تخطى إلى المحتوى

وادي جهنم… تضادات “رعب التسمية” وجمال وغنى المكان

طرطوس- علي الراعي:

إذا كنت مسافر على الطريق الدولية بين طرطوس واللاذقية، وعندما تصلُ لحوالي منتصف المسافة بين المدينتين، أي إلى جسر بانياس، وعندما تولي ظهرك لبحر هذه الأخيرة – بانياس- آخذاً طريق القدموس الذي يبدأ صعوده للتو، وبعد مسافة لن تطول كثيراً سيأخذ هذا الطريق سفح سلسلة جبالٍ طويلة، وإذا ما اقتربت أو لابد لإغواء المشهد من أن يُغريك بالاقتراب والوقوف على حافة الطريق لتشاهد ما صار معروفاً بمعجزة الطبيعة التي تشتهر بها طرطوس، وهي “وادي جهنم”.
هنا المشهد المغوي المُفعم بالغموض، والإثارة، لاسيما إذا ما كانت الذاكرة قد خزّنت منذ حينٍ بعيد بعضاً من القصص الكثيرة، والغامضة عن هذا “الوادي” وهنا لا مجال للذاكرة، من أن تُعيد ترتيب حكاياتها لتربط المروي بالمحسوس.
قبل الدخول في منعطفات هذا الوادي، لابد من أن نشير أنه في الذاكرة الجمعية، التي غالباً ما ننزلُ أدراجها ب” أطنانٍ ” من الحمولات المثولوجية، ذلك أن ثمة حياة في الذاكرة، حكايا تبقى طول الوقت قابلة للإضافة والتوليد، ومع مرور الأيام، وكثرة السرد، ستتوالد حكايات جديدة، تتناسل من رحم الحكاية الأولى. لاسيما، وأننا نعيش في منطقة مفعمة بالمثولوجيا على تنوعها: الدينية، الأسطورية، و..غيرها الكثير.
اسم واحد ووديان
هذه الذاكرة التي تنوء ب “حمولاتها” طالما صوّرت “جهنم” على أنها مصدر أزلي لآلامٍ مرعبة، وعذابات غامضة لانهاية لها، ولكم حجم الرعب إذا ما ترافقت هذه المفردة – جهنم – بالوادي، حتى أنّ “جهنم” نفسها جاءت بعشرات المرادفات من الأسماء.

صحيح أن الذاكرة المحلية روجت لأسماء عشرات الوديان في المدونات والمرويات العربية على مر الدهور. غير أن الوادي الأكثر إثارة طول الوقت كان “وادي جهنم”. لما للتنافر بين المفردتين من جهة، ولغموضهما من جهة ثانية، ولتوقع عشرات المفاجآت مما يُمكن أن تُصدم به المرء، الأولى “جهنم” لكثرة مما تمّ الوعيد بها، والثاني “الوادي” لسحره، ولتوقع الكثير من الاكتشافات لمن يسلك الوديان.
و..” وادي جهنم ” اسم تكرر ترديده لأكثر من مكان، وفي أكثر من بلدٍ عربي، منها ثلاثة متجاورة هي: لبنان، فلسطين، وسوريا، وكذلك في اليمن، وفي روسيا أيضاً. وجميعها تقريباً تمّ إلصاق “جهنم” بالوادي، وغالباً ما تقاطعت أسباب التسمية في الكثير من التفاصيل، لعلّ أبرزها: الانحدار الشديد، بحيث يبدو الوادي سحيقاً بصورة مخيفة وخطورة المسالك على أكتاف الجبال، ولدرجة يُمكن تخيل جهنم مجسدة أمام مرأى العين، وقد فتحت فمها لابتلاع كونٍ بأكمله. يُضاف إلى هذه الحالة من الميل الشديد؛ ندرة الطرقات ووعورة الدروب المؤدية إلى الوادي، و..سماع أصوات غامضة مصدرها الوادي؛ أصوات تأتي كصراخ، أو أنين، أو غناء و..غير ذلك. والوادي – كما هو معروف – الذي هو فالق بين جبلين، أو بين سلسلة من الجبال المتصلة، تضيق، أو تتسع حسب حالتين: شاهق الجبل وسحيق الوادي .
في طريق القدموس
من هذه الأودية السحيقة التي تُحيط بها الجبال الشاهقة في سوريا، كان الوادي الذائع الصيت المعروف ب “وادي جهنم”، وادٍ عظيم الانخفاض، وهذا الاسم الذي كثُرت أسباب إطلاقه على هذه الجغرافيا من محافظة طرطوس، والذي يبدو أن اسمه كان غير ذلك في الزمن القديم، لكن غموض الاسم “الجديد” والإثارة التي تكتنفه، كان أن طغى على كل أسماءه السابقة.

