تخطى إلى المحتوى
آخر الأخبار
الرئيس الأسد يشارك في الاحتفال الديني بذكرى المولد النبوي الشريف في جامع سعد بن معاذ الرئيس الأسد يصدر مرسوماً يقضي بتكليف الدكتور محمد غازي الجلالي بتشكيل الوزارة في سورية.. الرئيس الأسد يهنئ الرئيس تبون بفوزه في الانتخابات الرئاسية الجزائرية الرئيس الأسد يصدر مرسوماً تشريعياً برفع نسبة تعيين الخريجين الأوائل من المعاهد التقانية في الجهات ال... روسيا تطالب بإنهاء الوجود العسكري الأجنبي الذي ينتهك السيادة السورية الرئيس الأسد يصدر مرسوماً بتعديل المواد المتعلقة بالعملية الانتخابية لغرف التجارة وغرف التجارة والصن... الرئيس الأسد يترأس اجتماعاً للقيادة المركزية.. وبحثٌ لدور كتلة الحزب داخل مجلس الشعب اللجنة العليا للاستيعاب الجامعي تقرر قبول الطلاب الناجحين بالشهادة الثانوية بفروعها كافة في الجامعات... الرئيس الأسد أمام مجلس الشعب: مجلسكم هو المؤسسة الأهم في مؤسسات الدولة وتأثيره لن يكون ملموساً إن لم... بحضور عرنوس وعدد من الوزراء.. ورشة عمل حوارية حول التغيرات المناخية وسبل مواجهتها

( نثريات فاطمة صالح صالح )

حَلّقي……….
حلّقي أيتها الأميرة……! …… امخري عُبابَ البحارِ المجهولةِ، المُظلمة.. فالنورُ
هناكَ، يا أختي.. خلفَ الضبابِ في الآفاق… وراءَ عتمةِ البحارِ البعيدةِ الأعماق..
لا تخافي، يا أميرتي على ثوبكِ الملكيّ، من أن تمزّقهُ الرياحُ العاتية.. التي تصادفينها في
الآفاق.. والأمواجُ الصاخبة.. التي تمرّين بها خلالَ عبوركِ بحارَ الظلام..
لا تهابي الموت.. لا تخشي العذاب..
إنكِ تسعينَ نحو هدفٍ سامٍ، جميل.. كلهُ خيرٌ، وسلام، وسعادة للجميع..
إنكِ أينما وضعتِ قدمَكِ، ستجدين الموضعَ صلباً، قوياً.. وأينما مَدَدْتِ يدَكِ، ستجدين مُستنداً..
فلا تبالي..
إنكِ تسعَينَ نحوَ العُلا… وقد قيل 🙁 شرَفُ الوثبةِ، أن تُرضي العُلا…. غلَبَ الواثبُ، أم، لم
يغلبِ )
ستغلبين….. أنا متأكّدة..
جَمّعي طاقاتَكِ، في التحليق..
شدّي قواكِ، في العبور..
لا تبالي بالضباب.. لا تُرهِبْكِ العتمة.. فقد قال الشابّيّ : (فما ثَمّ، إلاّ الضحى في سناه.. ).. هل
هنالكَ أجملُ من الضحى..؟!…
ما أجملَ الصباح..!!
ما أعظمَ البدايات..!!
إنها الإنتصار…
إنها العزمُ، والحزمُ، واتخاذُ القرار..
وما ذلك بقليل..
إنهُ الضياءُ في العتمة.. إنه الهدايةُ إلى الخير.. وبدايةُ مسيرةِ الحياةِ الهنيّة.. الرغيدة..
للجميع..
استعيني بالنورِ الذي تحملينَ، في غياهِبِ الظلام.. إنهُ يهديكِ دوماً.. إنهُ لا ينطفي…
لا تدَعي ظلامَ اليأسِ يستبدّ بكِ.. اطعنيهِ بالنورِ الذي تحملين.. ويا لها من طعنةٍ لا تخيب..!!
حالاً، يتبدّدُ الظلام.. ويسودُ التفاؤلُ، والإقدام..
إنها البداية..

2

حُثّي الخُطا..
فالمُثابرةُ هي أساسُ النجاح..
أقدِمي.. أقدِمي.. أقدِمي..
شخصٌ مثلكِ، يحملُ النور، لا يُرهِبُهُ الظلام…. وهل يخافُ جُنديّ في يدهِ سلاحٌ أقوى..؟!
لكن، عليكِ أن تعتني دائماً بهذا السلاح.. وتشحَذيهِ، وتصقليه.. كي تحسّي بالأمان.. في كلّ
مكانٍ، وزمان..
لستِ وحدَكِ في الطريق.. أينما كنتِ ستجدينَ أصدقاء.. رفاقَ درب.. بأيديهم أنوار..
انضمّوا إلى بعض.. ليُصبحَ النورُ أقوى.. ولتُصبحَ الرؤيةُ أجلى، وأوضح..
إن استوقفتكم جماعةٌ من المُتخاذلينَ، الهائمينَ، الضعفاء.. دَعوهم.. وسيروا..
تأنّوا.. إن استدعى الأمرُ أناةً.. عند المُفترَقات.. لتسيروا في الدروبِ الأسلم.. التي بها
تنجون.. استريحوا.. عندما ترونَ حاجةً إلى ذلك.. في الأفياء.. وعلى الأعشاب…. اجمعوا
الأزهار.. ليكونَ ذلكَ تجميعاً للقوى.. لتزدادوا حَماسةً، وقوّة…. انثروا الزهورَ التي حَمَلتم..
انثروها على الجميع.. لتُسعِدَ الجميع…. لتبعَثَ الآمالَ في النفوسِ الخائرة.. لتُنعِشَ، بشذاها
العَطِر، النفوسَ الظمأى للعبير.. لحُبّ الحياة…. عَلّها توقظُ، ببرودَةِ نداها، كلّ مَن يحبّ
الحياة.. وتبعَثَ فيهِ النشاطَ، والأمل.. والتفاؤلَ، والسعادة..
إن وَخَزتكِ الأشواك.. امسحي الجرحَ بعصيرِ الورود..
لا تبالي بالآلام..
فإنها هي التي تُشعِرُكِ بحلاوَةِ الحياة..
أحِبّي الآلام..
فإنها هي التي تُشعِرُكِ بحلاوَةِ الصحة.. والحياة السعيدة..
أحِبّي الظلام..
لأنهُ هو الذي يُشعِرُكِ بسِحْرِ النور..
أحِبّي الفراغ..
فإنهُ يُشعِرُكِ بجَلالِ العمل..
أحِبّي الوَحدة..
فهيَ تُشعِرُكِ بحَلاوةِ الإجتماع..
أحبّي الضجيج..

