كثيرة هي الطروح بشأن مخاطر النموّ السكاني، الذي حذّر كثيرون من خطورته، وشدّدوا على أن الولادات هي المصدر الأساس لهذا النموّ المتزايد، ما يوجب العمل على الحدّ من الولادات أيّاً كانت الوسائل والسبل، وربما كانت أفكار مالتوس الشهيرة بهذا الشأن قد لقيت رواجاً وتكراراً كبيراً منذ طرحها حتى الآن.
اللافت للانتباه أن منظمة الأمم المتحدة تحمل على عاتقها مسؤولية الحدّ من النموّ السكاني بكل جدية واهتمام، إنما في هذا المكان وليس في ذاك، وخلال مؤتمر سكاني عالمي -برعاية الأمم المتحدة– (في فيينا عام 1995) أفاض ممثلو العديد من الدول في الحديث عن خطورة التزايد السكاني، وطالبوا بضرورة إلزام دول المنظمة الدولية باتباع طرق وأساليب شتى للحدّ منه، والغريب في الأمر أن ممثلي بعض الدول /منهم المندوب البريطاني/ طالبوا بأن تشرّع الأمم المتحدة حرية الزواج المثلي في دولها، بغية الحدّ من هذا النمو، ولكن ذوي البصيرة الواسعة أكثر حضوراً وموضوعية من ذوي البصر المحدود، حيث وقف مندوب دولة صديقة (إيران) ليبيّن بالوثائق والحقائق أن الولايات المتحدة الأمريكية هي صاحبة ورائدة سياسة الحدّ من التزايد السكاني، بتنظير من وزير خارجيتها الأسبق “هنري كيسنجر” الذي يقول في إحدى وثائقه: على الولايات المتحدة الأمريكية أن تعمل على وقف التزايد السكاني في العديد من دول العالم وخاصة /الصين – الهند – الباكستان – مصر – إيران/ لأن التزايد السكاني الكبير في هذه الدول سيجعلها –بسكانها- ذات ثقل عالمي أقوى من الثقل الاقتصادي والعسكري لأمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا، وما نراه في الميدان يؤكد أن اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية ضعيف جداً باتجاه زيادة النمو الاقتصادي والعسكري للدول ذات النمو السكاني الملحوظ، ومهتمة بزيادة نموّ قدراتها العسكرية، ليس من أجل حماية حقوقها وحدودها من أعدائها الفعليين، بل من أجل الاقتتال فيما بينها لخفض سكانها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، نتيجة عجزها عن تحقيق ما تنشده في ذلك عبر الإقناع.
من المؤكد أنه لا موضوعية قطعاً في أي تجاهل أسري أو مؤسساتي أو دولي لمخاطر التزايد العشوائي للسكان، ولكن الدلالة على هذه المخاطر تستوجب التوجيه بضرورة تنظيم الإنجاب وليس التوقف عنه أو الحدّ منه لدرجة كبيرة، كما يخطط له بعضهم أو كما يفهمه بعضهم الآخر، وأن تترافق هذه الموضوعية بموضوعية أبهى تتجلى بالتوجيه لزيادة النمو الاقتصادي، والدلالة على خطورة الانحباس الإنتاجي، وأن النمو الاقتصادي العسكري في أمريكا وحلفائها هو الخطر الأكبر على العالم، وخطورته تعادل ملايين أمثال خطورة التزايد السكاني في هذه الدولة أو تلك، ولو تم استخدام الإنفاق العسكري في جميع الدول، وخاصة الدول الاستعمارية وأذنابها لمصلحة الإنفاق الإنتاجي الزراعي والصناعي، لما بقي جائع ولا عاطل عن العمل، ولا مَن هو دون مسكن، في كل دول العالم، وربما ظهر أن العالم بأمسّ الحاجة إلى مليارات جديدة من البشر.
أنا وكثيرون أمثالي يتذكرون الحالة المعيشية للسكان في سورية عام 1960، يوم كان تعداد سكانها قرابة 4.5 ملايين نسمة، حيث كان معظم مساكن ريفها من الطين والخشب، والأمية تضرب أطنابها، وهُزِمت في حرب حزيران عام 1967، ولكن بفضل جهود مواطنيها تنامى وضعها المعيشي بالتوازي مع تنامي عدد سكانها، إلى أن أصبحت بملايينها الثمانية عام 1973 وقد هزمت “إسرائيل”، وتنامى سكانها حتى زادوا على العشرين مليوناً وأصبحوا في وضع أفضل، إذ يكاد يخلو ريفها من المساكن الطينية، والأبنية الطابقية تعلو في كثير منه، وتكاد الأمية تنقرض، ويندر أن تخلو أسرة من حامل شهادة تعليمية، وكادت سورية تصل إلى عتبة التوازن الاستراتيجي الذي عمل له الرئيس الخالد حافظ الأسد، ما دفع رافعي شعار الحدّ من التزايد السكاني (الولايات المتحدة وأذنابها) إلى شن هذه الحرب الظالمة العدائية الشرسة، كما فعلتها سابقاً في باكستان وأفغانستان وإيران والعراق، وحاولتها وما زالت تحاولها في الصين والهند.
إن الازدحام الذي نشهده في كثير من مدن العالم، ومنها المدن السورية، لا يعود بالدرجة الأولى إلى التزايد السكاني، بل يعود في معظمه إلى سوء التخطيط العمراني (السكني والمنشآتي) الذي يجب أن يولي أهمية كبرى لتنمية الريف وإحداث مدن جديدة بدلاً من تضخيم المدن القديمة.
ولنتذكر أننا كثيراً ما نسمع أن الإرهابيين سيطروا على هذا الموقع أو ذاك لكثرة عددهم، ما يوجب أن يكون المواطنون الشرفاء أكثر قدرة على مواجهتهم عدداً وعدة، ولا ننسى مخاطر ضعف النمو السكاني التي ستتجلى نتيجة تأخر مئات آلاف الشباب عن الزواج، ونتيجة وجود مئات الآلاف من الأرامل، وهجرة الملايين خارج القطر.
هذا المقال منشور في صحيفة البعث العدد / 15385 / يوم الجمعة تاريخ
2015-8-21-
عبد اللطيف عباس شعبان
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية