يتعرّض بلدنا لحرب غذائية خطيرة جداً، بدأت باحتلال العصابات الإجرامية وحماتها الأمريكيين لمناطق إنتاج القمح، فانخفضت الكميات التي كانت تستلمها الحكومة من القمح المنتج سنوياً من نحو أربعة ملايين طن إلى نحو نصف مليون طن، ما نقل بلدنا من بلد مصدِّر لمادة القمح أو مكتفٍ منها إلى مستورد حذِر لها، وقد ترافق ذلك مع احتلال العصابات الإجرامية وحماتها السلجوقيين لمناطق عفرين وإدلب التي تعتبر رائدة في إنتاج الزيتون، وأيضاً توقف الإنتاج الزراعي النباتي والثمري والحيواني جزئياً وإلى درجة كبيرة في أراضي آلاف القرى التي دخلها الإرهاب في ريف عدة محافظات، إذ تسبّبت العصابات الإجرامية في الإساءة إلى زراعاتها وتهجير سكانها.
مجدداً يعاني المنتجون في بقية المناطق السورية من خلل في توفر كمية ونوعية مقومات الإنتاج الزراعي والحيواني وتزايد كلفة الإنتاج، نظراً للارتفاع الكبير والمتتالي في أسعار السماد والمحروقات وندرة وجودهما، بالتوازي مع المعاناة الكبيرة التي يشكو منها مربو الدواجن والثروة الحيوانية، بسبب ارتفاع أسعار العلف وتكاليف الطبابة البيطرية، ما أدّى إلى تناقص كبير في كمية ونوعية المنتج الغذائي الزراعي والحيواني وارتفاع الأسعار بما لا يطيقها المستهلك ولا تغطي أتعاب المنتج، ومعاناة جديدة تتفاقم في صعوبة تسويق المنتج الزراعي نتيجة الارتفاع الكبير في أجور النقل، وارتفاع متفاقم ومتتابع في أسعار عبوات تسويق المحاصيل، بحيث كاد سعر العلبة (الفلين أو البلاستيك) يقارب سعر محتواها من الثمار، ما أسفر عن استخدام الأكياس البلاستيكية في تسويق التفاح لهذا العام، كما أن كيس الزيتون ارتفع من خمس ليرات سورية قبل سنوات إلى ألف ليرة سورية هذا العام، وارتفع سعر علبة الزيت البلاستيكية – سعة عشرين ليتراً – من مئة ليرة قبل سنوات إلى ما يقارب خمسة عشر ألف ليرة في هذا الموسم، والمخيف ألا تتوفر العبوات لاحقاً نتيجة الحصار الاقتصادي على استيراد مكونات تصنيعها، ما يعرقل تسويق المنتجات، وتضرّر كبير يطال المنتجين والمستهلكين.
بالمقابل، أرى أيضاً حرباً غذائية من نوع آخر تتمثّل بتهافت المنتجين للإنتاج الكبير المتتالي لأنواع عديدة من حلوى الأطفال وبأسماء غير عربية، غير آبهين بتوجيهات لجنة تمكين اللغة العربية، ويلفت انتباهي كثيراً تلك اللوحات الإعلانية الكبيرة التي تغصّ بها الشوارع الرئيسية في المدن، وتتضمن الإعلان عن هذه المواد المتعدّدة الأشكال والأحجام والألوان والمحتويات، التي تعدّد وتنوع منتجوها، بما في ذلك مادة البطاطا المصنّعة بنماذج مختلفة. ومن المتعارف عليه أن تكاليف هذا الإعلان كبيرة جداً، وهي بالمحصلة من جيب المستهلك، وجميع أسعار هذه المواد تضاعفت مئات المرات خلال السنوات الماضية، ولا يزال هذا الارتفاع مستمراً يوماً بعد يوم، ما اقتضى أن تزداد خرجية الطفل اليومية، التي كانت في الستينات بالفرنكات ومن ثم في الليرات وعشراتها إلى أن أصبحت اليوم بمئات الليرات، لنسبة كبيرة من الأطفال وآلافها لبعضهم الآخر، ومن المؤكد أن الأغلفة البلاستيكية لهذه المنتجات تزيد من قمامة الشارع وترفع نسبة التلوث البيئي.