3

فإنهُ يُشعِرُكِ بمُتعَةِ الهدوء..
أحِبّي الشتاء..
فإنهُ يؤذِنُ بقدومِ الربيع..
أحِبّي الصيف..
فإنهُ يؤذِنُ بخريفِ النضوج..
ثلجُ الشتاءِ، هو ماءُ الحياة..
رَعْدُ الشتاءِ، هوَ مخاضُ الحياة..
بَرْدُ الشتاءِ، هو إيقاظُ النفوسِ، لتستمرّ في الحياة..
ما أعذَبَ الحياة..!!
والحَرّ.. والبردَ.. والدفءَ.. والندى.. والطيرَ.. والشجر.. والزهرَ.. والأعشاب..!!
ما أعظمَ تفاعُلاتِ الطبيعة.. التي تلِدُ الحياة..!!
_____________________________________________________
( ……………. )
_______________
ربَتتْ على كتف الصغير، بحنان كفها الدافئة.. فتحتْ نافذة الباب الصغيرة.. ابتسمتْ ،
وهي تنظرُ تارة إلى خيوط الغيث المنسكب في الحقول، وعلى الطرقات ، والأسطح
الإسمنتية.. وتارة ، نحو وجه الصغيرِ الحائر.. ثمّ أطلقتْ ضحكات متتالية، قاصِدة إشعارَه
بالطمأنينة..
– انظرْ.. انظر يانور.. خالتو.. هذا مَطر.. مَطر.
قالتها بفرح.. وغنّتْ له، شبه راقصة.. ( مَطرْ.. مَطرْ.. مَطرْ…. بالنعمةِ انهمَرْ..
بالعشبِ، والثمَرْ…. مَطرْ.. مَطرْ.. مَطرْ…. )..
بَرَقتْ عيناهُ الصغيرتانِ،وهي تكرّرُ الترنيمة، منتشيةً..وتشرحُ له، بسعادةٍ غامرة،
كيفَ ينزلُ المطرُ " الماء" ( من عند اللهِ ) على الأرضِ، ليسقي الوردةَ.. فتشربُ حتى
تشبع.. ويرتفعُ ساقها نحو السماءِ، ليصلَ قبالةَ وجهِ الصغير.. تضمّ أصابعَها
الخمسة، ثمّ تفتحُها ببطٍء .. لتصبحَ وردةً مُتفتحة..
– يانور.. الوردةُ تتفتحُ لتقولَ لكَ : – صباح الخير، نوّارة..
وتكرّرُ التمثيليّةَ.. فتفرحُ قلبَ الصغيرِ ذي الاحتياج الخاصّ.. لم يعُدْ يخافُ من
البرقِ، والرعد.. بل، صارَ يشهقُ سعيداً، كلما بَرَقَ النورُ.. وهَدَرَ الصّوتُ.. واشتدّتْ
سرعةُ الرياح..

4
أخذتْ شفتاهُ تتحرّكانِ ، في محاولاتٍ متكرّرة، لترديدِ الترنيمة.. احتاجَ لنصفِ
ساعةٍ، حتى استطاعَ أن يغنيها، وهو يقفزُ قدرَ استطاعتهِ.. صارخاً بصوتٍ يشبهُ
صوتَ رجلٍ في الرابعةِ عشرة من عمرِه.. طارتْ من الفرح.. لقد أثمَرَتْ مساعيها..
ثمّ، هاهيَ ترتجفُ من قصْفِ الرعدِ المفاجئ.. دونَ أن تُظهرَ أية ارتكاسَةٍ أمامَ
الصغيرِالمُنتشي..
– أمي.. أمييي.. يا أميييي..!!
– نعم، يا أمي..
– تعالي.. اقتربي مني.. خلّيكِ قربي..
– تكرَم عينك يا أمي.. ها أنا قربكِ.. أجلسُ على السرير.. هل يؤلمكِ اهتزازُ السرير..؟!
– لا.. لا.. قليلا ..
أنّتِ العجوزُ أنّاتٍ مُتطاولة.. أرجَحَتِ الابنةُ كفّ والدتها الجافة.. فرَكتها بكفها
الطرية.. مَسَحَتْ على وجهها.. خدّيها، وذقنها، وجَبهتها.. رأسِها ذي الشعرِ الناعمِ،
الذي لم يبيَضّ منه أكثرَ من نصفهِ، رغمَ تجاوزها الحادية والثمانين من عمرها.. هيَ
في التاسعة والخمسين.. تصبغُ شعرَها منذ أكثرَ من عشرةِ أعوام.. حتى لم تعُدْ في
رأسها شعرةٌ سوداءُ، أو كستنائية، لولا ذلكَ الصباغ اللعين، الذي ابتُليَتْ به، كتقليدٍ
للأخريات..
جاءَ الصغيرُ ليطمئنّ على جدّته..
– خاتّو.. سو..؟! سو.. تاتا..؟!
– لاشيء، ياخالتو.. لاشيء، ياحبيبي.. ضُمّها.. ضُمّها، يانور..
يأخذ الصغيرُ بتقبيلِ جدّته.. كفها.. خدّها.. ورأسِها.. حتى الوسادة التي تحملُ
رأسَها.. والبطانية الصوفية التي تدثّرها….
– ( سامتك تاتا.. سامتك )..
– ألله يسلمك، يا حبيبي..
يخفتُ صوتُ الأنينِ، تدريجياً.. ثمّ لا تلبثُ أن تهدأ، وهوَ يمرّ بأصابعهِ الناعمة،
على وجهها المجعد، الناشف.. تمنحُ الأصابعَ الصغيرةَ قبلةً.. أو، قبلات.. ثمّ تفتحُ
عينيها، لأولِ مرّةٍ هذا اليوم.. تتمتمُ، وهي ترنو إلى وجهه المتضاحك :
– عيني.. عيني نوّارة الغالي.. عيني قلبه هالحنون..
تتهلّلُ أساريرُ الصغير – الشابّ.. وهو يرى جدّتهُ بخير.. يحاولُ أن يحكي لها
قصةَ المطرِ، والزهرة التي تقولُ له ، صباح الخير.. يرقصُ.. يرقصُ، وهو يردّد
الترنيمة..
تعالى صوتُ المكبّرِ، من مئذنةِ الجامعِ المقابلِ للقرية :
– ألله أكبر.. ألله أكبر.. ألله أكبر.. ( ولا تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيلِ اللهِ أمواتاً.. بل
أحياءٌ عندَ ربهم يُرزقون ) صدق الله العظيم.. انتقلَ إلى رحمةِ اللهِ تعالى.. الشهيد
البطل.. فلان، بن فلان.. من قرية ، كذا.. وسيُشيّعُ جثمانُه الطاهر، في الساعة كذا،
من بعد ظهرِ هذا اليوم.. للفقيدِ الرحمة.. ولكمُ الأجرَ والثواب..
ويُنوّهُ الصوتُ إلى الساعة التي ستجتازُ جنازةُ الشهيدِ القرية.. ليجتمعَ الناسُ
على جانبيّ الطريق.. ينثرونَ الورودَ، والأرز.. ويزغردون.. يبكونَ.. ويدعونَ له
بالرحمة.. ولكلّ شهداءِ الوطنِ الغالي.. ولأهلهِ، وأهلهم الصبرَ الجميل..
– ( أللهمّ رُدّ كيدَ الظالمينَ، إلى نحورهم ).. ( ألله يحمي الجيش ).. ( ألله محَيّي الجيش
)..

