تخطى إلى المحتوى

البيئة الحاضنة لرأس المال العرفي

* باسل الخطيب:

إن أي معرفةٍ أو تجربةٍ تختزنها العقول تحتاج بيئة داعمة راعية و واعية كي تبدع و تنتج فيما هو خير مجتمعها…و تلك البيئة بيئتان: الأولى بيئة مجتمعية أو محيطية، و أقصد ذاك المحيط الذي يعيش به أو يحيط بحامل المعرفة….
إن راس المال العرفي في مجتمعاتنا بكل تجلياته المؤسساتية و البشرية محكوم بمحيط، هو ذاته محكوم بكثير من العقد، و جذور هذه العقد هي في ذاك الموروث الديني و الفقهي و التاريخي الذي يمتد إلى أربعة عشر قرناً، مع كل ما يتضمنه ذاك الموروث من مقدسات مطلقة، سواء كانت تلك المقدسات أماكناً أو أشخاصاً أو أفكاراً…..
لقد أناخ ذاك التراث بكل كلكله على عقولنا و أرواحنا، و كان أبشع ما أنتجه هو هذه البيئة المنافقة التي نحن فيها، فصفة الصح المطلق أو المقدس التي صُبغ بها ذاك الموروث، و تلك الاصاحيح و السير و منها ما يسمى (الأصح) مع ما تحمله في داخلها من متناقضات، قد قيدوا جميعاً وحدوا من إبداع العقل، و في هكذا بيئة لا يمكن لرأس المال العرفي أياً كانت عبقريته أن ينتج و يبدع….
لقد لوينا عنق التاريخ لاعتبارات عديدة، و أرخنا لأحداث و أشخاص من وجهة نظر معينة و محددة، معطيين تلك الأحداث صفة القدسية المطلقة، فكان أن أنتج ذاك الموروث داعشاً و أخواتها، نعم، داعش هي نتاج طبيعي لذاك الموروث، ذاك الموروث لن ينتج لك أديسون و إينشتاين، ذاك الموروث لن ينتج لك إلا المحسيني و البغدادي، ذاك الموروث لن ينتج لك إلا ( جهاد النكاح)…..
مازالت عقلية القبيلة هي التي تحكم علاقتنا مع الذين هم مثلنا، مازالت عقلية العقيدة هي التي تحكم علاقتنا بالآخر، و مازالت عقلية الغنيمة هي التي تحكم علاقتنا بالعمل و العلم.
أضف إلى ذلك نحن في سورية نعاني من إرث إضافي، ألا و هو ذاك الإرث العثماني الثقيل، ذاك الإرث البغيض الذي مازال حتى تاريخه يعشعش في العقول و الأفكار و الادارات و المؤسسات الثقافية و التربوية و التعليمية، ولنا في ذلك لاحقاً مقال تفصيلي….
هنا نصل إلى مربط الفرس: أن الحرية الواعية هي التي يمكن أن تصنع بيئة تؤدي إلى إنتاج ثقافة متحركة مبدعة قابلة دائماً للتشذيب و التحسين و التطوير ….. و أقصد بالحرية الواعية امتلاك ثقافة الاستماع قبل ثقافة و هذا من نواميس الطبيعة الاولى فالطفل يتعلم الاستماع أولاـ حتى يتعلم التكلم، والطفل إن كان أصماً لايستطيع بكل بساطة التكلم..
إن الخصم الأساس لإنتاج تلك الثقافة التي تحدث عنها أعلاه هو الاستبداد بشكليه السياسي و الديني… فالتكفير ليس دينياً فحسب، إنما هو بالدرجة الأولى سياسي، و التكفير الديني تابع للتكفير السياسي و ليس العكس، و التكفير بحد ذاته ما كان يوماً شأناً دينياً، إنما كان دائماً شأناً سياسياً لبس لبوس الدين… مع الإشارة إلى أن جذري هذين الاستبدادين واحد، فالاستبداد الديني أتى من التأويل الخاطيء لفكرة أننا خير أمة أخرجت للناس و التفسير الخاطيء لمفهوم الفرقة الناجية، ليستطيل ذلك إلى إيدولوجيات أخرى، كمفهوم أننا خير حزب أخرج للناس، أو خير إيديولوجيا يمكن أن تعرفها مجتمعاتنا، أو خير فكر عرفه الناس … و صارت الثقافة الطاغية هي ثقافة السلطة أو ثقافة مولانا، و كان أ ن