من حق المراقب أن يتساءل: هل إن الأسماء الأجنبية لهذه المنتجات هي اختيار من المنتج المحلي، أم هي ملزمة له نتيجة علاقات مع وكالات منتجين عالميين؟ وهل الرقابة الرسمية قائمة على مكونات المواد المستوردة والمنتجة، بالكفاءة والكثافة والأمانة المطلوبة؟ وما هي مخاطر ومحاذير ما فيها من ملوّنات ومواد حافظة؟ إن التوقف عند تهافت منتجي هذه المواد والمتاجرين فيها تقتضيه الأرباح الكبيرة التي يحققونها على حساب المستهلك مقارنة بتكاليف تصنيعها وبدائيتها.
أضف إلى ذلك الإنتاج الكبير والمتتابع من المياه الغازية والعصائر الصناعية التي يتناولها قسم كبير من الأطفال والناشئة، والتي أغلب مكوّناتها من مواد صناعية وحافظة، وعليه أليس من المستغرب استمرارية تصنيعها وتداولها رغم الازدياد المتتابع لأسعارها وثبوت مضارها؟، ولا يغيب عن الذهن بودرة حليب الأطفال المعلب، الذي أغلب مكوناته من مواد صناعية وليس من الحليب الطبيعي، والغريب في الأمر أن الشكوى من قلة وجوده في السوق قائمة بين زمان ومكان!
أرى أن مخاطر صحية تترتب على الانتشار والاستهلاك الكبير لهذه المنتجات الصناعية، وتتجلّى هذه المخاطر بتزايد الحاجة الماسة والمتتابعة للنفقات الصحية لكلّ أسرة، والمتمثلة بكثرة الأمراض التي تنتاب المواطن وخاصة الأطفال، وكلنا يرى تكاثف أعداد الأطباء والصيدليات، والمراكز الصحية والمشافي العامة والخاصة، ولا زلت أتذكر وجود طبيبين وصيدلية فقط في منطقتي بداية ستينات القرن الماضي، أما اليوم فالبناية الواحدة تضمّ عدداً من الأطباء، وتوجد عدة صيدليات في الشارع الواحد، حيث اقتضى التشريع الاكتفاء بوجود مسافة خمسين متراً بين الصيدلية والأخرى، والظاهرة الصحية الأخطر يراها كلّ من يتمعن بأجسام الشباب والشابات في مرحلة التعليم الجامعي، والمتمثلة بقصر القامة والوزن القليل لأجسام نسبة كبيرة منهم وخاصة الإناث، بالتوازي مع تعدّد مشكلات الحمل والعقم والإنجاب، وأرى أن كل ذلك من نتائج الحرب الغذائية.
كما وكثيراً ما راودني حذر وقلق كبيرين من تعدّد وتنوع أشكال وأنواع ألعاب الأطفال وألبستهم وأغذيتهم الموجودة في السوق، وما يتخللها من مركبات تدخل في صلبها أو ملصقة عليها، وقبل أيام ورد في الإعلام أن الاختبارات العملية التي أجرتها مجموعة العمل البيئية (EWG) التي تتخذ من واشنطن العاصمة مقراً لها، أثبتت وجود مواد لمركبات تحتوي نسبة عالية من الفلور ومتعدّدة الفلور (PFAS) على الألعاب والملابس والمرايل والفراش، وقد تمّ العثور على مواد كيميائية سامة في منتجات للأطفال! مرتبطة بعدد كبير من الأمراض كالسرطان والتوحّد والعيوب الخلقية والعقم والاضطرابات، في كلّ منتج للأطفال، والفلور عنصر كيميائي يستخدم في صناعة البلاستيك الذي يمكن أن يسبّب تسوس الأسنان وهشاشة العظام وإلحاق الضرر بالكلى والعظام والأعصاب والعضلات، ويحذّر الباحثون من أن التعرّض للمواد الكيميائية يمكن أن يؤثر على النمو الاجتماعي والبدني للطفل، ويؤثر على السلوك مع تقدمهم في السن، كما يمكن أن يؤدي التعرّض طويل المدى أيضاً إلى زيادة خطر الإصابة بسرطان الكلى والخصية والمبيض والبروستات والغدة الدرقية ونخاع العظام عند بلوغهم سن الرشد.
أرى أن المنتجين والمستهلكين والسلطات الرسمية معنيون معاً، بالحدّ من المخاطر المتعدّدة لهذه الحرب الغذائية الخطيرة.
*عبد اللطيف عباس شعبان / عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية
منشور في صفحة اقتصاد من صحيفة البعث ليوم الأربعاء 23 / 11 / 2022