5
قد تكونُ هذه الجنازةُ، عاشرَ جنازة شهيد من أبناء تلك القرية الصغيرة.. يا ألله.. ما
أشدّ فقرَهم..!! الحمد لله.. أمهُ متوفاة.. وأبوهُ المُقعَدُ بالشلل النصفيّ منذ عدة أعوام ، (
يُلغلغ ) بكلمات نادبة.. شعَرَ مَن حوله بمعانيها الحارقة.. عجْز .. وفقدان….
آااااااااه……..!!.. آااااه.. يا أحمد..!!
…. يا ربّ العرش العظيم.. قرآنٌ كريمٌ أيضا ..؟؟!!! شهيدٌ آخر.. لقرية أخرى..؟؟!!..
ألله يرحمهم أجمعين.. لم يعُد الأمرُ غريباً.. لكنه مازال قاهرا .. يحفرُ في الروح ،
والوجدان.. بعُمق خارق.. لماذا..؟! لماذا يُقتلُ الحبَق..؟! لماذا..؟! في وطنه.. وبين
أهله.. من دِجلة.. إلى المتوسط.. ومن طوروس.. إلى الأردن.. ولبنان.. وحدود الوطن
المُحتلّ.. كلهم أهله…. فمَن الذي قتلَ الحبق..؟! بالتأكيد، ليس الأهل.. إنهم أعداءُ
الحياة.. دخلوا هذا الترابَ الطاهرَ على غفلة.. أو، على خيانة.. تحصلُ في كلّ البلدان..
قاهرٌ.. هو الفراق.. لكنّ الموت حقّ.. والشهداءُ لايموتون.. بل، يروون هذا الثرى بعَبَق
محبتهم.. وطهر أرواحهم.. لهم المجدُ والخلود.. ولهذا الثرى، الذي يضمّهم،
ويحضنونه..
رغمَ أنه زمنُ قطاف حبات الزيتون.. مَواسم الخير.. إلاّ أنّ بعضَ أشجارها أزهَرَت في
الخريف، هذا العام.. أو، ربما تابعَت إزهارَها بغزارة أكبر، من حوالي عامين، غامضين
، داميين.. كنا نراها أزهارا حمراء .. تخضرّ حينما تتشكّلُ ثمارُها الغضّة.. حتى زيتون
بلادي، يحتفلُ بميلادكم، يا أبناءَ هذه الجبال العامرة بالطيب ، والمحبّة..
جارتنا.. جثتْ على ركبتيها الثمانينيتين ، المتهالكتين.. وهي تقبّلُ علم البلاد الذي
لَفّ جنازة ابنها الشهيد.. ضمّ أشلاءهُ المُقطّعة.. ( – ألله يرحم روحك يا عيسى…. راح
الغالي.. راح.. راح مَسند ضهري.. راح.. كنت ناطرتك تتجي تاخدني لعند الدكتور يا
عيسى.. ضهري مكسور يا إبني.. آااااااااااااااااااخ يا ماما.. دخيلكوووون.. دخيلكن
شوّفوني اياه..!! دخيلكن.. هادا الحنون.. الحنون.. الحنون…. آاااااااااااخ.. يا إمي.. ألله
معك.. ألله معك.. ألله معك يا بَييي.. بيعينني ألله.. بيعينني ألله.. بيعيـــ…….. )
– خاتّو.. خاتّو.. خاف.. خاف.. أنا خاف.. ألله يرحمو سهيد..!!
– لا.. لاتخفْ يا حبيبي. لا تخفْ يانووور…. الشهيدُ عند ألله.. فرحان يا خالتو..
اضحكْ.. يانوّارة.. عند اللــــــــــه.. مبسوط.. غَنِّ معي : ( مَطرْ.. مَطرْ.. مَطرْ….
بالنعمةِ انهَمَرْ…… )
فاطمة صالح صالح
المريقب في
12/12/2012م

