*بقلم د. جوليان بدور
شاءت الأقدار انني ولدت في حضن عائلة ريفية تسكن قرية صغيرة نائية ومعزولة كجزيرة صغيرة تائهة في أعالي المحيطات لا صخب فيها ولا ضجيج . لم تكن قريتي حلم معلق بين السماء والأرض. هي قطعة من الجنة تحرسها الجبال والهضاب والسفوح من كل الجهات ، وتغمرها أشجار السنديان والغار والحور والتفاح بالدفء والحنان، وتروي عطشها وظمئها العيون والينابيع العذبة المنبثقة من كل مكان.
في المساء تغفو قريتي على نسيم معطر برائحة الورد والزعتر والبنفسج وتصحوا على أغاني العصافير وهمسات النسيم العليل القادم من أعماق الوديان.
كل شيء فيها رقيق صاف وجميل…هواءها خالي من التلوث، مناخها معتدل، طبيعتها عذراء لم تشوهها يد الإنسان وعصافيرها وفراشاتها تلهوا وتعزف أعذب الألحان..
سكانها فقراء بسيطون لكنهم أغنياء بالحب واللطف والكرامة. لا يملكون من الدنيا أموال كثيرة لكنهم يملكون أغلى ما في الحياة : قلوباً بيضاء صافية نقية معمرة بالحب والايمان .
لكن نعومة هذه اللوحة الرومانسية وبساطتها لم تكن تخلو من ظلال المشقة وصعوبات الحياة .فالسفر إلى المدينة لم يكن نزهة ممتعة كما يتخيل البعض. كانت مغامرة شاقة مليئة بالصعاب والمفاجآت . فبالاضافة إلى الاستيقاظ في منتصف الليل (الساعة الثانية أو الثالثة صباحاً )، كان علينا قطع الجبال والوديان مشياً على الأقدام في الظلام الدامس وتحت زخات الثلج والمطر والصقيع الذي يخترق العظام. كما أن الطريق لم يكن ميسراً وآمناً. فخلف الأحراش والصخور كانت تنتظرنا الكثير من المفاجآت… ضباع تتسلل في الخفاء، وذئاب تراقبنا من بعيد لتنقض علينا وترهبنا .
في بداية السبعينيات شهدت عائلتنا الرصينة حدث هام زعزع وحدتها وسعادتها وهدوءها وألفتها المعتادة. لأول مرة منذ وجودها سيغادرها أحد أفرادها نهائياً. أنه زواج أختي الأكبر مني سناً من أبن عمتي القاطن في مدينة حلب. الحدث مهم وليس عادي بالنسبة لي . ليس فقط بسبب طبيعة علاقة الأخوة والتفاهم والصداقة والانسجام القوي بيني وبينها أو لكوننا ننتمي لحلف السمر الحلوين في العائلة (على عكس من ينتمون لحلف الشقر الأقل حلاوة وجاذبية)، وإنما أيضاً بسبب الفراغ الهائل الذي ستتركه وراءها في المستقبل .
جميلة، ساحرة وفاتنة، ما أن بلغت أختي سن الرشد حتى تهافت الخطاب من كل حد وصوب لطلب يدها. لكن نظراً لانعدام فرص اللقاء والتخالط بين ابناء القرى بذلك الوقت، لم يكن التعارف والتفاهم من يقرر مستقبل العلاقات العاطفية . علاقات الأخوة والقرابة بين العائلات هي التي كانت تلعب دوراً مهماً في تقرير مستقبل الشباب والفتيات . عائلتنا لم تخرج عن هذا العُرف. أبي وأخته المقيمة في مدينة حلب، اتفقا بسرعة على إتمام صفقة زواج ولديهما.
في بيت لم يألف الفُرقة والبعد بين الأخوة ، شكل رحيل ز هرة البيت ودفء الأيام غمامة حزن ثقيلة خيّمت على أرواحنا جميعاً لمدة طويلة . لكن بالحياة لكل حدث وجهان : وجه إيجابي وآخر سلبي . فاذا كان فراق اختي أحزنني كثيراً، إلا أن هذا الأمر فتح لي نافذة جديدة على العالم .من الآن وصاعداً اصبح بأمكاني زيارة مدينة حلب الشهيرة، المدينة التي هام بها الشعراء، وتغنّى بها الكتّاب، وكتب عنها التاريخ على جدران قلعتها الشامخة .
في بداية العطلة الصيفية ، همس لي والدي بكلماتٍ أدخلت الفرح والبهجة إلى قلبي : “ستزور أختك في حلب” في الصيف المقبل. وسأقوم بشراء بنطلون لك لأول مرة لكي تكون سعيد وأختك فخورة بك ولحتى تتجنب سخرية أبناء المدينة منك. يجب التذكير بأن الزي الدارج بين سكان القرى حتى بداية السبعينات كان السروال وكانا ابناء المدينة لا يترددون بالسخرية من أبناء القرى بسبب ارتيادهم لهذا النوع من اللباس.
انطلقنا أنا وصديقي غازي من قريتنا الساعة الثالثة صباحاً. كل واحد حامل حقيبة بيضاء (لم تكن حقيبة بل كيساً من قماش) يزن حوالي ١٠ كغ . المسافة التي كانت تفصلنا عن قرية دورين حيث تبيت “البوسطة” أو حافلة النقل، تستغرق حوالي ساعتين مشي على الأقدام . بعد أن مضينا حوالي نصف ساعة تقريبا وتجاوزنا وادي الضيعة وصلنا إلى قمة جبل متوسط الارتفاع للقرية أسمه “الحروف” . الجبل مكون من الصخور والتراب الكلسي ذات اللون الأبيض.
