
غسان كامل ونوس:
قد يبدو الحديث عن الثقافة في هذه الظروف الكارثيّة، انفصالًا عن الواقع المأساويّ، أو ترفًا أمام حشد من الجائعين والمحزونين والقلقين والخائفين والمحاصرين، أو صراخًا في صحراء لدى منغلقين ومبرمَجين ومنتشين! لكنّني أرى أنّ موضوعة الثقافة حاضرة في أسباب ما جرى وعوامله وغاياته، وفي تفاصيل ما يجري وأبعاده، إلى درجة مهمّة؛ وهي كفيلة بالخلاص منه؛ بهذه الصورة أو تلك؛ ولو بعد حين وحين. لقد أهملنا الثقافة، ودجّناها، وقولبناها؛ بما يخالف جوهرها القائم على الحيويّة والتفلّت من القيود والحدود المصنّعة والمفترضة والموهومة؛ فوصلنا إلى ما نحن عليه الآن. ونغيّب الثقافة ونغتالها باطّراد؛ بفرض الغيبيّات والمقدّسات من المحفوظات والمؤوَّلات، واستبعاد التفكير العقليّ الواعي المنفتح الخلّاق؛ لنستمرّ في الغيّ والجهل والحقد والهيمنة والاستباحة. وبما أنّ علينا أن نسعى إلى الخروج ممّا نحن فيه بأقلّ الخسائر، فلا مفرّ من الثقافة، ولا غنى عنها؛ وإن كان الواقع ينبئ بسوى ذلك، والمقروء لا يبشّر؛ على الصعد الخاصّة والعامّة، الشعبيّة والرسميّة. وإذا كان مفهومًا غياب الثقافة ومفرداتها وتداولاتها عن المسرح الشعبيّ المحتشد بالعروض المأساويّة، أمام أولويّات الحاجات الحياتيّة في حدودها الدنيا، من أمن وأمان وخبز وماء وهواء؛ فإنّ استيعاب الحزن، وتضميد الجراح، ولملمة ما تبقّى من مزق الصبر والمصابرة؛ كلّ هذا وسواه من البحث عن هدهدة أو كفكفة أو استقواء، يحتاج إلى ثقافة؛ وبعد هذا، ومعه ربّما، تفهّمٌ وتشبّث وتحدّ، ومغالبة الانهيار والاستسلام والفناء، وقابليّة الصمود والمقاومة والبقاء. لكنّ غير المفهوم، إذا ما أحسنّا الظنّ، هذا الانكفاء الرسميّ عن الثقافة، والغموض القاتم على صعيد عمل المؤسّسات الثقافيّة، والغياب التامّ للثقافة وفعاليّاتها ومصطلحاتها ومفهوماتها وأدبيّاتها عن المشهد الميدانيّ؛ حيث يخيّم الجمود القاتل، والصدى المغبرّ، على كلّ ما يتّصل بالثقافة مادّيًّا ومعنويّا؛ هياكلَ وموائلَ ومعنيّين، رموزًا ومهتمّين، سيولة ومخرجات؛ وكلّ ذلك وسواه علامات بالغة المعنى والدلالة على مواتِ حاضرٍ، وعزوفِ مستقبل.
***
غسان كامل ونوس







