لا جدال في أن العديد من مظاهر الثراء الموجودة لدى بعض الناس، موروثة عن ذويهم، أو نجمت عن كسب حلال استغرق جهود عشرات السنين، ولكن واقع الحال يظهر أنه في كثير من الأمكنة والأزمنة تبدو مظاهر الثراء على بعضهم الآخر -خلال أشهر أو سنوات قليلة- دون وجود أرضية اقتصادية موروثة، أو مظاهر كسب حلال تؤسّس لذلك، ما يوضح وبشكل جلي أن معظم هذا النوع من الثراء منشؤه من كسب حرام على اختلاف الزمان والمكان والأسلوب والوسيلة، ومشهود ومعهود أن أعداداً غير قليلة من رجال الأعمال الأثرياء –على اختلاف طرق كسبهم- ينفقون بعض المال النقدي والعيني، على شكل تبرّعات أو إعانات مالية أو عينية لأفراد أو جماعات أو تجمعات سكنية أو لجمعيات خيرية، أو لمصلحة بعض القضايا الخدمية العامة، أكان ذلك بشكل متقطع أم متتابع أم في مناسبات، ومن المؤكد أن بعض هذا الإنفاق يتم لوجه الله دون طلب منّة أو مراآة، أو السعي إلى تحقيق أي مكسب شخصي، ولكن واقع الحال يظهر أن بعض ما قلَّ منه أو كثر يتم لغاية في نفس يعقوب.
كثيرون يرون جدوى كبيرة من هذا الإحسان، أيّاً كانت مصادر ودوافع وأهداف المحسنين، وأن الفوائد والمنافع التي نجمت عنه تستوجب توجيه الشكر والامتنان -لأولئك الذين أحسنوا- من جميع الذين استفادوا منه أو لمسوا حجم فائدته، لأن خيار الإحسان أفضل من عدمه، ولكن الموضوعية تقتضي وجوب تخصيص الشكر المميز لشريحة المحسنين من ذوي الكسب الحلال، مع الرجاء أن يؤدّي هؤلاء المحسنون الأثرياء الالتزامات القانونية والمالية التي تطلبها منهم الجهات الرسمية، وأن يعطوا عمالهم الأجور والحوافز بما يتناسب مع الأرباح التي يحققونها، وأن يتجلى إحسانهم الأكبر عبر الاستثمارات الاقتصادية الإنتاجية التي يتحقق من خلالها النفع الوطني الواسع والعام، وتشغيل المزيد من الأيدي العاملة، ما يدرّ خيراً كثيراً على الاقتصاد الوطني، وليس عبر المزيد من الصفقات التجارية الخارجية التي تضعف حضور المنتجات المحلية، وألا يكون إحسانهم الاقتصادي اصطيادياً، أي ألا يستغلوه لتحقيق المزيد من الحضور الاجتماعي عبر الهيئات العامة في المنظمات الأهلية والشعبية والإدارة المحلية ومجلس الشعب أو تبوّؤ بعض المناصب المهمة في جهات أخرى، أو يتستروا به لغاية التهرُّب من المستحقات المالية والإدارية عليهم، وتمرير الصفقات التجارية والمشاريع الربحية المخالفة، وأن تتجلى سعادتهم الكبرى بما يلقاه إحسانهم من تقدير رسمي وشعبي، لا بما يحققونه من مكاسب مقابل ذلك.
وحبّذا اتباع كل الوسائل الرسمية والشعبية للحدّ من قبول إحسان ذوي الكسب الحرام، لأن هذا الإحسان يضلل الكثيرين من المستفيدين منه والمراقبين له، وخاصة الذين لا يعلمون مصادره، ما قد يمكِّن مقدّميه من تغطية بعض فسادهم والتأسيس لكسب حرام جديد، ما يستوجب العمل الرسمي والشعبي للحدّ من قبول إحسان هذه الشريحة، ولفظها اجتماعياً ورسمياً، وعدم قبول الترويج لجواز تبوّئها مراكز اجتماعية أو مهام رسمية، بحجّة ما تقدّمه من إحسان، أو تحت أية اعتبارات أخرى مرتبطة بذلك، بل حبذا المزيد من التجهُّم الشعبي والرسمي في وجوه أفرادها لكي يُردعوا عن غيّهم، ولا يتمادَوا في الكسب الحرام، أيّاً كانت طرق ووسائل وحجم هذا الكسب، فعندما لا يجدون من يقبل إحسانهم سيتألمون ويشعرون بجزاء ما فعلت أياديهم، وقد ينصرف بعضهم لتكريس إحسانه على نفسه عبر الحدّ من الكسب الحرام.
عبد اللطيف عباس شعبان
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية
هذا المقال منشور في صحيفة البعث العدد 15561
ليوم الثلاثاء 10 / 5 / 2016