بعد تجاوزنا قمة الجبل بدأت النزلة وأسرعنا بالمشي بالرغم من أن الظلام ما زال يخيم على الطريق. في لحظة غفلة،…مشيت على صخرة مبلولة بالندى وانزلقت رجلي وهوى جسدي وسقطت على الارض بدون سابق انذار.
التفت الي صديقي وصرخ “ولك شو صار فيك؟”. قلت له، وصوتي يرتجف من الخوف ، وقعت على الأرض. قال بقلق بس ما يكون انكسر فيك شيء. أجبته لا ما انكسر فيني شيء ! بس، بس شو ؟ قلت له البنطلون انفتك وانشرط من قدام ومن ورى. ولسوء الحظ مافي البسة داخليّة تحته ( والمستور صار مبين لكل العالم). في ذلك الوقت لم يكن دارج بعد الملابس الداخلية تحت البنطال. آه يا مصيبتي (يا ويلي على هالبلوة) ، تبهدلنا ماذا سيقول عني الناس. ينعل البناطرين وينعل هالموضة الزفت . اكيد لو ضليت لابس سروال ما صار فيني يلي صار. الموقف محرج ومخجل: هل سأستمر بالرحلة مع بنطلون مخذوق ومهلل من الطرفين وماني لابس تحته شيء أم سأعود إلى البيت والغي الرحلة ؟
تنهد صديقي وقال لي :
“حظك نحس يا وحيد بس ما لازم نروح رحلة العمر علينا” .
ما يهمك عندي حل الك. معي دبوس صغير راح أعطيك إياه تشبك فيه بنطلونك من قدام. هيك “بتنستر” شوي وما حدى بيشوفك . كمان إذا مشينا بسرعة ووصلنا على البوسطة بكير قبل ما يجي الركاب ما حدى راح يشوفك. بعد أن اتفقنا على مواصلة الرحلة كانت كل ثانية وكل دقيقة تفصلنا عن البوسطة بتساوي عندي عمر.أسرعنا بالمشي ووصلنا إلى البوسطة قبل وصول الركاب. صعدت أنا وصديقي بسرعة وجلسنا بجنب بعضنا البعض.
لكن الحياة علمتني ، بانه في أحلك الظروف علينا أن لا نيأس ولكل مشكلة حل وفي كل مأساة نواة أمل. عند وصولنا لطريق حلب وقبل نزولنا من البوسطة وضعت كيس الأغراض أمامي وطلبت من صديقي المشي ورائي. هيك ماحدا راح يشوفني وانا عم انزل من البوسطة.
عند مكان نزولنا من البوسطة على على طريق حلب شاهدت بيت قريب من مفرق سلمى . قلت لحالي روح شوف اهالي هالبيت بلقي عندهم الة خياطة منزلية متل أمي. دقيت عباب الدار. فتحت لي أمراة بعمر والدتي المرحومة وقالت لي تفضل يا ابني شو بتريد. قلتلا ياخالتي بصوت يرتجف وعنينين على الأرض بدي منك خدمة صغيرة ياخالتي ما تواخذيني . قالت تفضل يا ابني شو هيي. قلتلا رايح زور أختي بحلب. بس أنا وماشي عالطريق تزحلطت ووقعت على الأرض ونشرط بنتطروني متل ماشايفه. إذا عندك آلة خياطة بطلب من حضرتك تخيطيلي هالبنطرون ومتل ما بدك بعطيك. قالتلي اي والله عندي الة خياطة ومانك رايح ومخيطلك بنطرونك. تفضل قعد يا أبني. المرأة رجعاني من قطاف الدخان وقاطفي شوال جنفاص مليان دخان ودياتها مليانين دبق. قالت لبنتها حطي إبريق الشاي على الغاز وحضريللو لخيك كاسة شاي . جابت المرأة آلة الخياطة وخيطتلي البنطلون وشربوني فنجان شاي.قلتلا الله يكتر خيرك يخالتي كلك ذوق ومعروف . بدي أسألك شو بتريدي سعر خياطة البنطلون. قالتلي يا ابني ما بدي إلا سلامتك الله يسهلك ويسرا بدربك.
هكذا بدأت رحلتي بكارثة، وانتهت بدفء لا يُنسى. كرم وضيافة وعطف ونخوة وحنان هذه المرأة حولت الكارثة التي ألمت بي إلى حلم وأمل جديد. هكذا من رحم المأساة ولد الأمل.
هذه القصة ستبقى مخلدة بذاكرتي للآبد. واقولها وبصراحة بعد كل هذه السنوات الطويلة التي قضيتها ك في بلاد الغنى والترف، لا زلت أحن إلى بساطة تلك الأيام. إلى خبز التنور، إلى الشاي المغلي على موقد الحطب، إلى الناس الذين كانوا لا يملكون أموال كثيرة، لكنهم كانوا يملكون أغلى ما بالحياة : غيرة ومحبة وكرامة وشرف وقلوب بسيطة ونقية وبيضاء .
لكن ما هي الرسالة الذي أود قولها من كتابة هذه الذكريات؟ ما أود قوله هو أننا، نحن السوريين، ننتمى إلى بلد ذو حضارة وتاريخ قل نظراءهما بالعالم والى شعب قلبه مليئ بالرحمة والشفقة والنخوة والحنان. بالنسبة لي السوريين من سلالة الكرام والنبلاء. قد تعصف بنا الأزمات، وقد نتهاوى لحظة، لكننا دائمًا ننهض من جديد كما نهضنا في غابر الايام. عشتم وعاشت سورية موحدة حرّة معززة وأبية
• باحث واكاديمي من أصل سوري في جامعة ريونيون الفرنسية







