طرطوس- ثناء عليان:
ألقى الأديب غسان كامل ونوس محاضرة ضمن فعاليات احتفالية أيام الثقافة السورية في المركز الثقافي في طرطوس تحدث فيها عن المتغيّرات الكبرى التي تتعرّض لها المجتمعات، والتي تؤثّر في مختلف جوانب الحياة، ولاسيّما حين تكون شديدة الوقع، ومن التأثيرات ما يكون مادّيّاً أو معنويّاً، أو مادّيّاً ومعنويّاً، وبيّن أن الثقافة ميدان مهمّ لظهور تلك الانفعالات البارزة؛ لأنّها تصيب التربية والسلوك والعادات والأخلاق والقوانين والأعراف والعقائد والفنون والعلوم، على نحوٍ مباشر أو غير مباشر.
ولفت إلى دور الثقافة في تعزيز النبض وتدعيم الرغبة وتحفيز المهمّة وتأكيد الهمّة؛ باستعادة الثقة التي يمكن أن تكون وهنت بالنفس وبالآخرين، وبالحثّ على الاستفادة من الإمكانات الباقية؛ حتّى إن كانت مشتّتة ومهملة ومغيّبة، واستنهاض القدرات الكامنة والخفيّة، واجتراح الحلول والسبل والوسائل؛ للمضيّ في مشروع الحياة العزيزة الكريمة الذي ينبغي أن يبقى قائماً ومتوفّزاً، مؤكداً أنّ العمليّات الثقافيّة ومفرزاتها مهمّة في كلّ مرحلة، وقبلها، وبعدها.
ومن المتغيّرات الكبرى للثقافة –حسب ونوس- الحروب الكبرى والطويلة، والغزوات، والاحتلالات، والجائحات المرضيّة، والكوارث البيئيّة، والتحوّلات المعيشيّة، والاختراعات، والاكتشافات، والتبدّلات الفكريّة، والسلوكيّة، والمجتمعيّة.
وعن دور المثقفين خلال الحرب على سورية أكد ونوس أنهم لم يشكّلوا جبهة ثقافيّة حقيقيّة متماسكة فاعلة، مواجِهة للمعتدين الحاقدين المحلّيّين والخارجيّين، واقتصر الأمر على مواقف فرديّة متباعدة، وأصوات ونشاطات وأعمال متناثرة هنا وهناك.. وللأسف؛ فقد انكفأ كثيرون، حتّى عن التعبير عن موقف وإبداء رأي، ومنهم من كانوا مسؤولين ثقافيّين وغير ثقافيّين سنوات طويلة، وفي مواقع متعدّدة ومتقدّمة، ومكثوا في الحال الرماديّة منتظرين ما ستؤول إليه الأمور؛ أمّا من خرجوا عن منطق الثقافة بمعناها الإيجابيّ الإنسانيّ ماديّاً ومعنويّاً؛ وأبسط معانيها التمييز بين من يدافع عن وطنه وبلده وأهله، وبين من يستهدف الممتلكات العامّة والخاصّة، ويضرب الناس بعشوائيّة؛ ليدمّر البشر والشجر والحجر، ووقفوا ضدّ الوطن، ورفضوا حتّى إدانة العدوان والإرهاب، والارتهان إلى الخارج المعروف بتاريخه القاتم بحقّ الشعوب، أو بالعمالة والاستسلام، بذرائع مختلفة؛ فلم يكونوا أقلّ أذى من الإرهابيّين؛ بل كانوا منظّرين لهم، مسوّغين أفعالهم.
وأضاف: علينا أنّ نذكر باحترام وتقدير فئة قليلة من المثقّفين، ظلّوا ثابتين مع شعبهم وجيش وطنهم العزيز، بالرغم من الترغيب والترهيب والضنك والظروف المضنية، والأحوال الاستثنائيّة بكل المقاييس، وعبّروا عن ذلك من دون خوف أو تردّد، عبر المنافذ المتاحة، وبالوسائل الممكنة، ولفت إلى أنّ كتابات وأعمالاً كثيرة، تناولت الموضوعات المعيشة، والأوقات الشائكة، والممارسات القائمة، والانعكاسات الحادّة للحرب الضروس، لم تخلُ من التسرّع والمباشرة، وموادّ أخرى، كانت تميل إلى الحياد، أو محاولة التمويه، وعدم إيضاح الموقف أو الرأي؛ ليس لأسباب فنيّة مسوّغة؛ بل لأسباب أخرى.
وهناك –يتابع ونوس- من دون أدنى شكّ نتاجات فنّيّة معبّرة وقيّمة؛ كتبت ونشرت وعرضت، وأخرى لاتزال تنتظر؛ لصعوبة حال الوصول والإيصال والنشر، والعجز المادّيّ والورقيّ، والاكتفاء بالعرض الإلكترونيّ، حتّى من مؤسّسات عريقة رسميّة وخاصّة.. مع أمل وقناعة بأنّ هذا سيتواصل مع مرور الوقت، وتخمّر الصور والمشاعر، ونضوج الرؤى، ووضوح الرؤية، والتمكّن من المراجعة الهادئة، لِما كان ويكون، ويمكن أن يكون، وهناك للأسف، من تماشوا مع مجرى الوقائع؛ فعادوا ليظهروا متقمّصين الدور الوطنيّ، بعدما رأوا الكفّة مالت لمصلحة الوطن والدولة؛ متهيّئين لمكاسب جديدة؛ منهم من حصل عليها، ومنهم من ينتظر!
وفي رأي ونوس من الضروريّ اهتمام المثقّف بدوره بعد الحرب التي نأمل أن تنتهي قريباً، وتستعاد جميع الأراضي المستباحة، ويعود جميع من يريد العودة إلى دياره، ويعيش بين أهله وأصحابه بأمان وكرامة؛ إن هناك أجيالاً لم تتعلّم، وأخرى لديها عجز وقصور في الاطّلاع والمعرفة، والمشاركة الحيويّة في البناء والإعمار، داخل القطر أو خارجه، ويبقى للمثقّفين أن يجترحوا الحلول، ويقوموا بالمبادرات الخلّاقة، وإن كانت أحوال كثيرين منهم، لا تقلّ بؤساً وانضغاطاً، وحاجة.. لكنّها مسؤوليّة أخلاقيّة وطنيّة وجدانيّة ملحّة، في أوقات حرجة وأوضاع غير ميسّرة؛ كالتي نعيش،و بيّن ونوس أنّ الحلّ الثقافيّ هو أهمّ الحلول المطروحة أو الممكنة، وأنظفها، وآمنها، وأبقاها وأجداها؛ لأنّ الثقافة لا تعني المثقّفين والمهتمّين بها والقائمين عليها فحسب؛ بل تهمّ كلّ الناس، في أيّ شريحة وموقع وحين؛ وهي كالنسغ في النبات الذي يفترض أنّ يصل إلى أبعد غصن وورقة وثمرة؛ لتبقى وارفةً معطاءً.
بانوراما سورية-تشرين