاعب بحصص جارتيها العربيتين في هذه المرحلة على الأقل؟ وهل لذلك علاقة مباشرة بتدخلها العسكري غير الشرعي في كلٍّ من سوريا والعراق؟
100 عام من القرصنة
تظهر بيانات منظَّمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة أنَّ سوريا واحدة من 5 دول عربية تزيد فيها نسبة اعتمادها بشكل كبير على المياه الواردة من خارج حدودها، إذ تبلغ تلك النسبة نحو 72.4%، في حين تصل تلك النسبة في العراق إلى نحو 60.8%، وترتفع إلى 98.3% في مصر، وموريتانيا 96.5%، والسودان 96.1%.
وتذهب التقديرات البحثية المتخصّصة إلى أنَّ كمية المياه الخارجية المتجددة، والمتدفقة إلى المنطقة العربية من أنهار وخزانات جوفية خارجية المنشأ، تصل إلى 129 مليارَ م3 سنوياً، مقابل نحو 91 مليارَ م3 من أنهار وخزانات جوفية. وبحسب التقرير الاقتصادي العربي للعام 2021، فإن “التحديات المتزايدة التي تواجهها بعض الدول العربية فيما يخص حقوقها في مياه الأنهار المشتركة مع دول الجوار، وخصوصاً على أنهار النيل ودجلة والفرات”، تشكل واحدة من 5 عوامل أساسية مسؤولة عن تفاقم أزمة المياه في الدول العربية، بل إنَّ البيانات الرسمية السورية تؤكد بوضوح تراجع المساحات المزروعة والمروية.
ووفقاً لما جاء في التقرير الوطني للتنمية المستدامة في سوريا، الذي يرصد تحولات السنوات الخمس الأولى من عمر الأزمة السورية (2011-2015)، إنَّ “قيــام تركيـا، وبشــكل مخالــف للاتفاقــات الثنائيــة الموقعــة بخفض الحصــة الســورية مــن نهــر الفــرات لأســباب سياســية”، كان أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى تراجع ملحوظ في المساحات الزراعية المستصلحة والمروية بين عامي 2011 و2015. وكذلك الأمر بالنسبة إلى حصة سوريا من مياه نهر دجلة، وهو ما أدى إلى توقف تنفيذ مشروع ري وادي الخابور، الذي كان يستهدف أكثر من 250 ألفَ هكتار من الأراضي الزراعية في تلك المنطقة.
3 نقاط رئيسية يمكن استنتاجها من تطورات التعاطي التركي مع ملف مياه نهري الفرات ودجلة:
– النقطة الأولى تتمثل بارتفاع منسوب مياه النهرين خلال فصل الشتاء، نتيجة ارتفاع كمية المياه التي يجري تمريرها من قبل الجانب التركي بفعل الفيضانات المتشكلة جراء الهطولات المطرية وذوبان الثلوج، أي أن الأمر خارج عن إرادة أنقرة، ولا يمكن أن يشكّل بأي حال من الأحوال معياراً لتقييم مدى التزام الحكومة التركية بالحقوق المائية المشروعة لكل من سوريا والعراق.
– النقطة الثانية، وهي جوهر المشكلة، وتتعلق بخفض كمية المياه المتدفقة إلى نهري الفرات ودجلة خلال أشهر الصيف إلى مستويات تقل بشكل كبير عن الحد الأدنى لاحتياجات البلدين. ورغم النفي الدائم لحكومة أنقرة، فإنَّ تراجع منسوب المياه في النهرين شكّل دليلاً ملموساً لا يمكن تجاهله.
وقد حاول الاجتماع الأخير الذي عقد في بغداد مؤخراً بين الجانبين السوري والعراقي لتنسيق مواقفهما وتوحيدها حيال الإجراءات التركية المتكررة كلّ عام، فتح قناة للحوار مع أنقرة لبحث هذا الملف. وجرى الحديث في شهر شباط/فبراير الماضي عن جهود تبذل لترتيب اجتماع ثلاثي يُعقد في بغداد للغاية نفسها.
– النقطة الثالثة لا تقلّ خطورة عن خفض حصة الجانبين السوري والعراقي من المياه، إذ دأبت تركيا على السماح بمرور مياه ملوثة بمخلفات صناعية وكيمائية وبالطمي إلى البلدين الجارين. مثلاً، تحول نهر الجلاب التركي بعد تعرضه للجفاف إلى مصبٍّ لمخلفات المياه الزراعية والصناعية الملوثة التي تجد طريقها بدورها إلى مياه النهرين المتجهة إلى الأراضي السورية والعراقية.
