
عبد العزيز محسن:
ليس أمراً جديداً أن تنظم منظمة “الفاو” ورشات عمل ومؤتمرات ولقاءات متخصصة لدعم القطاع الزراعي وتعزيز قدرته على الصمود.. فمنذ سنوات طويلة نتابع هذه الأنشطة، لكن دون أن نرى انعكاساً واضحاً لها على أرض الواقع.. ولا يعود ذلك إلى قصور في نوايا المنظمة أو كفاءة خبرائها، فهم قدموا ما بوسعهم من خبرات علمية وعملية، ونفذوا دراسات أخذت في الحسبان خصوصية الواقع السوري، إضافة إلى إطلاق برامج ومشاريع بتمويل كبير في عدد من المحافظات بهدف تمكين المزارعين وضمان استمرارية الإنتاج الزراعي في بلد يمتلك مقومات فريدة قادرة ـ لو أُحسن استثمارها ـ على تغذية المنطقة بأكملها.
ورغم الظروف الاستثنائية التي فرضتها سنوات الحرب والجفاف وغياب مستلزمات الزراعة الحديثة، إلا أن ذلك لا يبرر وصول الزراعة إلى هذا المستوى المتدني، فالمشكلة الأساسية تكمن في تقصير الحكومات المتعاقبة، وإهمالها لهذا القطاع الحيوي وحرمانه من أبسط أشكال الدعم.. فلا يمكن لمنطق اقتصادي أو واقعي أن يقبل بزراعة تُنتج وفق تكاليف مرتفعة ثم تباع بأسعار متدنية لا تغطي كلفتها، ما يدفع الفلاح إلى هجر أرضه، ويحمل البلاد خسائر اقتصادية ووطنية جسيمة.. فالدعم الزراعي جزء أساسي من الأمن الغذائي في كل دول العالم وهذا ما نفتقده اليوم في سوريا.
لقد تراجع إنتاج القمح إلى مستويات خطيرة، وأصبح اعتمادنا على الاستيراد شبه كامل، كما تراجعت زراعة القطن والشوندر وغيرهما من المحاصيل الاستراتيجية التي كانت سوريا تنتجها بكميات كبيرة تكفي حاجتنا وتزيد للتصدير.. وينسحب هذا التدهور على الزيتون والحمضيات والتفاح وباقي الأشجار المثمرة التي تواجه اليوم مشكلات إنتاجية وتسويقية معقدة ومركبة متعددة الأوجه.
ومع ذلك، تستمر منظمة الفاو في جهودها فتطلق المشاريع وتعد الدراسات وتدق ناقوس الخطر في كل مرة، وآخرها في ورشتها الأخيرة “يوم امس” التي خُصصت لبحث واقع الصادرات الزراعية وتعزيز تنافسيتها في الأسواق العالمية.. وقد أوضح المتحدثون أن الأمر لا يتوقف على الإجراءات الإدارية واللوجستية، بل يتطلب تحديثاً شاملاً للزراعة السورية وتوفير مقومات الإنتاج التي تتوافق مع شروط الأسواق العالمية.. وحتى لو توفّر فائض من منتج ما، فإن تصديره يصطدم بعقبات متعلقة بالمواصفات والمعايير وبقايا المبيدات، أو بعدم ملاءمة الأصناف المحلية للتحديثات العالمية وذوق المستهلكين.
للأسف، ما شهدناه في الطاولة المستديرة أمس، بحضور وزير الزراعة والجهات المعنية والقطاع الخاص، يدل على أن مستوى التفاعل والاهتمام لا يزال أقل بكثير مما تقتضيه خطورة الوضع.. بالطبع لم نكن ننتظر قرارات سريعة، لكن كان من الطبيعي أن يتم التعاون والتنسيق بين الوزارة والفاو على إعداد واعتماد منهجية قطاعية لكل منتج على حدة، عبر ورشات متخصصة لكل محصول كزيت الزيتون أو الحمضيات أو التفاح….، يتم خلالها تناول كامل العملية الإنتاجية والتسويقية بشكل منهجي بدل الاكتفاء بطرح عموميات تشمل جميع الصادرات دفعة واحدة..
ختاماً، لا يسعنا إلا أن نقدّر جهود الفاو والتزامها الملفت بدعم الزراعة بشقيها النباتي والحيواني، ونأمل أن تجد هذه المبادرات الاستجابة الحكومية المطلوبة.. فالمرحلة تستدعي تعاوناً حقيقياً لوضع استراتيجية إنتاجية وتسويقية شاملة تنبثق عنها خطط لكل محصول على حدة، وتوحيد الجهود للانطلاق من جديد، لأن واقع الزراعة في سوريا يحتاج اليوم إلى مراجعة جذرية لأدواته ومتطلباته وأساسياته.