__________________________________________________

6
( إثرَ المُشاهَدَة والإستماع إلى مَقطوعة (حُبٌّ يحترق) "وهي إسبانية" من خلالِ برنامَج :
أعمالٌ خالدة .. التلفزيون العربي السوري… تقديم.. عواطف الحَفّار إسماعيل : )
شيءٌ ما يُبكيني..
شعورٌ غامِضٌ يُخرِجُ الألَمَ من نفسي.. من كَياني.. من داخِلي..
يُخرِجُهُ على شكلِ قطراتٍ من اللآلئ الحالمة..
دموعٌ لا أقدرُ أن أسَمّيها دموعَ الحِرمان.. بل دموع اللهفة.. دموع الشوق.. الشوق واللهفة إلى
مُعانقةِ الحياة.. بكلّ ما تعني..
ما أجمَلَ البكاء..!! شعورٌ دفينٌ ينطلِقُ عَبْرَ العَبرات، فيُطفئُ شيئاً من نارِ القهرِ والإحساسِ
بالظلمِ والتعاسَة..
أيها البكاءُ الجميل..!! أطفئْ بمياهِكَ الساخنة.. نيرانَ الحرقةِ والألَم.. ولا تدَعْها تفور.. لتَطغى
على النفسِ، فتُشعِرها باليأس.. لا.. فلا يأسَ مع الحياة..
ما أبهى الحياة.. بكلِّ ما تعني..!!
بقدرِ مايكونُ الضحكُ خير دواء.. في بعضِ الأحيان.. فالبكاءُ في رأيي.. أحسن دواء.. في
معظمِ الأحيان.. لأنّ الضّحكَ يتضَمّنُ البكاء، ويخفي في نهايتهِ التعاسة والإحساس باليأس.. بينما
البكاء.. ينتهي ليُخَلِّفَ وراءَهُ شعوراً عظيماً بالإرتياح والسعادة والإحساس بالتفاؤل..
الغناءُ، والضحكُ، والبكاء.. في رأيي، هم أجمل مافي الحياة..
إلى جانبِ الصلاةِ، والترَجّي.. والإيمانِ باللهِ تعالى..
___________________________________________________________
________
إشراقةُ روح
تبدأ الشمسُ فَرْدَ جدائلِها على سفوحِ التلالِ، وقِمَمِ الجبالِ الخضراءِ، التي بدأتْ أصابعُ الربيعِ
تهزُّ عَطاءَها من كتفيه، فتخضرُّ روحُها، وتمشي إلى حيثُ خُلِقتْ له.. ينسابُ النورُ على
صفحاتِ روحِها، وعلى شُرفةِ منزلها المتداعية.. أشعةٌ ناعمةٌ تولَدُ هذا الصباح، ذهَبيةٌ، كأنها
بدايةُ نضوجِ سنابلِ القمح.. ترفرفُ أجنحةُ الكينا، وتصفقُ وهيَ تستقبلُ الشمسَ، كأنّ أوراقها
لآلئُ ترقصُ في روحِ أنثى عاشقة..
قبل طلوعِ الشمسِ، نهضت (محجوبة)، قاوَمَتْ إغراءَ النومِ قليلاً، وخرجت إلى شُرفةِ الفجرِ،
تلتقطُ من سِحرهِ أنفاسَها الرطبة.. تنفست بعمقٍ، عدّةَ مرات.. عَبّتْ كلّ ما تستطيعُ من رحيق..
وزفرَتهُ غنياً بالكربون.. انتعَشتْ أورِدَتها، وشعرت بالمزيدِ من النشاطِ يُنعِشُ روحَها، راحتْ

7
ترفرِفُ بأجنحتِها الخمسينيةِ، كأنها ابنةُ عشرين، رقصَتْ ملامِحُ وجهِها الأسمرِ، كأنها سنابلُ
حنطةٍ يؤرجِحُها نسيمُ الفجرِ الأخضر، فتلوِّحُ لهُ بسُمرَتِها الناضجة..
ذهبَ الفجرُ إلى شُرفةٍ أخرى في هذا العالم، وانسالَ الشعاعُ الذهبيُّ على أسطحِ المنازلِ البعيدةِ
والقريبةِ، في مُحيطِ (مَحجوبَة)، لم تأبه كثيراً للمدّةِ الزمنيةِ التي استغرقها مسيرُها الباكِرِ، من
أقصى غربِ الشرفةِ، إلى أقصى شمالها.. لم تأبهْ لبلوغِها الخامسة والخمسين، قبلَ عدّةِ أيام..
لابُدّ أنهُ أصبَحَ لحياتِها مَعنى.. لا بُدّ أنّ وجودَها صارتْ لهُ قيمةٌ مُجدِية في هذه الحياة.
لوحاتُها، التي تحرصُ على التوقيعِ عليها باسمِها (الجميل)، مَركونةٌ في زوايا منزلِها البعيد،
تحثّها على الإستمرار، تدفعُها دائماً إلى الأمام.. الأمام..؟! أم..؟! وهل هناكَ أمامٌ وخلفٌ، حينَ
تكونُ الحياةُ مُفعَمةً بالعطاء..؟!
كلُّ لوحاتِها، كانت مُستوحاةً من وجهِ صغيرِها (صَباح) الذي رحَلَ، دونَ أن يكونَ لها سَنَداً على
الحياة، بل أضافَ إلى أعبائها أعباءً مُضاعَفة..
تقفزُ إحدى لوحاتِها من مكانِها، وتجلسُ القرفصاءَ أمامَ مُبدِعَتِها، كأنها طفلةٌ تداعبُ أمها،
وتُبادِلُها الفرح.. تمسحُ (محجوبة) على شعرِ الطفلةِ، وتضمّ رأسَها، وتمنحُها قُبلةً صباحيةً
دافئة..
آذارُ يحضنُ الكونَ، ويحضنُ روحَ (مَحجوبَة).. تشعرُ بحنانِهِ الذي رافقَها منذُ أن وَجدَتْ ذاتَها..
تمتلئُ بالنشاطِ، والهِمّة.. وتبدأ العَمَل.
إنها تعرفُ قيمةَ حياتِها، الآن، وقيمةَ عَمَلِها، وتدركُ أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى، معنى أن تكونَ
إنسانة، ومعنى أن ترسمَ طريقَ حياتِها، كما تريد هيَ، وكما يُسعِدها.. كيفَ تتأقلمُ مع ظروفِ
حياتِها، مهما كانت قاسية.. وقد أفلحَتْ في تحويلِ ماهوَ سلبيّ، إلى إيجابيّ، كما تراه. وهل
تنضجُ السنابلُ، إلاّ بعدَ أن يمرَّ عليها فَصلٌ منَ الحرارةِ الشديدة..؟!!
منذ سنوات، كانت (محجوبة) قد استيقظتْ من كوابيسِها، لتسألَ نفسَها :
– مَن أنا..؟!
أين كنتُ قبلَ قليل..؟!
أين زوجي مُعتزّ..؟!
وهل أنا متزوّجة، حقاً..؟!
أين تالة، وهالة، ابنتيّ..؟!
أين قبر طفليَ المسكين، صباح..؟!
وكيف تكون لي ابنتان، دون أن أكون متزوّجة..؟!
وهل هذا بيتي، حقاً..؟!
وماذا يمتلكُ من مُقوِّمات البيت..؟!
الجدران الإسمنتية.؟ والسقف.؟ والغرف الواسعة.؟ والشرفة، التي تطلُّ
على الطبيعة الجميلة..؟!