مصالح جيوسياسية واقتصادية
تذهب معظم القراءات والمقالات المنشورة في مقاربتها الإجراءات التركية إلى التركيز على الجانب الفني المتعلق بالسدود ومحطات توليد الكهرباء التي أقامتها أنقرة على مدار عقود طويلة من الزمن وتأثيراتها في منسوب نهري الفرات ودجلة، الأمر الذي يحصر النزاع القائم ضمن أطر قانونية وفنية، في حين أنَّ جوهر تلك الإجراءات يقوم على مصالح جيوسياسية واقتصادية لا تخلو من أبعاد توسعية لأنقرة ومحاولة ترسيخ نفوذ إقليمي كانت ملامحه وصورته تتباين تبعاً لبرنامج الحزب الذي كان يتولى مهام قيادة الحكومة التركية.
مثلاً، خلال النصف الثاني من عقد التسعينيات، شهدت العلاقات السورية التركية تأزماً شديداً، بدأته أنقرة بخفض الكميات المتدفقة عبر نهر الفرات إلى مستوى خطر، بل إن الحكومة التركية سمحت في العام 1996 بتلويث المياه المتدفقة إلى الأراضي السورية بمياه المصانع والصرف الصحي، ثم انتقلت تلك التهديدات إلى المستوى العسكري، عندما حشدت أنقرة جيشها على الحدود مع سوريا في العام 1998، مهددة بعمل عسكري ضد دمشق، بحجة دعم الأخيرة حزب العمال الكردستاني، فكيف الحال مع حزب العدالة والتنمية الذي يتبنى سياسة توسعية خطرة على أمن المنطقة واستقرارها؟
إلى جانب الرغبة التقليدية للحكومات التركية المتعاقبة والقائمة في استثمار معظم كميات مياه نهري الفرات ودجلة خلال أشهر الصيف في أعمال الزراعة وتوليد الكهرباء، وما يعنيه ذلك من ترسيخ لواقع غير قابل للتفاوض مستقبلاً في نظر بعض الساسة الأتراك، فإنَّ سياسة حزب العدالة والتنمية حيال هذا الملف في الوقت الحالي تنطلق من الاعتبارات التالية:
– محاولة إلغاء العمل بالاتفاقيات السابقة في ضوء المستجدات التي أفرزتها ظاهرة التغير المناخي، ولا سيما ما يتعلق بمحدودية المصادر المائية في دول المنطقة، ودخول معظمها في خانة الدول التي تعاني إجهاداً مائياً كبيراً. وبناءً عليه، إن احتفاظ أنقرة بموارد مائية جيدة يمكّنها من التفاوض على دور إقليمي أكبر لها مستقبلاً، مستغلةً حاجة الدول الأخرى. هذا الأمر يذكّرنا بالمشروع الكبير الذي جرى الترويج له في تسعينيات القرن الماضي وبداية القرن الحالي، والقائم على نقل المياه من تركيا إلى الكيان الصهيوني.
– المياه هي إحدى أوراق الضغط الأساسية التي تستند إليها السياسة التركية في التعامل مع الأزمة السورية، وهو ما بدا واضحاً منذ انقلاب أنقرة على علاقاتها الاستراتيجية مع دمشق. بمجرد انضمام أنقرة إلى الحلف الساعي لإسقاط دمشق، عملت على إدخال المياه على خط حملة ضغوطها على دمشق، وبدأت بالعمل على خفض كميات المياه المتدفقة عبر نهري دجلة والفرات منذ الأشهر الأولى للأزمة السورية، وهو ما ليس غريباً على سياسة الرئيس رجب طيب إردوغان وطموحاته التي وصلت إلى حدّ الرغبة في السيطرة على حقول النفط السورية الرئيسية المنتشرة في منطقة الجزيرة.
– ذريعة الورقة الكردية التي تستثمرها أنقرة لتبرير سياستها المائية حيال كلٍّ من دمشق وبغداد؛ فمع تمكّن التنظيمات الكردية من السيطرة على مناطق واسعة من الجزيرة السورية، وتأسيسها ما يسمى “الإدارة الذاتية”، وجدت الحكومة التركية مبرراً آخر للاستمرار والتشدد في إجراءاتها المائية ضد الجارة الجنوبية، مستندة إلى بعض الدعم الداخلي الذي أثارته مخاوف الطموحات الكردية الانفصالية.
تحولات داخلية أو إقليمية
رغم أنَّ وزير الري العراقي اعتبر في زيارته الأخيرة لدمشق أنَّ هناك مؤشرات إيجابية تركية، فإنَّ مجريات الموقف التركي وتطوراته من الأزمة السورية، ولا سيما الموقف العسكري، تؤكد أن لا حل قريباً لمشكلة السطو التركي على حصص الجانبين السوري والعراقي من نهري دجلة والفرات، وإن تم إبرام اتفاق جديد أو صدر إعلان عن أنقرة تؤكد فيه التزامها بتنفيذ الاتفاق السابق، فالعقود والسنوات السابقة شكلت دليلاً على أن المماطلة في تنفيذ الاتفاقيات الثنائية هي سياسة تركية لن تتغير إلا تحت ضغط تحولات داخلية أو إقليمية جديدة.
الميادين نت