في الحقيقة حتى اليوم ليس من رواية أكيدة تثبت متى تمّ إطلاق هذه التسمية على هذا الوادي ذي المساحة الهائلة بين القدموس وبانياس، حيث تنتشر الكثير من الضيع الناعسة على جنباته تماماً كحارسات يغلب عليهن النوم والدعة.
و..لعلّ أقرب أسباب التسمية تعود لزمن حديث خلال النصف الأول من القرن العشرين -على ما يروي أغلب أهالي القرى هنا- فالمعروف عن أولى الثورات التي قامت ضد الاستعمار الفرنسي لسوريا، كانت بقيادة الشيخ المجاهد صالح العلي، والذي له أكثر من موقعة مع جيش الاحتلال الفرنسي، حيث كان يكمن لحاميات العدو ودورياته على أكتاف الجبال ويُحاصرها في عمق الوادي، مستفيداً مما وفرته الطبيعة كقوة مضافة أمنت له الاستبسال في القتال وتكبيد قوى الاستعمار الكثير من الخسائر والقتلى.
الشيخ على كتف الجبل
و..في هذا السياق يصف النائب السوري الراحل الدكتور عبد اللطيف اليونس– الذي وثق لثورة الشيخ في الكثير من كتبه لعلّ أهمّها كتابه “ثورة الشيخ صالح العلي” الذي أعادت وزارة الثقافة السورية طباعته منذ فترة– وخلاله يصف معركة “وادي جهنم” بما يلي: وكانت معركة “فتوح” إيذاناً باستمرار الثورة والتهابها، فتحولت وجهة الجيش الفرنسي إلى تلك الجهات، وسيّرت حملة قوية كانت تستهدف تطويق قرية “بشراغي” – ضيعة الثائر المجاهد – وموقع “الشيخ حيدر الضهر” واحتلالها، والقضاء على الثورة الجديدة في الناحية الشمالية، قبل أن يتسع نطاقها، ويكثر أنصارها، وفي الوادي القريب من قرية “أبي قبيس” الذي أطلق عليه “وادي جهنم” لكثرة الضحايا التي وقعت فيه من جيش العدو التي كانت أولى الاصدامات الهائلة، بعد أن تمّ تشكيل ثلاثة فيالق من المجاهدين، وقد هُزم الجيش الفرنسي في هذه المعركة شر هزيمة، وقُتل من رجاله عدد كبير، كما استشهد في تلك المعركة بعض المجاهدين بعد أن قتل أحدهم خمسة عشر جندياً وحده. و..من حفظت أسمائهم الذاكرة من الثوار المشاركين في معركة “وادي جهنم” حسب الباحث التراثي حسن اسماعيل الذي سبق ووثق عشرات بل مئات الحالات التراثية في الساحل السوري من أغانٍ، وشخصيات، وأحداث، يذكر أسماء خمسة رجال من قرية “الدي” هم: غانم معروف غانم الذي أصيب برصاصة فرنسية خلف أذنه وبقيت ملازمه له حوالي أربعين عام دون أية أضرار حتى توفي، والمجاهد حسين عيسى غانم، والمجاهد صالح ميّا، وحمدان إبراهيم، و شعبان حمود. هذه الموقعة وثقها الشيخ نفسه شعراً حيث أنشد بعد انتهاء المعركة:

