لم تكن “الأولوية للزراعة” مجرد شعار مع انطلاقتها في منتصف ثمانينات القرن الماضي، بل كانت نهجاً استراتيجياً جرى تنفيذه برصد ما لا يقل عن 12 مليار ليرة سنويا (3 مليارات دولار) لمشاريع الري والسدود والاستصلاح في جميع المحافظات نفذتها بإعجاز شركاتنا الإنشائية خلال فترة زمنية قياسية تحولت سورية بعدها من مستورد إلى مكتف ذاتياً من القمح مع مخزون استراتيجي يكفي لأكثر من ثلاث سنوات.
ومع إن بداية تحول “الأولوية للزراعة” من نهج إلى شعار ورقي بدأ في عام 2008، فإنه ما من حكومة خلال الـ 16 عاماً الماضية كانت جادة بتأمين مستلزمات استعادة سورية لمرحلة الاكتفاء الذاتي من القمح، والدليل إن عام القمح كان الأسوأ في محافظة حماة التي تنتج ثلث محصول القمح لأنه لم يؤمن لها مستلزمات عام القمح من ري ومحروقات وأسمدة وأدوية ..الخ!
ستبقى شعارا مهزوزا
ومع أن مجلس الوزراء طلب خلال جلسته الأسبوعية يوم 8/3/2022 من الوزارات المعنية (الاستثمار الأمثل لمشروعات الري الحكومية على أن تكون الأولوية لزراعة محصول القمح والعمل على زيادة كميات المازوت الزراعي المخصصة للزراعة..).. فإن هذا الطلب لم يُترجم على الأراضي المزروعة بالقمح..!.
وبرأينا ستبقى “الأولوية للزراعة” شعاراً مهزوزاً ولن تتحول مجدداً إلى نهج استراتيجي إلا بتأمين مستلزماتها كما فعلت الحكومات المتعاقبة خلال سنوات (1980 ـ 2003) ..
ترى ما هذه المستلزمات؟
من تجربة الماضي الناجحة جداً هي التالي: برامج زمنية محددة لمشاريع الري والاستصلاح والسدود، وتفعيل القطاع الإنشائي المنفذ الفعلي لنهج “الأولوية للزراعة”، وليست مصادفة تراجع التنمية بما فيها الزراعة بدأ مع تقزيم وإضعاف هذا القطاع لصالح شركات عقارية محلية وخارجية لا تهتم سوى ببناء العقارات، إضافة إلى رصد اعتمادات سنوية لمشاريع الري لا تقل عما كانت عليه في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي والتي تعادل حالياً 8400 مليار بسعر الصرف الرسمي، وأخيراً تحديد سعر مجز لشراء كيلو القمح يغطي تكلفة إنتاجه حتى لو اضطر الفلاح لشراء المحروقات والأسمدة من التجار في حال عجز الحكومة عن تأمينها نظامياً.
لماذا التخلي عن “الأولوية”؟
ربما السؤال المطروح في ذروة تدهور إنتاجنا من القمح: لماذا تخلت الحكومات المتعاقبة منذ عام 2003 وحتى الآن عن نهج “الأولوية للزراعة”؟
تصوروا ماذا كان سيحلّ بالسوريين خلال سنوات الحرب لولا بقايا نهج (الأولوية للزراعة) الذي اعتاد الفلاح على الاستمرار بتنفيذه في مجالات الإنتاج النباتي والحيواني رغم تقاعس الحكومات عن مساعدته بتصريفه، وتقاعسها عن دعم المنتجين لتقديم سلع بمتناول ملايين العاملين بأجر!!
حتى الآن فإن نسبة كبيرة من سكان الريف يعتمدون ذاتياً على تأمين السلع الغذائية، بل ويساعدون أهلهم الموظفين في الحضر، وكان ذلك، ولا يزال، من أهم وأفعل عناصر تخفيف الحصار القاسي على سورية..!.
ومن المؤكد إن وضع السوريين كان سيكون أفضل بكثير لو لم تتخل الحكومات المتعاقبة منذ عام 2003 عن نهج وإستراتيجية “الأولوية للزراعة”.
الزراعة لا تعنينا و..!
لا ندري حتى الآن أسباب تخلي الحكومات السابقة وحتى الحالية عن نهج الأولوية للزراعة والتصنيع والانغماس بتطبيق نهج السوق الليبرالي المتوحش والذي كانت ترجمته الفعلية التحول من الاقتصاد الإنتاجي إلى الاقتصاد الريعي والخدمي وتحرير الحركة التجاريّة، والتي ترجمتها الحرفية: السماح بالاستيراد الرخيص لإضعاف الإنتاج الوطني..!.
ويمكن اختصار إستراتيجية حكومة (2003 ـ2011) التي بدأت عملية التحول الممنهج إلى النيوليبرالية المتوحشة بمقولة : الزراعة لا تعنينا والسدود نسيناها..!
وعندما تتحدث الحكومة الحالية عن تأثر محصول استراتيجي كالقمح بالجفاف فهي محقة تماماً لكنها تتجاهل عمداً المساحات المروية، فلا تكشف بأنها لم تؤمن لها الريات المناسبة من السدود والأنهار لتقاعسها بإصلاح مشاريع الري من جهة ولعدم تأمين حوامل الطاقة من جهة أخرى..!
تزداد هشاشة واهتزازا
وبما أن الموازنات العامة للدولة هي الترجمة الفعلية لخطط أو توجهات الحكومة ـ هذا في حال كانت هناك خطط وتوجهات ـ .. فإن لا ترجمة لنهج الأولوية للزراعة، بل على العكس قرارات الحكومة المتتالية برفع أسعار مستلزمات الإنتاج وحوامل الطاقة مع عدم دعم القطاع الزراعي يؤكد أن الأولوية للزراعة تزداد هشاشة واهتزازاً مع كل قرار حكومي جديد يتعلق بالإنتاج..!.
ترى ألم تُدرك الحكومات المتعاقبة منذ عام 2003 إن تخفيض الاستثمارات في القطاع الزراعي سيؤدي إلى هجرة سكان الريف وخاصة الشباب إلى الحضر وتحول القسم الأكبر منهم إلى عاطلين عن العمل..؟.
بل كيف يمكن لأي حكومة أن تخفض استثماراتها إلى مستويات تحولت بفعله سورية من الاكتفاء الذاتي في السلع الأساسية إلى مستورد لها..؟
بل ماذا كانت تتوقع هذه الحكومات بتهميشها للقطاعات الإنتاجية..؟.
صحيح إن الحرب على سورية دمرت الكثير من منشآت القطاع الزراعي حيث وصل حجم خسائره إلى 16 مليار دولار حسب تقدير منظمة الغذاء العالميّة، لكن لم تكشف الحكومة الحالية عن أي خطط خمسية أو عشرية لإعادة ما دمرته الحرب في الزراعة وخاصة شبكات الري الشريان الحيوي للقطاع الزراعي..!.
الخلاصة:
سيبقى نهج “الأولوية للزراعة” شعاراً مهزوزاً ولن يتحول إلى إستراتيجية متكاملة إلا برصد الإعتمادات الكافية له في موازنات الدولة، والأهم أن يكون الشغل الشاغل للحكومة إنعاش ذراعها الفولاذية أي القطاع الإنشائي العام الذي نجح بإنجاز مشاريع السدود والري واستصلاح الأراضي وحوّل سورية إلى بلد مكتف ذاتياً ومصدر للكثير من السلع الإستراتيجية والغذائية.
علي عبود- البعث