* باسل علي الخطيب
قلنا في الجزء السابق، أن العقلية الغربية ترى العالم في جبهتين، الجبهة الغربية وهي تحالف البروتستانتية والكاثوليكية واليهودية، والجبهة الشرقية وهي تحالف الأرثوذكسية والكونفوشيسية البوذية والعالم الإسلامي…
كل طائفة من الطوائف السابقة لديها دولة أساسية، سنصتلح على تسميتها دولة المركز، البروتستانتية لديها الولايات المتحدة، الكاثوليكية لديها فرنسا، اليهودية لديها الكيان الصهيوني، الأرثوذكسية لديها روسيا، البوذية الكونفوشيسية لديها الصين، وحده العالم الإسلامي لايوجد لديه دولة مركز …
هناك ست دول قد تكون مؤهلة مبدئياً للعب دور دولة المركز للعالم الاسلامي، هذه الدول هي ( اندونيسيا، الباكستان، ايران، تركيا، السعودية، مصر)…
مايعيق اندونيسيا عن لعب هذا الدور أنها تقع على أطراف العالم الإسلامي بعيدة عن المركز، الباكستان لاتستطيع لعب هذا الدور، بسبب النزاعات الطائفية فيها، وحالة عدم الاستقرار السياسي الكبيرة، إيران كذلك لايمكنها أن تكون دولة المركز بسبب التباين المذهبي مع الأغلبية الاسلامية، السعودية لاتستطيع أن تكون دولة المركز بسبب نظامها السياسي المتخلف والقبلي وعدد سكانها القليل وعدم وجود أي خلفية حضارية أو ثقافية، ومصر كذلك لايمكنها أن تكون دولة المركز بسبب وضعها الاقتصادي المتردي، ومشاكلها الاجتماعية الكثيرة والمتفاقمة….
قد تكون تركيا هي أقرب هذه الدول وضعاً للعب دور دولة المركز القاطرة للعالم الاسلامي: جيش قوي، تقاليد عسكرية، تركيا سليلة إمبراطورية كانت قوة عظمى، عضو في الناتو، اقتصاد قوي ومستقر نسبياً، موقع جغرافي مميز، تنوع اثني وطائفي، تقاليد علمانية قوية، نظام سياسي تعددي نسبياً، قوة إعلامية ناعمة….
ركزت العقلية الغربية على استهداف دول المركز في الجبهة المضادة، واشغالها واستتزافها، هكذا نفسر تمدد حلف الناتو نحو روسيا، وهكذا نفسر الاستثمار الاقصى لاوكرانيا كخاصرة رخوة لروسيا، هكذا نفسر أيضاً محاولة حصار الصين، عبر إقامة تحالفات مناوئة لها سواء كانت عسكرية أو اقتصادية، أو عبر إبقاء موضوع تايوان مشكلة مستمرة وشاغلة و مستنزفة للصين….
كما قلنا اعلاه، لايوجد في العالم الإسلامي دولة مركز، وقد يكون العالم الإسلامي هو بيضة القبان في الصراع مابين الشرق والغرب، وبما أنه من المستحيل أن تكون الكتلة الإسلامية كمجتمعات وشعوب جزءً من المعسكر الغربي، بسبب تباين المنظومات الأخلاقية الحاد، لجأت الولايات المتحدة إلى الاستثمار في الاسلام السياسي، لاستغلال فائض القوة الهائل الذي يملكه العالم الإسلامي في هذا الجانب لصالحها في الصراع….
شكل الإخوان المسلمين الذراع الطولى للمعسكر الغربي لتطويع امكانات العالم الإسلامي لصالح هذا المعسكر، ومن نافلة القول أن كل تنظيمات الاسلام السياسي التي نشأت لاحقاً، سواء كانت سياسية أو عسكرية، نشات من رحم الاخوان فكراً وتنظيماً ومثالاً، وقد أدوا دورهم على أكمل وجه في خدمة مشاريع المعسكر الغربي….
أعود واكرر لايمكن أن يكون العالم الإسلامي حزءً من المعسكر الغربي قولاً واحداً، هناك اختلاف عقائدي وأخلاقي وقيمي حاد، تريد الولايات المتحدة من هذا العالم فحسب استثمار فائض القوة العقائدية والاقتصادية لديه لصالحها، عدا عن أن توظيف فائض القوة هذا يحرم المعسكر الشرقي منها….
يأتي في هذا السياق ماسمي الربيع العربي، عبر استثمار النموذج الاسلامي في تركيا الدولة والمجتمع، ليكون القاطرة والمثال الذي يجب أن يحتذى على مستوى العالم الاسلامي، لذلك قلنا أعلاه استنتاجاً، أن تركيا هي أقرب دول العالم الإسلامي لتكون دولة مركز له، وهذا الأمر قد وعته الدوائر الغربية وسعت لاستثماره، وكانت وسيلة تمرير أو فرض ذاك النموذج الأداة الطيعة دائماً، الإخوان المسلمين….
