من المعهود أن الموزانة العامة للدولة تتوزع بين بندي الإنفاق الاستهلاكي والإنفاق الاستثماري، ولعقود خلت كان الإنفاق الاستهلاكي أو الخدمي يشكل نسبة كبيرة من هذه الميزانية على حساب الإنفاق الاستثماري الإنتاجي، تحت عناوين شتى واعتبارات متعددة، وكثيراً ما تبيّن أن نسبة غير قليلة من الأرصدة المخصصة للإنفاق الاستهلاكي والخدمي لم تكن في محلها كلياً أو جزئياً، ونسبة أخرى لم تفض إلى الغرض المنشود منه، ما أدى إلى تزايد ملحوظ في استهلاك تبذيري فردي وأسري ومؤسساتي لكثير من المواد، ترافق مع ضعف في إقبال الكثيرين على إنتاج كثير من حاجاتهم– ذات المنشأ المحلي أو المستورد- نظراً لتوفرها بين أيديهم وبأسعار زهيدة، ما كرس فوضى استهلاك وكسل إنتاج لدى كثيرين، وأثبت بالدليل القاطع أنه كان من الأولى أن يكون الإنفاق الاستثماري صاحب الحصة الأكبر على حساب المخصص للجانب الاستهلاكي والخدمي، الذي كان قليله يغني عن كثيره، والمؤسف والملفت للانتباه أن هذه الظاهرة المعهودة لا تزال مشهودة، رغم الوضع الاقتصادي المتعدد الأزمات الذي يتخبطنا والذي يتفاقم، ما يستوجب المزيد من التنبُّه والعمل على إعادة النظر في كثير من الإنفاق الاستهلاكي والخدمي، لصالح تنمية الإنفاق الاستثماري، بحيث تتحقق الجدوى من كل إنفاق وفق الغاية المرجوة منه، وحيث ما تقتضيه مصلحة الوطن والمواطن، في المديَيْن القريب والبعيد.
لقد كان وما يزال الإنفاق الاستهلاكي القائم عبر الدعم العيني الحاصل (سابقاً وحالياً) هو أقرب ما يكون إلى التبذير، نظراً لاستمرارية حصول كثيرين عليه من غير مستحقيه ومن غير من لا يحتاجون له، وكان من المتوجب أن ينحصر الحد من هذا الدعم في مجال المحروقات، على الجانب الاستهلاكي فقط، وليس على الجانب الاستثماري الإنتاجي الذي تضرر كثيراً، ومازال هذا الأمر واجب الاستدراك حتى تاريخه، فكل وفر يحدّ من الاستهلاك غير الضروري يجب أن يقابله توفير يرفع من سوية الاستثمار، ومن المجمع عليه أنه يمكن تحقيق المزيد من الوفر عبر اللجوء إلى الدعم النقدي (بدلاًً من الدعم العيني الذي مازال قائماً لعدد من المواد)، ما يستوجب إعداد آلية الدعم النقدي بخصوص ما تبقى من حالات الدعم، على أن ينحصر هذا الدعم في مستحقيه ومحتاجيه فقط، ووفق عدة شرائح في ضوء الحاجة، وليس بسوية واحدة كما هو حاصل في الدعم العيني، ما يتطلب مراجعة ودراسة كثير من الإنفاق الاستهلاكي والخدمي بغية حصر الاستفادة بمحتاجيها ومستحقيها بعيداً عما يحصل من هدر وتبذير، وتوجيه الوفر الذي سيحصل لغاية الإنفاق الاستثماري، أو لإنفاق خدمي آخر– في محله- أكثر ضرورة وأهمية- فالإنفاق الاستهلاكي الكبير الذي يتم في مجال الطبابة المجانية العامة التي تكلف الميزانية نفقات كبيرة، محط استفادة نوعية ومادية متاحة لجميع الشرائح، علماً أنه من الملاحظ (وللعديد من الاعتبارات) أن استفادة شريحة من هم أقل حاجة لهذه الخدمة أكثر من استفادة شريحة من هم بأمس الحاجة، الذين قد يضطرون للتطبب الخارجي (لدى نفس طبيب المشفى العام) في عيادة خاصة أو مشفى خاصة، ما يجعل كثير من الإنفاق (أكان أجور عاملين أو قيمة مستلزمات خدمات) يتم خلافاً للغرض المرجو منه.
– أيضاً الإنفاق الذي يخص خدمة التعليم المجاني المكلفة جداً للدولة، ولكن كثيرون من المعلمين والطلاب وذويهم يبددون هذه الخدمة عبر اللجوء إلى التعليم الخصوصي خارج القاعة الدرسية، فيترتب على ذلك إنفاقين خدميين (أسري ورسمي) يزيد كثيراً عن الحاجة الفعلية المتوجبة. والطامة الكبرى تتجلى عندما يظهر أن الطالب الذي تحملت الدولة وأسرته الكثير من النفقات لتخرجه، لا يجد فرصة عمل، أو يوضع في مكان لا يتناسب مع اختصاصه، أولا ينتج إلا جزءاً يسيراً لقاء ما يتقاضاه من راتب.
– أيضاً يتضح الإنفاق الاستهلاكي التبذيري عبر معونة السلة الغذائية وما يرافقها من معونة مستلزمات منزلية، والتي قسم كبير منها على حساب الميزانية العامة للدولة، إذ من الملاحظ أن هذه السلة تصل لبعض من هم ليسوا بحاجتها، بدليل أن السوق التجارية تشهد شيئاً من المتاجرة بها، وكان من الأجدى أن يخصص ذلك لصالح إنفاق استثماري يولد فرص عمل منتجة لمن يحتاج مواد استهلاكية.
– أيضاً الإنفاق الكبير (الأسري والفردي والمؤسساتي) الذي يتم لغاية الاتصالات، وتحديداً بوابات الانترنت، والذي كثير منه لهو في غير محله، والحاجة ماسة لدراسة ومعالجة تقنّن الكثير منه لصالح الإنفاق الاستثماري.
عبد اللطيف عباس شعبان
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية
صحيفة البعث العدد 2015-7-7-15351