*باسل علي الخطيب:
حسناً، و لأنها قد ضاقت و ضاقت، دعونا نصارحكم بالحقيقة التي لن تعجبكم، ولا استثني نفسي منكم…
سأذكركم بالآية الكريمة التالية ” وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ” ……
أتدكرون تلك الأيام؟؟؟… أتذكرون كم كنا نهدر من طعام؟…
أنا أذكر ذلك من أكياس القمامة التي كانت تتكدس على جانب الرصيف قبل أن يلمها عامل النظافة، كم من بقايا أطعمة رميناها، أتذكرون؟؟..
كنا نلقي بالخبز للدجاج و الأبقار، أتذكرون؟ لا تقولوا لي أن هذا لم يكن يحصل…
أتذكرون تلك المناسبات و الأعراس وموائد شهر رمضان الكريم، و كم الطعام الكبير الذي كان يتم إهداره و رميه في القمامة لاحقاً؟….
ألا تتذكرون؟! أهي ذاكرة الدجاج أم ذاكرة السمك؟؟؟!!..
نحن شعب لم يتعود أن يشتري (بالنصف كيلو) أو حتى (بالكيلو)، كان الخير وفيراً، و كانت الأسعار رخيصة، كنا تتباهى بأكوام الخضار و الفواكه التي نشتريها، أغلبنا كان يشتري ( بالفلينة)من هذه المادة أو تلك، و حتماً كان يتلف ربعها على الأقل لنلقي به لاحقاً في القمامة….
لا تقولوا لي أن هذا كان من باب التوفير، كلا أيها السادة، أعتقد أن ذلك ليس إلا خللاً بنيوياً في العقلبة، أتراها ثقافة المجاعات التي عانيناها سابقاً كانت تفرض علينا التزود و التمون؟ أم أن ذلك عائد إلى قلة إيماننا و ثقتنا باللّه؟؟…
إذاً، إليكم ما حصل، ها نحن الآن غير قادرين حتى على الشراء( بالحبة)، نعم، أعرف أنه لن يعجبكم كلامي، فليس هناك ماهو أسهل أن نجد من نلقي عليه المسؤولية، نعم هناك الكثير من الأسباب لما حل بنا و المآل الذي وصلناه، و لكن أنا أتحدث في بعد آخر، أتحدث في ماهو خلف كل هذا….
هذه يا سادة، و بكل بساطة، بضاعتنا قد ردت إلينا…
أتذكرون أننا كنا نقضي الساعات في أحاديث ونقاشات و نحن ننتقد تقصير الحكومة هنا و تقصيرها هناك، و نحن نأكل السندويشة و نرمي بالورقة في الشارع، نستعمل المحرمة و نلقي بها في الشارع، نشرب فنجان القهوة و نلقي به من السيارة إلى الشارع، نتبول على الحيطان، تخرب كل مايقع تحت أيدينا من ممتلكات عامة….
سعر المازوت غال جداً أليس كذلك؟.. بل أنه حتى غير متوفر، أتذكرون أننا كنا نشطف الأرضيات بالمازوت؟؟.. أتذكرون تلك (الصوبيات) و المازوت يتهاطل فيها، حتى أنك لا تكاد تطيق القعدة في الغرفة، أفكرنا يومها ولو قليلاً أن هذا يدخل ضمن باب الإسراف أو الهدر الذي سنحاسب عليه؟؟…
تتحدثون عن الماء؟ كم من مرة غسلنا تلك السيارات، والماء يتدفق، نهدره ولانبالي، وكان يكفي لغسيل السيارة مقدار سطلين أو ثلاثة من المياه، ولكن لانريد تعذيب انفسنا، أتذكرون؟…
بعضنا كان يغسل الشارع لكي (يبورده) صيفاً، و لا يجد أحداً يردعه…. هل تذكرتم حديث الشيطان الأخرس؟؟…
نأتي إلى الكهرباء، أتذكرون تلك الشبكة العنكبوتية من الأسلاك نعلقها لنسرق الكهرباء؟ و لا يتوقف الأمر عند ذلك، بل نلعب بالعداد، كم من مرة كانت كل المصابيح مضاءة في البيوت و لا حاجة لذلك؟.. كم من مرة كانت المصابيح مضاءة و الوقت نهاراً؟ نشغل سخان الماء طوال ال 24 ساعة في الشتاء، حتى تكون الماء الساخنة جاهزة دائما متى احتجنا إليها…..ألا تذكرون؟….
نعم، أنا لن أحدثكم عن قيصر و لن أحدثكم عن الفساد، و إن كان كل ذلك واقعياً و حقيقياً، و له دور كبير في ما وصلنا إلبه، و لكن مرة آخرى أنا أتحدث في بعد آخر…
نعم أيها السادة،هذه أموالنا قد ردت إلينا….