انعكس ذلك على البيئة تضيقاً أو تشويهاً… فالتضييق أنتج شعراء البلاط و فقهاء البلاط، و أن الصح الوحيد هو ما يقال من على المنابر، سواء منابر السلطة أو منابر المعابد، و كل ما عدا ذلك إما خيانة أو تجديف….. أما التشويه فتجلى في إنتاج ثقافة النفاق التي صنعت مجتمعات منافقة، و تجلياتها الأبسط أو الأوضيح هو منظومة الأمثال الشعبية التي نعيشها ونقتدي بها وكأنها خلاصة التجربة، وأمثالها ( من يتزوج امي أناديه عمي), و( اليد التي لا تقدر عليها قبلها وادع لها بالكسر)، و( الأرض الواطئة تشرب مائها وماء غيرها)، و ( لايعيب الرجل إلا جيبه) و غيرها الكثير……
حتى الواجبات أياً كانت صارت تؤدي ليس لأنها واجب إنما لأنها خاضعة للعقاب و الثواب أو ( التمظهر الاجتماعي)…. كل ذلك أفضى إلى مجتمعات من العبيد، و هكذا بيئة لا يمكنها إنتاج ثقافة مبدعة……
التجلي الثاني للبيئة هو البيئة الشخصية أو الذاتية، و أقصد بها كيان حامل المعرفة ذاته…..
لقد كان نتاج ذاك الموروث الذي تغلغل في كل جنبات حياتنا أن أحدث نوعا من انفصام الشخصية في تلك الذات، فنحن لا نعرف تحديداٌ من نكون، بل أن ذلك قد قوض بالمطلق مفهوم المواطنة، أضف إلى ذلك إن ذاك الموروث بما يحمله من سطوة رهيبة تصل إلى حد الإيذاء المعنوي و المادي من قبل المدافعين عنه، قد فرض على حامل المعرفة نوعاً من الرقابة الشخصية أو الذاتية على ما يمكن أن يفكر فيه أو يعمل عليه….
كل ما تقدم يشير إلى أننا لا نمتلك تلك البيئة الحاضنة و الراعية لرأس المال المعرفي، عدا عن أسباب أخرى، و عليه لكي تكون لدينا هكذا بيئة نحتاج إلى إجراءات هي في مجملها إجراءات صادمة و ثورية، و هي على فكرة ليست كل الإجراءات اللازمة بل أهمها….
في البداية، نحتاج إلى إعادة كتابة تاريخنا أولاً، الذي هو أس المشاكل، خذوا علماً ليس كل تاريخنا هو تاريخ شبه الجزيرة، هذا بعض تاريخنا، عندما كان الأعراب يأدون بناتهم كانت لدينا جوليا دومنا….هناك جزء كبير من تاريخ هذه البلاد مغيب، لا أفهم كيف يسمى شارع أو مدرسة في سوريا باسم عكرمة بن أبي حهل، وكل ما فعله هذا العكرمة أنه استعمل سيفه لإخضاع أقواماً آخرين لما يعتقد، أو لكي يسلبهم مالهم ونسائهم، ولايوجد شارع أو مدرسة في كل سوريا باسم المفكرين أو الحقوقيين أو الفلاسفة الذين كانوا نخبة الإمبراطورية الرومانية، وعدد هم ليس قليل…..
خذوا على سبيل المثال، إن تاريخ دمشق يحب أن لا يقتصر على تلك الأعوام التسعين التي تمثل الحقبة الأموية حتى تُختصر دمشق بلقب ( عاصمة الأمويين)، دمشق و تاريخها أعظم و أجل و أشمل من هذا الأسم…..
عدا عن ذلك يجب محاكمة ذاك التراث محاكمة تعتمد العقل و المنطق العلمي و مكارم الاخلاق طريقاً و منهجاً، و أول الخطى في هذا المجال هي في صياغة تعريف جديد للجنة…..

لقد أنفقنا الألف عام الأخيرة على استعمال أفواهنا مرات في الطعام، و مرات أكثر في الكلام الفارغ، و أكثر منها في ابتلاع الفراغ، و حان الوقت للخروج من عقلية ( العقيدة _ القبيلة _ الغنيمة) التي تحكم حياتنا…..

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
Print

إقرأ أيضامقالات مشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

تابعونا على فيس بوك

مقالات