لم يعرف العالم ولن يعرف، وقد يعرف إن أنصف التاريخ، الخدمة الكبيرة التي قدمتها له سوريا أنها لم تسقط في سياق موجة الربيع العربي، وخاصة في السنتين الاولين، 2011 و 2012، عندما كانت تواجه لوحدها، وكل ماتلى ذلك كان انتقاماً من الشعب والدولة والجيش أنهم أوقفوا مدحلة الربيع العربي، صمود سوريا خلال هذين العامين، شجع الجيش المصري على القيام يانقلابه عام 2013 على حكم الاخوان، وشجع التوانسة على القيام بخطوات مضادة ضد حكم الاخوان…
أفشلت سوريا مشروع تطويع امكانات العالم الإسلامي لصالح المعسكر الغربي على المدى القصير، وتراجعت قوة وسطوة ومكانة الإخوان عالمياً نتيجة ذلك، وبشكل كبير، ولأن ورقة الإخوان قد احترقت، تم الانتقال إلى خطة مغايرة بالمطلق، فإن كان من الصعوبة استثمار فائض القوة العقائدية عند العالم الإسلامي لصالح المشروع الغربي، فلا يجب أن يسمح لفائض القوة هذا أم يكون سلاحاً عند المعسكر المقابل…
لذلك كان ذاك الانقلاب السياسي في السعودية، ووصول محمد بن سلمان إلى سدة الحكم فيها، وان لم يصر ملكاً ولكن بيده حالياً كل مقاليد الأمور….
محمد بن سلمان ليس مجرد شخص، إنما يمثل مشروعاً، أو الأصح أداة المشروع، وكل مايقوله أو يطرحه من أفكار ليست أفكاره أو رؤيته، فهو أقل من أن يفكر، الانقلاب الفكري والعقائدي والثقافي الذي يقوده محمد بن سلمان هو هذا المشروع….
أعرف أن الكثير من سكان السعودية والكثير من المسلمين على طول العالم الإسلامي فرحون بهذا الانقلاب، لاسيما أنه تم تزيين ذاك الانقلاب ببدء التخلي عن الوهابية وعقيدتها المتشددة، وهنا يكمن السم في العسل، هذا لم يكن إلا حقاً يراد به باطل، التخلي عن الوهابية ومخرجاتها، هو الخطوة الأولى باتجاه صياغة دين جديد مختلف كليا، ينسجم في تعاليمه ومخرجاته مع المنظومة القيمية الغربية، وكما كانت الوهابية دينا جديدا تم ابتداعه ليكون بديلاً عن دين محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، ووسيلة غربية لتطويع العالم الإسلامي لصالح الغرب، سيكون كذلك هذا الدين الجديد الذي يقود مشروعه محمد بن سلمان، وخذوا علماً والايام بيننا، ستكون مدينة نيوم التي يتم بنائها حالياً هي مكة الجديدة، وهذا موضوع سنتحدث عنه لاحقاً في جزء آخر….
قد تكون إيران الدولة والمنظومة الثقافية والفكرية النموذج الذي يتحدى أو يعارض أو النقيض لما يقدمه أو سيقدمه محمد بن سلمان…
تشكل إيران نموذجاً فريداً ومميزاً في العالم الاسلامي، ولولا الاختلاف المذهبي، لكانت الدولة المرشحة الاولى، بل الوحيدة، أن تكون الدولة المركز للعالم الاسلامي، سليلة حضارة عظيمة، شعب عبقري وجميل، موقع جغرافي مميز، دولة عريقة، جيش قوي، تقاليد عسكرية، قاعدة صناعية وعلمية قوية، إرث ثقافي وفكري جبار، منظومة ثقافية وفكرية وفنية منتجة ومبدعة، نظام سياسي مستقر، تداول للسلطة ضمن منظومة سياسية محددة، طموح جيوسياسي، عقيدة فارسية ليس لديها عقدة النقص….
النموذج الفريد الذي تقدمه ايران، أنه ومن دون الاعتماد على المنظومة الغربية، سواء كان ذلك عبر تحالفات أو مساعدات أو قواعد عسكرية، أو عبر المنظومة التجارية والاقتصادية الغربية، صندوق النقد الدولي، أو البنك الدولي، أو اتفاقية التجارة العالمية، يمكن بناء دولة قوية على كل المستويات، ومستقلة الإرادة و القرار….
هذا هو النموذج الذي تقدمه أيران، وهو النقيض المطلق لفكرة السيطرة والاستعباد الغربية، وهذا أمر يرعب المعسكر الغربي، أن تصير إيران الفكرة والرؤية مثالاً يحتذى…..