8

وهل كلُّ هذا كافٍ لأن يكوِّنَ بيتاً لأسرةٍ كانتْ حُلُمي..؟!
البيتُ وطنٌ صغير..
_______________
أبعَدَتْ عن رأسِها كلّ فكرٍ سلبيّ، يمكنهُ أن يثبّطَ هِمّتها، أو أن يعيدَها إلى نفسِ الدائرةِ المُغلقةِ،
التي كانت مَسجونةً فيها، وتدورُ حولَ نفسِها وهُمومِها دونَ قرار، مدّةً تجاوزتِ الثلاثينَ عاماً..
ترَحّمَتْ على طفلها ذي الإحتياجِ الخاص، واقتنعتْ، وهيَ تنظرُ إلى صورتهِ الحبيبة، أنّ عينيهِ
الصغيرتين، تحثانِها على المزيدِ من تحقيقِ ذاتِها :
-أكونُ سعيداً، كما تمنيتِ لي، يا أماه، في حالةٍ واحدة.. أن تكوني أنتِ سعيدة….
قبّلتهُ من جبينهِ، ومن خدّيهِ ، ولامَست شعرهُ بأصابعِ أمومتها، وضمتهُ إلى صَدرِها، قبل أن
تركنَ الصورةَ في مكانها المُفضّل :
-سأحَقّقُ رغبتكَ، يا بُنيّ.. لكن.. ابقَ معي..
-أنا معكِ، يا أماه….
-أعرفُ يا صغيري.. ولن يهمّني، بعدها، سُخطَ أبيكَ، أو نظرةَ الشفقة، أو الإستخفاف، من أيٍّ
أحدٍ في الكون..
ضحكتِ الصورةُ، وانبثقَ النورُ من عينيّ صَباحِها…
تناوَلتِ الريشةَ، والألوان، وبدأت ترسمُ مشاعرَها…..
تناسَتْ أنها لوحدِها…. بل، لم تعُد لوحدِها… صَباحُها يرافقها.. ويساعدُها على إقناعِ أختِهِ هالة،
أن تنسى ريمون، وخداعَه… وأن تنهضَ من جديد…
-ريمون، لا يعرفُ إلاّ مَصلحتهُ الخاصة، يا أختي.. ولا تهمهُ مشاعركِ، أو مشاعر كلّ مَن
خَدَعَهنّ… ها أنتِ ترين، فقد تزوّجَ من تحققُ لهُ رغبته، ونسيكِ، كما نسيَ كلّ ضحاياه… لا
تلوميهِ يا أختي.. فقد ربّاهُ أبواهُ على هذهِ الأنانية..
-لكنني مُحَطّمةٌ يا أخي.. أنا مُحطّمةٌ يا صباح…
-لستِ محطمة.. أنتِ تعاقبينَ نفسَكِ التي صَدّقتْ ريمون، وأضاعتْ من عمرِها سنتين، وهيَ لا
ترى سواه.. تركتِ دراستكِ، والتحقتِ بأهوائه.. كنتِ تفاخرينَ أنهُ يغازلكِ أكثر من بقيةِ
الفتيات..
-لا تزيديني ألماً، يا أمي.. حتى أنتِ ضدي..؟!
-أنا معكِ، ولستُ ضدكِ، يا هالة.. تبقينَ ابنتي، رغمَ تمرّدكِ، وعنادِك..
-ألم يخدعكِ زوجكِ أنتِ..؟! اعترِفي..!!
-لكنني نهَضصتُ، وتابعتُ حياتي بما تبقّى لديّ من طاقة.. وأنتِ ترينَ النتائج..

