تخطى إلى المحتوى

صناعة الإنسان

*د. نبيل طعمة

تعلمنا كيف نثقب الإبرة، لكننا بقينا نستورد آلة ثقبها، غرقنا في قراءة الفنجان والكف وإخراج الجن وممارسة الجنس بالشبق والشهوة والعاطفة بدون حب أو علم، ذهبنا نستورد الأفكار وقدسنا الطقوس والعبادات وجرينا خلف التاريخ بما فيه من غث وثمين، ومازلنا نتغنى به ونتقمصه ونحن في عصر التكنولوجيا والفضاء وإبداعات الذكاء الصنعي، تركنا العلماء والحكماء فتمكن منا التخلف، ورغم ما نملكه من موارد، يجدنا الآخر نستورد أدوات استخراجها دون أن نستطيع تصنيعها، استسهلنا استيراد الأفكار رغم تعلمنا وفهْمنا طرق إبداعها وصياغتها، فأين تكمن المعضلة؟ هل استسلمنا لاستيراد كل شيء؟ وأين تتراكم المشكلات؟ هل في الموروث التاريخي الذي يصرّ على بقائنا خلف ثقافات الطوائف والمذاهب والعرافة والشعوذة التي تدمر العقول، دون أن نعمل على بناء الأفكار وتحويلها إلى جسور للعبور إلى الأمام، وأن نبقيها في حالة اجترار واستهلاك وانهيار للدول والمدن والبلدان، وإعادة إعمارها بالطرق القديمة ذاتها حسب ما يريده الآخر، الراغب أبداً في بقائنا ضمن الجهل والتعلق بالأطلال، فنجد إنساننا في حالة رعب وهلع، مما يدفع الناس لأن تلوذ بأديانها وطوائفها ومذاهبها وتغزوها الشائعات ويتحول الأصدقاء إلى أعداء والشرفاء إلى سفلة وخونة وأغبياء، تحاك الدسائس وتكثر النصائح وتُطرح المبادرات من قبل الوسطاء الراغبين في استمرار الحال على ماهو عليه، وتدمير أو إبعاد القادرين على الخروج منه، وإبقاء البسطاء يبحثون عن مخارج وسبل عيشهم بين النزوح والهجرة، المهم أن الكل يغدو في حالة تأهب وانتظار للخروج مما هم فيه، المؤمنون والوطنيون فقط يتقدمون، يحملون الرايات، يدافعون عن أوطانهم وكرامتهم باستبسال.
ليس من السهل التفكير في استنباط نظم تطوير العقول المغلقة أو النفاذ إليها كي يتم مسح بعض ما اعتادت عليه، وإدخال منظومات تطويره بحكم واقع التفاصيل المعيشة يومياً، هذه التي تجترّ من الماضي أكثر مما تؤمن بما تراه في الحاضر، فكيف بها تتغير وهي تحيا صراعاً دائماً بين الاحتياجات والأمنيات، بين الاكتفاء بمراقبة الثورات المعرفية وتقنيات المعلومات ووسائل التواصل، والانخراط في تحليلها وامتلاك نواصي علومها والانخراط في إسهاماتها، إنساننا الآن يحيا بين خيارات متناقضة ومخفية، والأهم من ذلك أنها تائهة، والأجيال الجديدة التي تتقدم إلى الحياة مضطربة بين التمسك بالماضي أو الذهاب إلى المستقبل، الأول الممتلئ بثقافات الغزو والغنائم والذهاب إلى الجنان بعد الوفاة، بدلاً من صناعتها في الحياة، ومن ثم التمتع بها، والثاني الذهاب إلى الليبرالية وما فيها من مثلية المعتقد وخياراتها التي تفقد الإنسان حصانته الأخلاقية والروحية، وبين هذا وذاك أجد أن حالة من الضياع بدأت تسود فكر الأجيال، وهي في الوقت ذاته فرصة هامة جداً تستدعي الدخول إليها والبناء من خلالها لإظهار فكر خلاق يؤمن بالحياة وصناعتها، التي بها تكمن الجنة بل الجنان.
صناعة الإنسان تعني صناعة الجنة التي تحمل الحياة وجمالها، له ولمحيطه، وعندما نحسن صناعته سيعطي للحياة الحب والعمل والأمل بدلاً من انتظاره الموت، كي يذهب إليها أو يبقى في حالة تخيّلها، كما هو حال إنسان الصحراء الذي يرى في مد بصره سراباً ليحسبه ماءً وحوله الحور العين والبساتين والفيء والثمار، وكثيراً ما أسأل: لماذا أكتب وأؤكد على لفظ الإنسان؟ وأجيب: لأن الإنسان قليل والبشر كثير، وبيد الندرة فيه تحويل الكثير من البشر إلى إنسان، لاسيما وأن وقتنا الراهن امتلأ بالأحلام الواهية والاستهلاك السريع، وطالما أننا فقدنا جودة المنتج؛ أي أننا فقدنا الإنسان الذي بدأ يتحول بسرعة إلى بشر، والذي أُعيد تعريفه دائماً في كتاباتي على أنه (بدء شر وشراهة وشهوة) نتاج انتشار الفوضى العارمة القادمة من الضغط الاقتصادي الذي أظهر خللاً كبيراً بين البسطاء والفقراء قليلي الدخل، والندرة الثرية التي انتشرت بين المطاعم المفتوحة على المارة وأمام أعين الجميع، والسيارات الفارهة المحمية من مرافقتها، لتقف المارة وتنظر بحسرة وتحلم، بعد أن تمتلئ أحلامها بالحقد والحسد والغيرة القاتلة، ربما يقول قائل بأن مثل هذه الحال موجودة في دول أخرى، وأقول: صحيح؛ ولكن هناك دخل لمواطني تلك الدول يسمح للكل بأن يدخل ويأكل أو يشرب ما يريد، ويقتني السيارة التي تتناسب مع دخله.
الإنسان المتقدم إلى الأمام علمياً ومعرفياً هو الذي يصنع الإنسان، كما المعلم يصنع التلميذ، لذلك أجد أن صناعة الإنسان أهم من أي صناعة أخرى، لأن صناعته بشكل جيد تعني أنك تخلق فيه صناعة الجنة التي سيحيا فيها ويحولها مع الآخر إلى جنان، إذاً صناعة الإنسان تعني صناعة الحياة، وهذا يؤكد مفهوم الجنان على الأرض، وإن أسأنا صناعته فهذا يعني أننا نسهم في تحويل حياته إلى جحيم، فهل نتفكر في كل ذلك؟..

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
Print

إقرأ أيضامقالات مشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

تابعونا على فيس بوك

مقالات