تخطى إلى المحتوى

من الظلام إلى التضخم: كيف تُغذي أزمة الكهرباء الاقتصاد المنهك في سورية

*دانيا عبد الغني النابلسي

في ظل التحولات الجيوسياسية وأزمات الطاقة العالمية، لم يعد التضخم ظاهرة داخلية تخص الدول النامية فحسب، بل بات مرآة لهشاشة الارتباطات الاقتصادية في عالم متشابك. وفي سورية، حيث تتداخل الصدمات الداخلية مع الضغوط الخارجية، حيث تمثل أزمة الكهرباء نقطة انطلاق لفهم ديناميكيات التضخم في سياق استثنائي.

الكهرباء: من خدمة غائبة إلى محفز تضخمي:
انقطاع الكهرباء لم يعد عارضاً تقنياً، بل تحول إلى أزمة بنيوية تؤدي إلى تضخم متسلسل. يضطر المواطنون لشراء المياه من صهاريج خاصة بسبب تعطل المضخات، ما يزيد من كلفة الإنفاق ويعيد تعريف الفقر النقدي. أما المولدات الخاصة، فباتت رمزية للصمود لكنها تشكل عبئاً اقتصادياً في ظل ارتفاع أسعار الوقود وتراجع الإنتاج المحلي للمازوت والغاز.

تعتمد سورية على الطاقة الحرارية المكلفة، وتبلغ تكلفة الكيلوواط/ساعة نحو 12 سنتاً بالدولار، بينما لا تتجاوز القدرة الإنتاجية 1300 ميغاواط من أصل حاجة تبلغ 6500 ميغاواط. هذا العجز البالغ أكثر من 80٪ يؤدي إلى سلاسل تضخم تطال الخدمات والسلع والمستلزمات الإنتاجية.

التشوهات النقدية والمالية الداخلية:
– توسع العرض النقدي لتمويل العجز أدى إلى تآكل قيمة الليرة، فيما يُعرف بالتضخم البنيوي.
– ضعف التنسيق بين السياسات المالية والنقدية أعاق السيطرة على الأسعار، لا سيما في بيئة ما بعد الأزمة.
– فقدان الثقة بالعملة دفع المواطنين للتحوط بالدولار والذهب، ما زاد من اضطراب سلوك السوق.
هذه المعطيات تتقاطع مع نظريات “التضخم المدفوع بالتكاليف”و”التضخم السياسي”، حيث تساهم التدخلات الحكومية غير المدروسة في تفاقم عدم الاستقرار النقدي.

العلاقات الاقتصادية الدولية كقوة ضاغطة:
– العقوبات المفروضة على سورية رفعت كلفة استيراد المواد الأساسية، ما انعكس مباشرة على أسعار السلع.
– تقلبات سعر الصرف أدت إلى تضخم متسارع، لا سيما في ظل اعتماد الاقتصاد المحلي على الحوالات والتهريب.
– تراجع المساعدات الدولية أضعف القوة الشرائية وزاد من الضغط على القطاعات الحيوية.
نظراً لغياب البيانات الشفافة، لا تنطبق النماذج التحليلية الدولية على الحالة السورية، ما يستدعي تطوير مؤشرات محلية بديلة أكثر واقعية وفاعلية.

من لبنان إلى فنزويلا: دروس مقارنة:
تظهر التجارب في لبنان وفنزويلا أن التضخم في ظل الأزمات السياسية يتحول إلى عنصر يعيد تشكيل الهياكل الاجتماعية. ففي لبنان مثلاً، أدت سياسات تثبيت العملة دون إصلاحات بنيوية إلى انهيار شامل، ما يطرح سؤالًا جوهرياً: هل تمثل السياسات النقدية وحدها مخرجاً؟ سورية بحاجة إلى مقاربة أوسع تعيد تقييم أدوات التضخم في ضوء واقعها الجغرافي والسياسي.

وعود ما بعد التحرير في سورية والاختبارات الواقعيّة:
بدأت الحكومة السورية بإطلاق مشاريع لإعادة تأهيل قطاع الكهرباء، منها محطات غازية وشمسية بطاقة تصل إلى 5000 ميغاواط. تم توقيع اتفاقيات دولية بقيمة 7 مليارات دولار مع شركات من قطر وتركيا والولايات المتحدة، إلى جانب اتفاق لتزويد سوريةبالغاز عبر الأردن. كما وافق البنك الدولي على منحة بقيمة 146 مليون دولار لدعم البنية التحتية الكهربائية. لكن السؤال يبقى: هل هذه المشاريع كافية لكسر الحلقة التضخمية؟ وهل ستنعكس فعلياًعلى قدرة المواطنين في تلبية حاجاتهم الأساسية؟

توصيات تنفيذية:
– إنشاء وحدة مستقلة لضبط سعر الصرف خارج المصرف المركزي ترتبط مباشرة بالقطاع الإنتاجي.
– تسعير الخدمات تدريجياً وفق سلة عملات لتخفيف التبعية للدولار.
– دعم الطاقة البديلة في المناطق الريفية لتقليل كلفة الإنتاج وتعزيز الاستدامة.
– إعادة صياغة العلاقة مع المؤسسات الدولية بناء على مؤشرات واقعية تعبر عن البيئة السورية الفعلية.

 

*باحثة دكتوراه في العلاقات الاقتصادية الدولية والسياسات العامة

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
Print

إقرأ أيضامقالات مشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

تابعونا على فيس بوك

مقالات