إن سياسات وثقافة سوق العمل في سورية هي جزء لا يتجزأ من السياسة الاقتصادية الكلية والتي تسعى الحكومة جاهدة إلى رسمها وتنفيذها بما يتوافق مع النهوض بالواقع الاقتصادي والاجتماعي وينعكس إيجابا على مستوى الدخل. ولعل هذه السياسات تعاني من كثير من الاختلالات الهيكلية والتشغيلية ويعود ذلك لجملة من الأسباب بعضها يتعلق بحزمة القوانين والتشريعات المتعلقة بالعمل والقوى العاملة والأخر يتعلق برؤى الحكومة واستراتيجياتها في هذا المجال ومدى فاعلية خططها وبرامجها إضافة إلى ثقافة المجتمع تجاه مفهوم العمل وأوساطه .
والملاحظ اليوم وجود قصور في تنظيم سوق العمل وثقافة العمل نتج عنه اختلالات هيكلية في الوظائف المفترضة لها من حيث عملية المواءمة بين العرض والطلب وإعادة تأهيل العرض من العمالة وخلق فرص عمل جديدة وهذا ما يبرز السعي إلى إصلاح هيكلي جذري لتحسين بيئة العمل وتنشيط الطلب على الموارد البشرية المؤهلة أو التي سيعاد تأهيلها.
وهذا الإصلاح يجب أن ينطلق من معالجة قضايا ومفاهيم جوهرية من حيث منعكسها وتأثيرها على واقع العمل في سوريا ولعل أهمها ما سنأتي على ذكره في سياق التحليل .
أولاً : التعامل مع العمل كقضية نوعية لا كمية ، بمعنى أنه لا يجب أن يكون الهدف هو رقمي أي خفض معدلات البطالة وزيادة القدرات التشغيلية فحسب وإنما يجب التركيز على نوعية العمل ، بمعنى تحقيق معادلة الكفاية والكفاءة الإنتاجية ، فالهدف الكلي لا يتحقق عند حصول طالب العمل على عمله ،وإنما هو البعد الاجتماعي لهدف التشغيل إذ تم تأمين مصدر دخل لفرد يحتاج إليه ، لكن البعد الاقتصادي لهدف التشغيل لا يتابع كما يجب، فلا نتوقف مثلاً عند طبيعة العمل المؤدى ومنعكسه على إمكانية التوسع في إيجاد فرص عمل جديدة ، فلا يمكننا أن نتخيل أن سوق العمل يتوسع تلقائياً ، بل هو عملية مركبة ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية وثقافية ،ولذلك علينا العمل بالتوازي على سياسات من شأنها توسيع القدرات التشغيلية لسوق العمل ، وتوظيف اليد العاملة بما يساعد في تحقيق هذا التوسع وذلك من خلال توزيع اليد العاملة وفق منهجية وخطة محددة وليس بشكل عشوائي ولعل أكثر ما يدل على هذا الأمر هو واقع مؤسسات القطاع العام الإنتاجية والتي تزداد خسائرها ولم يعد لها أي دور في عملية التنمية المطلوبة بل أصبحت عبئاً على موازنة الدولة باعتبارها أمست مجرد مأوى لعمال اغلبهم كسالى وبليدون يستمدون حصانة من القانون فلا يمكن تسريحهم وتدفع رواتبهم دون أي متحصلات أو أرباح لمؤسساتهم والبالغ عددها اليوم 242 من أصل 250 مؤسسة وشركة ولذلك تبرز هنا ضرورة القيام بإصلاح هيكلي وجذري في بنية القطاع العام وتوفير متطلبات التنمية من بيئة عمل حقيقية إلى عامل يحقق الكفاية والكفاءة الإنتاجية المطلوبة ، ويمكن للتبسيط ملاحظة المخطط التالي :
عامل مكان عمل مناسب دخل إنتاجية عالية زيادة في المبيعات زيادة الأرباح إمكانية لزيادة الإنتاج طلب يد عاملة فرص عمل جديدة .
ولذلك فإن العقبة القائمة اليوم هي مدى تحقيق العامل للكفاءة الإنتاجية المطلوبة فعلاً ، والتي تنعكس بدورها على إمكانية توسع سوق العمل أفقياً وعمودياً .
