ايمن علي:
عندما يدفع أحدنا زيادة في سعر سلعة ما وهو يعلم بأنه مغبون دون أن يشتكي على البائع، لاعتبارات عدّة، منها ما يتّصل بالجيرة وأخلاقياتها، متناسياً أنّ البادي أظلم، وأنّ من يُحلّ لنفسه سرقة أهله وجيرانه لا عهد له ولا ميثاق؛ أليس شريكاً في الفساد؟
عندما يهمس أحدهم في أذنك بضرورة دفع رشوة تحت شعار “حلوان” لموظف حكومي لتزييت معاملتك من صدأ الروتين وبيروقراطبة المكاتب المعشّشة في أروقة الكثير من دوائرنا ومؤسساتنا، ولا سيما الخدمية منها؛ ليتسنى لها أن ترى النّور بعد طول إقامة في الأدراج؛ ألا يُعدّ شريكاً في الفساد؟
ليس في القنافذ أملس! فالفساد بأي جلباب تجلّى، وفي أيّ لبوس حلّ، فهو منبوذ مرفوض، لسان حالنا الجمعي يقول. غير أنّ الأنكى والأخطر هو تداعياته المجتمعية وما نشهده من ظاهرة تمثُّل وتقليد أرباب السلوكيات المنحرفة الذين باتوا مثالاً وقدوة للناشئة، يعملون على محاكاتهم وتقمّص شخصياتهم في مختلف تصرفاتهم، لنكون أمام جيل ترسّخ في ذهنه، أنّ من هم في وضعية مادية ميسورة ليسوا المُجدّين الشّرفاء، بل هم السماسرة في قطاعات الأعمال والاقتصاد والناهبين للمال العام، أو معظم الموظفين المؤتمنين على واردات الخزينة والبائعين لضمائرهم في سوق التهرّب الضّريبي والجمركي، أو الرقابة التموينية، أو في أيٍّ من مفاصل تسييل السّلطة.
وقائعٌ تخرجنا من التلطّي خلف إصبعنا في وقت عصيب كهذا: نحن مطالبون فيه بتسمية الأشياء بمسميّاتها، وبما لا يدخلنا في ملهاة البحث عن مشجب لتعليق خطايانا عليه، أو تراجيديا جلد الذات؛ بكل ما تنطوي عليه من مشروعية، يفرضها حجم الهوة السّحيق بين أجهزتنا الرقابية وفي المقدّمة منها: الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش المأزومة في كثير من مفاصلها بذهنيةٍ مطبوعة على الرّوتين والرّتابة، والتي لطالما تمخّضت عن “حمول كاذبة” تمّت خارج رحم المنطق، أو “أفلام محروقة” أتلفتها فاجعة الضوء، وبين جمهورها الواسع العائد من رحلات التعويل عليها بأذيال الخيبة المغمّسة بالكثير من المرارة والألم.
خيباتٌ تستدعي الوقوف ودونما تلكؤ على أزمة الثقة بين هذا الجمهور، وبين تلكم الأجهزة الرقابية، والتي لم تأت البتّة من فراغ، وإنما من واقع اللامبالاة وعدم الشفافية التي طبعت أداء بعض هذه الأجهزة ولسنوات عدّة، مع ملفات كثيرة- لسنا بصدد استعراضها ههنا لضيق المساحة المتاحة- تحت ذرائع ومسميّات شتّى تفتقر إلى أدنى درجات الشعور بالمسؤولية، والتي تحيلنا في العمق إلى ذهنية نسقية قاصرة، لا يسعنا مع ما تسوق من مبررات إلا أن نزداد خشيةً على ما تبقى من منظومة قيميّة “معياريّة” للنزاهة وأخواتها.
هوّةٌ، أو لعلّها: تركة “أزمة ثقيلة”، تجعل من الضّرورة بمكان إعادة النّظر في تقويم أداء المفاصل الرئيسية في هذه الأجهزة، قبل تجشيمها عناء حمولات ذات صبغة جماهيرية عريضة، لا قبل لها على تحمّلها، إمّا بسبب من هشاشة وضعف ذاتيين استولدهما واقع الترهل أو الشيخوخة في أروقتها، أو من حاجة موضوعية إلى إعادة هيكلتها بما يتواءم وواقع المسؤوليات الجسام الملقاة على عاتقها.
البعث