لذلك كان هذا الاستهداف والتضييق والعقوبات على إيران على مدى العقود الماضية، هنا اريد أن أشير إلى نقطة مهمة، لاتوجد دولة في العالم إلا وفي داخلها توجد عوامل الانقسام أو الاقتتال الاهلي، أو عدم الانسجام أقله، حتى ولو كان كل شعبها من نفس المذهب أو نفس القومية، والفيصل في استقرارها أو عدم استقرارها هو التدخل الخارحي، فلو أنه وعلى سبيل المثال قررت بريطانيا وألمانيا واسبانيا العبث بالداخل الفرنسي، لوجدوا الف سبب وسبب، ولكانت النتيجة حرب أهلية في فرنسا….
لا اوافق النظام السياسي في إيران على بعض الامور، وتحديداً واهمها على الطابع الديني والمذهبي للدولة، و إن فصلت اكثر، لا اوافقه على إرادة فرض العقيدة ومخرجاتها العقائدية والطقوسية على الناس، وحسناً فعلوا في ايران أنهم الغوا شرطة الاخلاق، الأخلاق في المجتمع لايتم فرضها عبر السلطة أو القوة، المجتمع نفسه عبر ثقافته ومنظوماته القيمية يحدد المنظومة الاخلاقية، فيما خص كل شيء، بما في ذلك اللباس، القاعدة الشرعية تقول لا إفراط ولاتفريط، والشرطة الأخلاقية نوع من الإفراط…
ولكن دعونا نتأمل هذه الملاحظة أو المفارقة المهمة، وهذا يدخل في صميم موضوع هذا البحث ككل، في الحراك الذي يحصل في إيران حالياً، سواء ماهو في الداخل الايراني، أو على مستوى الخارج، هل لاحظتم أو عاينتم ولو مطلب واحد له علاقة بالامور المعيشية أو الحياتية أو الخدمية للايرانيين؟؟..قولاً واحداً لا، كل الحراك يتمحور حول مايسمى حقوق النساء في ايران، ويتم اختزال الأمر وبشكل مقصود وممنهج باللباس، وتحديداً الحجاب، ومرة أخرى هذا هو الباطل بعينه، وليس منه أي قصد إلا المزيد من الباطل، وماحفلات قلع الحجاب أو قلع الملابس وصولاً إلى التعري إلا دليلاً على مانقوله…
ليست القصة هي قطعة القماش هذه، وان جعلت هذه القطعة الحجة لذلك، قطعة القماش هذه ليست إلا حجة أو وسيلة، الغاية هي المنظومة الأخلاقية القيمية، لا اعتقد أنه وعلى مستوى العالم يوجد كالمراة الإيرانية فاعلة ومؤثرة في مجتمعها، وعلى كل المستويات، الفكرية والثقافية والفنية والاجتماعية والسياسية والعلمية، الحراك يريد نموذجاً آخراً للمرأة الايرانية، يريد نموذج المرأة السلعة، هذا النموذج الذي يتوافق كلياً مع المنظومة القيمية الغربية، عبر إثارة موضوع حقوقها، والتي لاتجده تلك المنظومة الغربية إلا في حقها في التعري، والاستقلالية المطلقة والحرية المطلقة ولو على حساب العائلة والأسرة…..
أحد الأمور التي لا افهمها في ايران، هي فتوى الخميني بعدم شرعية حيازة السلاح النووي، على فكرة كل الطوائف الدينية الكبرى في العالم لدى دولها الرئيسية السلاح النووي، البروتستانتية تمتلكه عبر امريكا، الكنيسة الانغليكانية عبر بريطانيا، الكاثوليكية عبر فرنسا، الأرثوذكسية عبر روسيا، البوذية عبر الصين، الهندوسية عبر الهند، الطائفة السنية عبر باكستان، اليهودية عبر الكيان الصهيوني، حتى الملحدين عندهم قنبلتهم عبر كوريا الشمالية، وحدها الطائفة الشيعية من الطوائف الدينية الأكبر في العالم التي ليس لديها القنبلة النووية، وهنا اريد التذكير أن أمريكا هاجمت العراق عام 2003 ليس لأنه يمتلك أسلحة دمار شامل، إنما هاجمته لانه لا يمتلكها….
ختاماً، في كأس العالم الأخيرة، وبعيد نهاية مباراة الولايات المتحدة وايران، وفوز الولايات المتحدة في تلك المباراة، وعندما وصل الخبر إلى الرئيس الامريكي جو بايدن، وكان يحضر حفلاً ما، هرع مسرعاً وهو العجوز إلى المكرفون ليعلن الخبر بكل فرح ونشوة، هذا التفصيل يخبرنا حجم الخطر الذي يشكله النموذج الإيراني على المنظومة القيمية الغربية….
يتبع….