منذ عقود خلت والمصارف العامة بأنواعها المتنوعة منتشرة بفروعها المتعددة في جميع مراكز المحافظات، ولبعضها فروع في المناطق، كالزراعي والتسليف والتجاري والتوفير، وقد لعبت دوراً مقبولاً في تحقيق التنمية الاقتصادية المطلوبة، ولكن المزيد من الحاجة لهذه التنمية، دفع المعنيين والمهتمين بالشأن الاقتصادي إلى الدعوة لفتح الباب على مصراعيه، أمام ترخيص المزيد من المصارف الخاصة، ليكون عملها متمِّماً لعمل المصارف الرسمية، وقد تمَّ العمل بذلك منذ بدايات العقد الماضي، واستمر تتابع إحداث المصارف الخاصة حتى قاربت الخمسة عشر مصرفاً لها فروع موزعة على جميع المحافظات.
وشهدت السنوات الأخيرة وجود العديد من المصارف والجهات المقرضة /العامة والخاصة/ المختصة بالتمويل الصغير، ولكن واقع الحال أظهر أن التنمية المتحققة ما زالت أدنى من التنمية المتوقعة والمرجوّة، ويعود ذلك إلى وجود المزيد من التسهيلات على القروض الاستهلاكية والمزيد من القيود على القروض الإنتاجية، ما يجعل قسماً غير قليل من الشريحة المحتاجة إلى هذه القروض خارج التعامل مع هذه المصارف، لعدم تمكنها من تحقيق العديد من الشروط المطلوبة للإقراض، فضلاً عن قيام العديد من المقترضين الصغار باستخدام بعض القروض الإنتاجية لغايات استهلاكية، وقيام بعض المقترضين الكبار بعدم الالتزام باستثمار القرض للغاية التي استجرّ من أجلها، وتأخرهم أو تمنّعهم عن تسديد الأقساط المستحقة في مواعيدها المحددة، لا بل إن بعضهم أخرج قسماً كبيراً مما اقترضه خارج القطر، واصطحب ما تبقّى بالعملة الصعبة عند خروجه، ما تسبّب بحدوث حالات عجز مالي لدى بعض فروع المصارف، وجعلها تتردّد كثيراً عند منح قروض جديدة، تحت حجّة عدم وجود ضمانات باسترداد القروض الممنوحة، ما أدّى إلى أن يندفع بعضهم باتجاه اقتراح إحداث مؤسسة لضمان مخاطر القروض، متناسين أن مجمل النفقات التي ستترتب على إحداث هذه المؤسسة ستتحمّلهـا الجهـات المقرِضة، وسيتحملها المقترضون لاحقاً، ما ينعكس سلباً على أرباحهم ومقدرتهم التسديدية.
من المؤكد أن جميع المصارف تستقبل الإيداعات المتتابعة التي يقبل مودعوها بشروط الإيداع، وتترتّب على ذلك مسؤولية المصرف في أن يدفع عوائد هذه الإيداعات عند الطلب، ولكن مقدرة المصرف على تسديد هذه العوائد ستكون ضعيفة جداً حال ضعف عمليات الإقراض المصرفي، وستكون أضعف بكثير حال عدم التزام المقترضين بتسديد الأقساط المستحقة عليهم، وقد يوقعها بخسائر وخيمة العواقب، ما يستوجب أن تبحث الإدارات المصرفية عن مدخل أو أكثر لتحريك إيداعاتها بالشكل الذي يحقّق لها عائدية تتوزّع بين حقوق المودعين، والأرباح التي يطمح لها كل مصرف، وبالتالي ما الذي يمنع أن يكون المصرف هو المستثمر الرئيس لبعض (بل لقسم كبير من) الأموال المودعة لديه، ويكون هو الضامن الأساس لها، وليكن ذلك عبر قيام كل فرع مصرفي عام أو خاص أو تمويل صغير، بإحداث دائرة ضمن هيكليته تسمّى دائرة الاستثمار الإنتاجي (على غرار دائرة الإقراض) تكون معنية بإحداث منشأة أو أكثر -يملكها المصرف- ضمن مجال وقطاع عمله، وبإدارة خاصة به، على أن يمنح (يخصِّص) المصرف إدارة هذه المنشأة بقرض يكفي لإنشائها ودخولها في الإنتاج –على غرار ما يمنحه لأي مقترض- وهنا يكون المصرف هو المالك والمقرض والضامن لمنشأته، دون الحاجة إلى مؤسسة ضمان تضمن له التخوّف من عدم التسديد، لأن إدارة المنشأة بيده تأسيساً وإنتاجاً.
إن التنمية الاقتصادية المستهدفة عبر المصارف، تتطلب أن يكون المصرف هو المساهم الأول في تحقيقها، عبر إقراض قسم من أمواله للغير–منشآت أو أفراداً– إلى جانب استثماره المنشآتي الربحي لقسم آخر، ما يستوجب أن يكون لدى كل مصرف زراعي منشأة أو أكثر، في ميدان الإنتاج الزراعي والحيواني، ولدى كل مصرف صناعي منشأة أو أكثر في هذه الصناعة أو تلك، وليكن لكل مصرف تجاري منشأة استيراد أو تصدير أو تسويق محليـة، وليقُم كل مصرف عقاري بتشييد مقاسم سكنية معدّة للبيع –بقرض أو نقداً-على الهيكل أو على المفتاح، ولتعمل بقية المصارف بما في ذلك مصارف القروض التمويلية للمنشآت الصغيرة على تأسيس منشآت ربحية خاصة بها في أكثر من مجال إنتاجي أو خدمي، وبذلك يتحقق لكل مصرف الحدّ من تجميد موجوداته المالية، ويكون قدوة لمقترضيه، ويتحسّس معاناتهم في التسديد، وعلى السلطات الرسمية والإدارات المصرفية التعاون معاً لتحقيق ذلك.
عبد اللطيف عباس شعبان
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية
هذا المقال منشور في صفحة / 3 / من صحيفة البعث ، العدد / 15531 / ليوم الأربعاء 23 / 3 / 2016