المدن التي لا تجرؤ على مراجعة هويتها تبقى منتشيةً بالوجدان المشوَّه، و الأحكام المسبَّقة، و المعرفة الزائفة.
هذا حال مدينة طرطوس التي لم تستطع أن تتخلص من طابعها الريفي رغم كل عمليات التجميل. مازالت مدينة تهجع صامتةً على شاطئ البحر بلا أحلام..ضائعة تبحث عن هوية متشظية بين الريف و المدينة..تحتفي بالأقنعة،و القيم الاستهلاكية، و السلع أكثر مما تحتفي بالانسان و الحب و الحياة.
هذه المدينة لم تستطع أن تحتمل عملاً مسرحياً هز وجدانها المشوَّه، و هو بحتفي بالحياة و الحب و الضوء.
(عطر سيمفونية الموت) عمل مسرحي، كشف قاع المدينة، و أظهر المكبوت الاجتماعي و الديني و الجنسي إلى العلن.
لم يرَ كثيرون في المسرحية سوى أجساد الممثلات، و كأنهم جاؤوا ليشاهدوا العري فقط..لكنهم عندما حضروا خرجوا مصدومين لأنهم لم يجدوا العري الذي توقعوه.. بل وجدوا احتفاءً بالجسد كقيمة جمالية.. و هذا ما كشف مكبوتاتهم دفعة واحدة.
في شوارع المدينة قد تجد الكثير من الأجساد المؤنثة التي تكشف عن مساحات واسعة منها.
الجسد في الشارع ليس سوى قيمة استهلاكية أو استعمالية، لذلك توصف المرأة الجميلة بأنها(حلوة) و جسدها (حلو). في حين أن الجسد على المسرح يكون قيمة جمالية و يوصف الجسد هنا بأنه (جميل)، و المرأة(جميلة).
قيم الجمال هنا قد تحيل إلى قيم معرفية و أخلاقية. لكن إطلاق الأحكام الأخلاقية على العمل الفني يشوه الجمال و يقتله. فالفن يقيَّم جمالياً و فنياً، و لا يقيَّم اجتماعياً و اخلاقياً أو دينياً.
في(عطر سيمفونية الموت) قتلت الأحكام الأخلاقية الجمال.. و ساوت بين الجسد الاستهلاكي و بين الجسد الجمالي.. و لم تميز بين (الإيروتيك) و بين(البورنو).
في المسرحية لم يكن هناك هذا الخلط.. بل كانت (الإيروتيكا) الشرقية التي تنتهي بالقتل، أو الفجيعة، أو الحزن بعكس (الإيروتيكا) في الفنون و الآداب الغربية التي تحتفي بالبهجة و الفرح من البداية إلى النهاية. بهذه الذهنية تمت مقاربة(الليبيدو) الكامن في الجسد المقموع، و ما يتأتى عنه من نهايات مفجعة.
لم يحتمل وجدان المثقف في المدينة، باستثناء القليل، هذا الاحتفاء الجمالي بالجسد، و بالمقولات الجمالية للعمل الفني. فاستعاد المثقف موروثه الديني و الاجتماعي ليطلق منه أحكام الوجوب على المسكوت عنه في ثقافته، و يكرس أحكام الإعدام على الجميل و الحي في الانسان. لقد أحرجت(عطر سيمفونية الموت) المثقف، و أظهرت شخصيته الفصامية، فهو جاء إلى المسرح ليحتفي و يستمتع ببهجة الجسد.. لكنه حين يخرج يلعن الحياة، و الحب، و الجسد، و كل جمال لا يتطابق مع موروثه الأخلاقي.
قد نقبل هذا من شخص أمِّي لكن من الصعب تقبله من المثقفين.
ثمة خلط كبير بين المتعلم و بين المثقف، لا تكفي الألقاب العلمية لكي نطلق على أصحابها صفة(المثقف).
فالمثقف الذي لا يستطيع تمثل معارفه في أفعاله و اقواله، و يعاني نوعاً من الاغتراب عن واقعه كمقدمة للارتقاء بهذا الواقع المحكوم بالضمير القامع و الجسد المقموع، فإنه لا يختلف عن أي شخص أمّي لم يدخل مدرسة في حياته. و تصبح الألقاب العلمية هنا مجرد أقنعة نرتديها لنبدو محترمين أمام الآخرين الذين يرتدون بدورهم أقنعتهم أيضاً.
المثقف لا يرتدي الأقنعة.. بل القناعة.. متى تفتح طرطوس صدرها للبحر قبل أن يتقيأها جثة من الأوهام؟!! إلى أن تحدد طرطوس مضمون هويتها.. ستبقى مكاناً الأقنعة فيه أهم من القناعات.