9
لم يكنْ لديّ أيّ سلاحٍ أواجهُ بهِ العالمَ، بمُفرَدي.. فاعتمدتُ على مَوهبتي، مِنحَتي الرّبانية.. ولم
أسمحْ لأبيكِ، ولا لبقيةِ الأشواكِ المُتألّبةِ، أن تمنعني من تحقيق ذاتي.. أنقذتُ ما يمكنُ إنقاذه…
أنتِ مازلتِ في ريعانكِ، يا ابنتي.. قومي… فالحياةُ هديةٌ من القوةِ الخالقة.. ويجبُ علينا أن
نملأها بالعطاء، الذي يُغنيها.. كي نرضي الله.. عندها، فقط، نثبتُ أننا نستحقّها..
-مازلتُ في ريعاني..؟! نسيتِ أنني تجاوَزتُ الخامسة والثلاثين..؟؟! نسيتِ أنّ تالة تزوّجتْ مَن
أحبها وأحبتهُ، ورُزقت بطِفلين..؟! نسيتِ أنها مدرّسة، وأنا لم أحصل على الشهادةِ الثانوية..؟!
هل خرِفتِ..؟!
-لم أخرف، بعدُ، يا هالة…. أعرفُ كلّ ذلك… لكن….
-لكن، ماذا..؟!! ستقولينَ لي : لم يفتِ الأوانُ، ولن يفوتَ، مادمنا على قيدِ الأمل… أنا لا أشعرُ
بأيّ أمل.. أنا مَيتة..
-مَن التي تكلّمني، إذاً..؟!
-اضحكي.. اضحكي عليّ، كعادتِك…..
كانَ محمودُ قد عادَ من غُربتهِ، حاصِلاً على شهادةٍ رفيعةٍ، أهّلتهُ لإنشاءِ معملٍ لصناعةِ الألبسةِ
الجاهزة، بخِبرَةٍ مُضاعفة.. شجّعهُ على إنشائهِ في مدينتهِ الساحليةِ، تحسّنُ وضعِ الوطنِ، بعد
خمسٍ عِجاف.. وبدأتْ براعمُ ربيعِنا الحقيقيّ تلوّحُ للفجرِ الأخضرِ، بعدَ ليلٍ دامِسٍ أحمر.. لم
يقدر، خلالَ تلكَ السنواتِ الحارّةِ، أن يحضرَ زفافَ أخوَيهِ الشهيدَين.. لكنهُ قرّرَ أن يثأرَ لهما،
على طريقتهِ الخاصّة..
-أعرف.. تظنينَ أنّ محمود، سيقبلُ بي، بعد كلِّ ماحصَل..!!
-لا أظنّ ذلك.. لكنهُ يبحثُ عن عاملات… وقد أخبرتُهُ بوضعِكِ، عندما استفسَرَ عن حالتك..
-تشحذينَ عليّ..؟!
-أكسرُ فمكِ، إن تطاوَلتِ عليّ، بعد الآن…. قومي.. افتحي الباب… ألا تسمعينَ رنينَ
الجَرَس…..؟!

فاطمة صالح صالح
المريقب في 15/3/2016م
___________________________________________________________
________

10

إلى الغالي، صالح سليم صالح…….. أبي………….
18/2/2009م
(الخصيبة)، هذه القرية التي وَدّعَتكَ ذاتَ شتاءٍ، قبلَ أكثرَ من ثمانيةٍ وخمسين عاماً، بقليل..
وَدّعَتكَ – أيضاً – هذا الشتاء.. قبل ثلاثينَ يوماً.. يا أبي.
حوالي الساعة العاشرة، مساءَ يومِ الأحد، الثامن عشر من شهر كانون الثاني"يناير" عام
2009م الموافق للحادي والعشرين من شهر مُحَرّم عام 1430 هجرية..
فاضَتْ روحُكَ إلى بارئها، في غرفةِ العِنايةِ المُشَدَّدةِ من "مَشفى تشرين العسكري".
عندما أعلَنَ الطبيبُ نبأ وفاتِكَ، يا أبي، كان "ياسر" إبن عمي "علي" إلى جانِبِكَ، هو و "رامي"
إبن عمي "محمد" رحمهُ الله.
لم يُصَدّقْ "ياسر" ما يسمع. نظرَ إلى وَجهِكَ الجميل، يا أبي، وجهِكَ الطافِحِ بالمَحَبّةِ والجَمالِ
والقُدسية، فرآكَ تبتسم. ضحِكَ، والدموعُ تُبَلِّلُ خدّيه، ونادى ابن عمّه "رامي" :
-تعال يا رامي. انظرْ، باللهِ عليكَ، ماذا ترى.؟!
-والله العظيم، إنهُ يبتسِم.!
هل هذا وَجهُ رَجُلٍ ماتَ للتَّوِّ، يا أبي.؟!
أبداً….. لم يكُنْ كذلك.
إنهُ وَجهُ رَجُلٍ طافِحٍ بالحياة، والخير، والجَمال…
رَجُلٍ عادَ مِنْ حيثُ أتى.. لكن.. بعدَ أن قضى حياتَهُ بالجِدِّ والعَمَل، قاطِعاً رِحلةً قاسيةً جداً، عَبَرَ
خِلالَها سبعةً وسبعينَ عاماً، وعِدّةَ أشهُر. خاضَ خلالَها حروبَهُ وكفاحَهُ ضِدَّ الفقرِ، والجَهلِ،
والمَرَضِ، والتخلُّف.. على الصعيدَين، العامِّ، والخاصّ.. لم يهدأ فِكرُهُ، أو جَسَدُهُ، يوماً، عن
خِدمةِ الحَقِّ، ونُصرَةِ المَظلومين، والوُقوفِ في وَجهِ الظالِمين، ما استطاعَ إلى ذلكَ سَبيلا.
فرَحَلَ.. خاتِماً مَرحَلَةً من حياتِهِ اللانِهائية.. ابتدأتْ منذُ خريفِ عام 1931م وانتهَتْ في شتاءِ
عام 2009م.. مُرْضِياً ضَميرَهُ.. طامِعاً في مَرضاةِ خالِقِهِ، الذي لا يُكَلِّفُ نَفساً إلاّ وُسْعَها..
والذي يغفرُ الذنوبَ جميعاً، إلاّ الشِّرْكَ به.
استغرَبَ الطبيبُ، كيفَ أنّ رائحةَ فمِكَ كانتْ كرائحَةِ المِسْكِ.! هو الذي شَرَحَ لأبنائكَ
"أسامة" و "آدم" وأقارِبِكَ الآخرين، أنَّ مِن أعراضِ مَرَضِكَ القاتِلِ ذاك، أن تكونَ رائحَةُ فمِ
المَريضِ بهِ، نَتِنَة.. وكذلكَ رائحةُ الجَسَدِ المَريض..
لكنهم أكّدوا جميعاً، أنّ رائحةَ فمِكَ كانتْ كرائحةِ البَخورِ، أو، كرائحةِ المِسْكِ، يا أبي.
أمي، الوحيدةُ التي لم تستغرِبْ ذلكَ، وقالتْ :