حُول الطّرف دون “وادي جهنم”
فالمنايا على ضواحيه حُرّمْ
وتصفح “ذي قارة” ما هو إلا
خبرٌ من حديثه قد تقدمْ
زحف الجندُ من فرنسا لحربي
بشظايا نار وجيش عرمرمْ
ورميناهمُ بوابل نارٍ
فلّ جيش المستعمرين وحطّمْ
وأحطنا بهم على ذروات

كسوارٍ إذا أحاط بمعصمْ
و..الواضح من تفاصيل وصف المجاهد الشيخ العلي، ضراوة المعركة أنها كانت أشبه ب”جهنم” حلت بالجيش الفرنسي، فهو يردد مرادفات “جنهم” أكثر من مرة خلال سرده الحكاية في القصيدة، وسواء كانت المعركة المذكورة هي سبب التسمية أم لا، غير أنها قد تكون السبب الأحدث في التسمية، ذلك إن ثمة من أطلق على الوادي “وادي جهنم” والسبب مرده أمرين –يذكر الباحث البيئي المهندس إياد السليم – الأول: طبيعي، لأن الوادي يأتي كأنه خندق عظيم تكمن خلفه الجغرافيا الوعرة القاسية، التي سببت في الزمن القديم وقبل اكتشاف الوادي بالشكل الجغرافي الصحيح، الكثير من الحوادث المؤسفة، والثاني: أسطوري، وذلك بربط مظاهر تحدث بالوادي بالكثير من القصص والحكايا التي ذهبت جميعها صوب الميتافيزيقا، لاسيما خلال الحديث عن الأصوات الغامضة التي يكون مصدرها الوادي، والتي أوعزت جميعها لعالم أقرب إلى عوالم “جهنم” كما تخيلته الروايات الدينية، والروايات المثولوجية أيضاً، فهو الوادي المنحدر والمغلق الذي يخرج منه صدى كل الأصوات في الوادي السحيق، خُيلت لساميعها أنها أصوات الجن وليست أصوات الصدى، باعتبارها كانت تصدر في وقت الهدوء والسكون، وليس خلال هبوب الرياح – كما يروي أهالي القرى هنا-
شيء من الحغرافيا
إذاً، وكما أسلفنا ثمة الكثير من القرى الناعسة على أكتاف الوادي من الجهتين، قرى تبدأها ضيعة “الدي” مروراً بثلاث قرى أخرى هي “جارة الوادي، الدويلية، وباب النور” وكان عُرف هذا الوادي قبل اسمه الشهير الذي ارتبط ب “جهنم” ب “وادي الهنيدي”، كما عُرف بوادي “نهر جوبر” وحسب خبراء بيئيين فإنّ عمق الوادي يزيد على السبعمئة متر وبزاوية انحدار حوالي سبعين درجة، وبمساحة تُقارب السبعمئة دونم. أي سبعمئة ألف متر مربع تقريباً، وهنا ثمة من يتحدث عن ألغاز في هذه ال”سبعات” للوادي. وعلى ما يرى الباحث البيئي المهندس إياد السليم فإن الوادي يبدأ من منطقة تدعى “الكوكعي” مروراً بموقع وادي “اللتاتيت”، ثم ينتهي ب”وادي البلوطية” وهو اسم القرية التي يعبرها.

هذا الوادي الذي لا تُفارقه الخضرة في أي يوم، أو فصل من فصول السنة، وأن كل جاء بكل فصل بلون مختلف، غير أنه يبقى بخضرة أزلية. هنا على سفوحه ترتاح أشجار عملاقة من أشجار تأتي في مقدمتها البلوط، والسنديان، ثم الغار، والعذر، وعشرات الأشجار الأخرى، وعدد لا يُحصى من النباتات.
ورغم وعورة السفوح وضيق الوادي غير أن “ناس المكان” استطاعوا ترويض السفوح وتحويلها حواكير صغيرة لغرس أشجار الكرمة، والتين، والزيتون. نقول حواكير لأن الطبيعة العاصية على الترويض يصعب على المرء استصلاح مساحات واسعة لغرس الأشجار، أو للزراعة.

بانوراما طرطوس- الأيام

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
Print

إقرأ أيضامقالات مشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

تابعونا على فيس بوك

مقالات