عاب علي أحدهم مرة أني قد أطفأت الإنارة في مكان العمل، و كان الوقت نهاراً، و لا حاجة للإنارة، و قال لي: و هل تدفع من جيبك؟….
نعم، هذه هي الثقافة التي أتحدث عنها، أن أغلبيتنا كان ينظر إلى أموال الدولة على أنها حلاله و حقه، له أن يتصرف بها كما يشاء، وله أن يهدرها، أنا لا أتحدث عن السرقة، أن أتحدث عن فساد من نوع آخر لا يقل خطورة عن الفساد المعروف، ألا و هو اللامسؤولية و اللامبالاة مع أموال الدولة و ممتلكاتها….
نزح ولجأ الملايين من السوريين الى اوروبا، هناك سيتقيدون صاغرين بكل القوانين، لن يخالفوا قوانين المرور، سيقفون في الدور، لن يلقوا بالمحارم على الطرقات، لن يتبولوا على الحيطان، سيحافظون على نظافة الشوارع كما يحافظون على نظافة بيوتهم، سيحافظون على الممتلكات العامة، سيذهبون إلى أعمالهم ويعودون في الأوقات المحددة….. أمور لو كانوا يفعلونها في بلدهم لما اضطروا إلى اللجوء…
يكافح أحدنا للحصول على وظيفة، وعندما ينالها، يصبح همه كيف (يظبط ) دوامه…. ترى أحدهم لايفك الحرف ولايجيد شيئاً، و هو بالكاد يجد قوت يومه، وعندما تعرض عليه عملاً يتناسب مع مؤهلاته وقدراته، تراه يأنف ويرفض أن كرامته لاتسمح له، ولكن كرامته تسمح له أن يجبر أباه على بيع قطعة أرض كي يسافر، ليعمل في الخارج أعمالاً أقل مما كان معروضاً عليه، يعمل في غسيل الصحون أو تنظيف التواليتات، وعندما يعود بلده في اجازة، لا يرضى إلا أن تكون سجائره مارلبورو، عل هذه النوعية تكسبه بعض الكرامة التي سفحتها أرضيات الحمامات هناك….
اتذكرون، الكل صار يريد أن يتوظف، و أنا أقصد هنا الأغلبية الذين لايستاهلون، وهم لا مؤهلات ولا شهادات، وليسوا إلا عالة على مكان توظيفهم، صرنا نانف أن نفلح او نزرع، صرنا نأنف أن نربي الدجاج والاغنام والابقار، نريد تلك اللقمة ونحن نمارس المتة في أماكن عملنا، والانكى من ذلك أننا لانتوقف عن الشكوى أو الانتقاد، حتى جملة الحمد لله غابت عن ألسنتنا…..
ترى احدهم، والشيء الوحيد الذي يجيده في الحياة هو لف سيجارة ( دخان عربي)، تراه يريد أن يكون عنده الكثير من المال، وهو بالكاد مستعد لتحريك مؤخرته عن الكرسي التي يجلس عليها….
ترى إحداهن وقد قبضت راتبها الاول، تهرع لصرفه على زيادة أبعاد تضاريسها، حتى ولو استدانت، حتى ولو سحبت قرض، ولاترضى لها أو لابنتها إلا افضل موبايل، والى جهنم الحمراء طبخة اليوم وغداً ومابعد بعد غداً، ولو عمل حرمها المصون بعد وظيفته شوفير شحن أو شوفير صينية أو شوفير قضية….
اتذكرون، كم كنا نهدر من أموال على الكثير من الترهات، لا لشيء، إلا لنجاكر أو نتباهى، أتذكرون كم كنا ننفق على تلك الاعراس على سبيل المثال، ذاك المال المسفوح وكأنه مال حرام، حتى أننا نقع تحت وطأة الديون لفترة…..
اتذكرون؟….
لم يعجبكم كلامي، أليس كذلك، حسناً، أبشروا إذاً، الاصعب آت، أتعرفون لماذا؟… لأننا لم نتعلم، ويبدو أننا لن نتعلم، مازلنا على غينا وغرورنا، أنه لا ذنب لنا، ومرة أخرى أنا أتكلم في بعد آخر، فيما وراء كل هذه الأسباب الظاهرية لحالنا، نحن أيها السادة لم نداري النعمة، فحرمنا إياها، لم نداريها شكراً أو اقتصاداً أو تواضعاً…..
هكذا و مباشرةً وببساطة….
نعم، لن يغير الله في قوم حتى يغيروا ما في انفسهم، هناك من ينتظر ذاك الأمير ليقبل تلك الضفدعة، هل عرفتم من هي تلك الضفدعة؟.. دعونا إذاً سويةً ننظر إلى تلك المرآة….
زمن المعجزات أيها السادة، لم يكن يوماً حتى يعود، افيقوا أو اسكتوا…..
هذه أموالنا قد ردت إلينا….