لقد لبث أهل الكهف في غابر الأزمان مئات السنين (ولبثوا في كهفهم ثلاثة مائة سنين وازدادوا تسعا)، حتى تغيَّرت قيمة ورقهم -القوة الشرائية لنقدهم– علماً أنهم ظنوا حينئذ أن المدة أقصر من ذلك بكثير (قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم، قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذا إلى المدينة) وكان الورق -النقد- يومئذ هو الفضة المضروبة، ولكن قراءة متأنية للأسعار في هذه الأيام، تبيّن لنا حدوث تغيّر ملحوظ في الأسعار خلال الخمسين سنة الماضية فقط، وتغيّر كبير جداً خلال السنوات الخمس الأخيرة، إذ تجاوزت الأسعار ما كان عليه حال أسعار أهل الكهف بكثير، تلك التي استغرق زمن تغيّرها يومئذ /309/ سنين.
أتذكَّر أنه قبل قرابة خمسين سنة كان سعر الكغ من اللحم أقل من خمس ليرات، ولكن سعره حالياً يحوم حول الأربعة آلاف ليرة أي بزيادة /800/ مرة عما كان عليه في الماضي القريب، وكان سعر كيس الإسمنت بحدود /4/ ل.س ولكنه اليوم يتجاوز /2000/ ل.س، أي بزيادة تزيد على /500/ مرة، وكان سعر بلوكة البناء الإسمنتية ثلث ليرة سورية ولكن سعرها اليوم يزيد على /100/ ل.س أي بزيادة تزيد على /300/ مرة، وأتذكر أن ثمن ثور بقر كبير عام /1967/ كان بحدود /400/ ل.س فقط، واليوم قيمة البطيخة الواحدة /1000/ ل.س أي بما يزيد على ضعفي سعر ثور البقر.
قبل خمسين سنة فقط كان سعر الركوب في الباص الداخلي ضمن المدن الكبرى /7.5/ ق.س، وعشرة قروش للخطوط الطويلة أي واحد على عشرة من الليرة، ولكنه اليوم يقارب الخمسين ليرة أي بزيادة /500/ مرة، وكانت أجرة السفر من دمشق إلى حلب بحدود خمس ليرات سورية أما اليوم فهي بحدود /3500/ أي بزيادة /700/ مرة، وأتذكر أن أول قرض حصلت عليه من مصرف التسليف الشعبي عام /1976/ كان /600/ ل.س، وكان قرض يومئذ يؤمّن الكثير من حاجات مقترضه، أما اليوم فقرض التسليف يبلغ /300/ ألف ل.س، ولا يسدّ إلا القليل من الحاجات، وكان يومئذ مبلغ القرض السكني في المصرف العقاري بحدود /35/ ألف ل.س، وكان يغطي نسبة كبيرة من كلفة المسكن، ولكن هذا القرض الذي وصل مؤخراً إلى حوالي المليون أصبح شبه متوقّف هذه الأيام، لأن قيمته لم تعُد تشكل إلا نسبة قليلة من كلفة البناء على الهيكل، وفي أوائل الثمانينيات وزَّع العديد من الجمعيات السكنية مساكن جاهزة على المفتاح بقيمة /70/ ألف ل.س للمسكن، ولكن تسليم المسكن في هذه الأيام (إذا حصل) يكلف بحدود سبعة ملايين وعلى الهيكل، وهكذا حال أسعار جميع المواد، التي بلغت زيادتها أضعاف زيادة الرواتب، إذ كان متوسط الراتب قبل قرابة خمسين عاماً للفئة الخامسة وراتب الشهادات الإعدادية والثانوية والمعاهد والجامعية (150 + 180 + 210 + 230 + 375) = 230 ل.س ومتوسط الراتب أصبح في هذه الأيام بحدود /30/ ألف ليرة أي أنه ازداد بحدود /130/ مرة، وهذه الزيادة أقل بكثير من زيادات جميع أسعار المواد، فهل ستنظر الحكومة الجديدة بذلك.
رحم الله آباءنا الذين حدّثونا عن المعاناة التي عاشوها قبل ستينيات القرن الماضي، وكم أشعرونا بسعادتهم بالنعيم الذي عاشوه أواخر حياتهم عقب ثورة الثوار الأخيار الأحرار، أواسط ستينيات القرن الماضي، ولكن الخشية قائمة من أن نحدّث أبناءنا عن النعيم الذي عشناه بداية حياتنا، خلال سنوات بناء سورية الحديثة، والمعاناة الكبيرة التي بدأنا نواجهها ونعيشها عقب ثورة الثيران الأشرار الفجّار، فالصحة بعد السقم سعادة، ولكن السقَّم بعد الصحة ألم..
عبد اللطيف عباس شعبان
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية
هذا المقال منشور في صفحة اقتصاد من صحيفة البعث ليوم الأربعاء 3 / 8 / 2016 العدد / 15620 /