11
-كيفَ لا يكونُ ذلكَ، يا بُنَيّ.؟! كم مِن كلِمَةٍ طيِّبَةٍ خرَجَتْ من ذلكَ الفمِ الحبيب.!! قليل، ما كانَ
يقرأ منَ القرآنِ الكريم.؟! خصوصاً، في سَنواتِهِ الأخيرة.؟! قليلٌ، ما حَلَّ من مَشاكِلَ بين
الناس.؟! قليلٌ، ما نَطَقَ بالحَقِّ، طولَ عُمرهِ الطّيّبِ، يا بُنيّ.؟! أقَلّ منها أن يُكافئهُ اللهُ بهذهِ
الخاتِمَةِ الطيّبة..؟!
_____________________________________________________
إلى مَن لا تنساهُ عيوني.. ولا يَسلاهُ قلبي..
إلى الحبيبِ الذي عِشتُ من أجلِهِ خمسَ سنواتٍ ماضية..
إلى الذي لا يعرفُ مِقدارَ حُبي، ولا يعلَمُ كيفَ أُبْديهِ لَه..
إلى حبيبي أكتبُ تلكَ السطور..
أمس كنتُ جالسَةً في غُرفتنا.. أنظرُ من حَولي هنا وهناك..
أراقِبُ القمَرَ والأنجُمَ الزاهية تتراكضُ مُتسابِقةً بينَ طَيّاتِ الغَمام..
سَرَحْتُ معَ المنظرِ الحالِمِ بعضَ الوقت.. ولكنّ نسمَةً رقيقةً لفَحَتْ وجهيَ المُطِلِّ عبرَ النافذة..
فبعثتْ في سَمارِ وجهي قشعَريرَةً ناعِمة..
فشعرتُ بسعادَةٍ ورِضى، وأغمَضْتُ عينَيّ، ولكنّ أنغامَ العصافيرِ أخذتْ تُداعِبُ أذنيّ بلطفٍ
وبراءة..
فازدادَتْ سعادتي بكلّ ما حَولي، وأخيراً فتحتُ عينَيّ ونظرُ حَولي من قريبٍ، ومن بعيد، مُحاوِلَةً
أن أرى وجهَكَ الطاهرِ الغالي لأدفنَهُ في صَدري، وأمَرِّغ يدَيّ بينَ شُعَيراتِكَ الناعمةِ الحبيبة..
لأتمّ سعادتي ولو للحظات.. أنعَمُ فيها بدِفءِ الجَبينِ وحَنانِ الصّدور..
لا تتكلّمْ يا عزيزي كي لا تُفسِد غَيبوبَتي الشاعريّة… لا… ولا تفتَحْ عَينَيك.. لأني أرى من
خِلالِهِما عَذابي… دَعْني… دَعْني أمَتِّعُ نفسي بكَ وأنتَ رَجُلاً مَجهولَ الهُويّة… وبَعْدَ قليل.. ارفعْ
رأسَكَ وافتَحْ يَدَيك.. واطوِ كَياني.. امزجْهُ في كَيانِك… وأخيراً اسمَحْ لأنفاسِنا بالتّلاقي.. وارخِ
عِنانَ الشِّفاه….
واسلَم للمُحِبّة !!!!!

إنسانيّة…..!!
عندما لم أنجِبْ لهُ سوى البَنات، قرّرَ أن يتزوّجَ بأخرى..
قلتَ أنتَ، يا والدي.. وأيّدَتكَ والدتي، وآخرون :

12

حَقّ.. حَقّهُ أن يتزوّج..
انتظَرَكِ كثيراً.. بعدَ ثلاث بنات، طَفَحَ الكَيل.. العُمرُ يمضي، والرّجُلُ لم يَحظَ بحياةِ الذِّكْر، حتى
الآن..!!
ولَعِبْتُمْ بعَقلي.. هوَ، وأنتم.. أرغَمتموني – وأنا صاغرة – مُتَصَنِّعَةً القبول، أن أختارَها
بنفسي.. ضرّتي.. لأنني أنا مَن ستعيشُ معها، كما قالَ لي، مُحاوِلاً إقناعي بأنّ ذلكَ
لمَصلحَتي.. هو، لا يهمّه.. يتزوّج أيّةَ امرأةٍ يُشيرُ إليها.. لكنه – وهو الحنون، النزيه، العادل
– يُريدُني أن أختارَها بنفسي، كي تكونَ صديقتي.. ضرّتي تلك..!!
و – كالحمقاءِ، الخَرقاء – اختَرْتُها، كما زعمتُ.. وذهبتُ معهُ لخطبتها.. وأرسَلتُم معي
أخي، مَندوباً عنِ العائلة.. ليَدلَّ ذلكَ على مُبارَكَتِكم الفِكْرَة..
وحَدَثَ ما حَدَث..
وكانتْ تلكَ الليلةُ السوداءُ، كقلبيَ المَطعون.. كَلَيلِ روحيَ الشّتويِّ الطويل..
اقتَدْتَها إلى الغرفةِ، وأمامَ ناظِرَيّ، دونَ أن أحَرِّكَ شيئاً ظاهِراً فيَّ..
حَضَنتَها، وأغلَقْتَ الباب.. وصَفَقْتَ بهِ قلبي، وروحي.. دُسْتَ بهِ كرامتي، وأنوثتي.. سَحَقْتَ
إنسانيّتي..
كانتْ أنفاسُكَ، التي كنتُ أجزمُ أنكَ تفتعِلُ المُبالغةَ فيها، تفعَلُ في روحي، كما كانَ يفعَلُ حِذاؤكَ
عندما كانَ يلطمُ وجهي، حينَ أقِفُ في وجهِ طُغيانِكَ، صارخةً، بعدَ أن استنفَذتَ طاقتي من
أكوامِ الصّبْر..
كنتُ أحترِق..
اشتعَلَتْ نيرانٌ في صَدري، وغمَرَتْ كَياني، كَبُركانٍ عاصِف..
صَرَخْتُ.. صَرْخَةً.. دونَ إرادَتي، أيقظَتِ الجيرانَ، الذينَ كانوا، للتَّوِّ، قد رَقَدوا، بَعدما حَضَروا
الزّفافَ المَيمونَ، وبارَكوا (عقلانيّتي)..!!
هَبّتِ البَناتُ من غرفتِهِنَّ، صارِخات.. أحاطَتْ إحداهُنّ خَصري، والأخرى عُنقي.. بينما
اضطرَبَتِ الصغيرَةُ، وسارَتْ، جيئةً، وذهاباً.. بالَتْ في ثيابِها:
– ماما.. ماما………….!!