ثانياً : الخيارات الخاطئة للسياسات الحكومية التي بنيت على أساس التركيز على تنمية البنى التحتية على مدى العقود الماضية ثم التوسع في القطاعات الإنشائية التي تتطلب يداً عاملة رخيصة ، ولذلك استطاعت الحكومة أن تحقق توظيفاً لليد العاملة لكن على المدى القصير دون تحقيق ارتفاع ملموس في معدلات النمو وذلك لانخفاض دخول اليد العاملة بشكل عام إضافة إلى عدم التوسع باتجاه إنشاء قطاعات عمل جاذبة ليد عاملة ذات كفاءة عالية ، وبالتالي بقيت قضية التوظيف في إطارها الاجتماعي والرقمي دون الانتقال إلى متطلبات عملية التنمية الاقتصادية من توفير للعنصر البشري ذي الكفاءة العالية الذي يحقق قفزة نوعية في قطاع الأعمال ..
ثالثاً : عدم وجود قاعدة بيانات إحصائية دقيقة تحدد في ضوئها السياسات المقبلة ، فإصلاح قطاع العمل وسياساته لم يشهد قفزات نوعية على الرغم من شدة الحاجة لها في ضوء التحول الاقتصادي الذي تشهده سوريا ، والانفتاح الاقتصادي الذي سيتأتى بعد توقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي واستحقاقاتها الكثيرة ، إضافة إلى ما يشهده العالم من تقلبات وأزمات اقتصادية ترخي بظلالها على دول العالم أجمع .
رابعاً : ضعف الحراك المهني بالنسبة للعاملين من كبار السن و ارتفاع معدل التحول للداخلين الشباب، والذي يؤثر على مستوى الإنتاجية في بعض قطاعات الأعمال ، وينعكس أيضاً على استقرار اليد العاملة في وسط العمل .
فاليد العاملة الشابة المحاطة بالعديد من المتطلبات الحياتية الضاغطة تبحث عن فرص عمل أكثر مردودية من الناحية المادية حتى لو كانت خارج حدود الدولة ، وبالتالي وعلى الرغم من الحاجة الماسة لليد العاملة الشابة لناحية إمكاناتها وإنتاجيتها القوية فإننا نلاحظ وجود نسب مرتفعة من المتعطلين الشباب والمتدفقين إلى سوق العمل سنوياً مقابل وجود نسبة كبيرة من كبار السن نسبياً في مواقع العمل حتى سن التقاعد دون تحقيق إنتاجية تذكر .. ويمكن هنا تخفيض سن التقاعد في بعض قطاعات العمل الإنتاجية إلى سن الخمسين مع منحهم أبنائهم حصراً أفضلية شغل وظائفهم الشاغرة ، وهنا نكون قد حققنا تشغيلاً ليد عاملة ذات إنتاجية أعلى دون التوسع في المؤسسة على الأقل .
خامساً : ربط الخطط والمناهج التعليمية بمتطلبات سوق العمل ، والسماح لممثلي قوى سوق العمل بالتدخل في وضع المناهج بما يتناسب مع احتياجات السوق ، فالمشكلة هنا أن السياسات الحكومية في المجال التعليمي وبالأخص الجامعي والمهني غير مرتبطة على الإطلاق بعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية ، فهي تكاد تعمل بشكل منفصل ، إذ إن مخرجاتها ليست متوافقة مع أهداف سياسات وزارات أخرى لها نفس الهدف وهو زيادة معدلات النمو، فالتنمية المحققة في القطاع التعليمي هي فقط على مستوى الحقل الأكاديمي أما مرحلة ما بعد التأهيل الأكاديمي ليست موضوعة في الاعتبار حتى الآن كما يجب ، فالمناهج لا تتطرق إلى واقع مفروض سيقبل عليه الطالب بعد تخرجه فلا تهيؤه لمرحلة العمل التي سيقبل عليها ، فيدخلها صفر اليدين ، ويقضي فترة زمنية غير محددة المدة لفهم معطيات ومتطلبات ونظام سوق العمل وطبعاً تكون فترة ذات إنتاجية بسيطة جداً علاوة على إمكانية استمراره في عمله .
وهذا الإطار نقترح بعض المقترحات :
أولاً : إصلاح سوق العمل والعمل على حزمة من التشريعات والقوانين تطبق دفعة واحدة، إلا أن هذه الحزمة لم تفرض بعد، مع الأخذ بالحسبان معارضة القطاع الخاص ، لأن هذا النموذج المعتمد على العمالة الرخيصة سيزيد من حصة صاحب العمل على حساب العامل وهو ما أدى لحدوث فجوة كبيرة بين الحصتين ومن ثم الاختلال الكبير الذي يشهده سوق العمل.