ولم أجِبْ.. مع أنني كنتُ أسمَعُها.. لكنني – للَحظةٍ – تمَنّيتُ لو لم يكُنْ لَهُنّ
وجود..
اجتمَعَ الجيرانُ حَولَ البيت.. لم يجرؤ أحَدُهُم على الدخولِ، حِشمَةً.. فللبيوتِ
أسرار.. وهذا البيت، في ذلكَ الوقت.. لهُ أسرارٌ مُضاعَفَةٌ خطيرة..
تَهامَسَ الجَمْعُ عن مَصْدَرِ الصّرْخَةِ الكُبرى، وصُراخِ الصغيراتِ الذي تَلاها..!!

13
فتَحْتَ البابَ، ببُرودَةِ أعصابٍ، بَعْدَ أن ألقَيتَ نَظرَةً عَلَيَّ، أنا المُحَطّمَة، المَرميّة،
دونَ حِراكٍ، على أرضِ الصالون.. وبَناتي حَولي..
لمْ تعِرْني غيرَ ابتِسامَةٍ، لا تخلو من تَشَفٍّ، وشَماتَة..
قلتَ للجَمْعِ المُستفسِر :
– إنها إحدى نَوباتِها الهستيريّة، ليسَ إلاّ.. ومَهما كانتْ مُقتَنِعَة – وادّعَيْتَ
المَعْرِفة، كَعادَتِك – فلا بُدَّ مِن شيءٍ مِنَ الغيرة..
وضَحِكْتَ.. أو، تضاحَكْتَ في وُجوهِهِم :
– هكذا حالُ النساء..!!
شَكَرْتَ الجميعَ على اهتمامِهم.. أغلَقْتَ البابَ الخارِجيّ، وعُدْتَ إلى غرفتِكُما، بَعْدَ
أن وَعَدْتَ الجيرانَ أنكَ ستعطيني الدّواءَ، وتوقِظُني، وأنّ الحالَةَ صارَتْ مَعروفةً،
وغيرَ خطيرة – كما قالَ الأطباءُ، سابِقاً –
لكنّكَ لم تفعَلْ.. غيرَ أنْ تناوَلْتَ كأسَ ماءٍ بارِدَة، ورَشَقتَها على وَجهي، وطمأنتَ
الصغيراتِ، عندما تعَلّقْنَ ببنطالِ بجامَتِكَ الحَريريّ.. أنني بخير…………………….
فاطمة صالح صالح
المريقب
2004م

___________________________________________________________
________
بَهّوج
(بهيجة).. كان اسماً لابنةِ جيراننا التي ماتتْ في الظلام.. في قَبْوٍ تعيسٍ كان
مَرْبَطاً للدّواب.. بعدَ أن تخلّى عنها أهلُها – حتى أمّها – عندما داهَمَها المَرض.. أو
الأمراضُ المُتعَدِّدَة، وهي تعملُ خادِمَةً غيرَ مأجورَةٍ عندهم، لأكثر من عشرينَ عاماً..
بعدما اغتصَبَها إبنُ (مُعَلِّمَتِها) في بيروت.. أو، بالأحرى، عاشَرَها ذلكَ المُراهِق، حتى
مَلَّ منها.. وقد يكونُ (مُعلّمُها) أيضاً عاشَرَها.. أو غيرُه.. وغيرُه.. مَنْ يَدري..؟!
هيَ حَدّثتني بذلك، عندما كنا نرعى الدواب في (مْسيل الدّيراني).. وهي المرّة
الأولى والأخيرة التي رَعَيتُ معها الدّواب.. مع أنني كنتُ أرغبُ أن تحكي لي قصّتها
التي كانتْ تسردُها بصوتِها الذّليل، بالكثيرِ منَ التفاصيلِ المُثيرَة.. فتحَرِّكُ غرائزي
التي كانتْ للتّوِّ تتفتّح.. أشعرُ بالقرَف، الذي يخالِطُهُ شعورٌ بالحَسَد، لأنها عرفتِ
الجنس.. هذا المُحَرَّم، الدّنِس.. الذي يودي بمُمارِسيهِ إلى نارِ جَهَنّم..
كنتُ أتوقّعُ أن يغفرَ لها اللهُ.. أو يُخفِّفَ عنها العذابَ يومَ القيامة، لأنها أُجبِرَتْ على
ذلكَ الفِعْلَ الشنيع..
كنتُ أتحاشى السلامَ عليها.. لكنني – بالمُقابِل – أُشفِقُ عليها إلى درجةِ الموت..
أخبَرَتني أنها عندما شكَتْ إلى (مُعلّمتها) تحرُّشَ ابنَها بها.. وأنهُ يُهَدِّدُها، إن
عادت وأقفلتِ البابَ بوجهه، أنهُ سيَقتلها.. تفاجأتْ بجوابِ (مُعَلِّمَتِها) الذي يحملُ منَ
التهديدِ والقسوة، أكثرَ مما كانتْ تسمعُهُ من ابنِها :
-استسلِمي لهُ، كما يأمركِ.. فهوَ سَيِّدُك.. لماذا أحضرتُكِ إذن..؟!
انتهَتْ مدّةُ صَلاحيتِها، عندما سافرَ (معلمها) مع أسرتهِ إلى فرنسا.. نقلها أبوها
إلى بيتِ (مُعَلِّمٍ) آخر.. ثمّ آخر.. إلى أن وَقَعَتِ الحَربُ اللبنانية في السبعينات من القرنِ
العشرين.. وهاجَرَ كلُّ (المُعَلِّمين) مع أسَرِهِم إلى بلدانٍ أجنبيةٍ مختلفة.. عندها، هامَتِ

14
المسكينة.. لم يسأل عنها أهلُها.. فالعائلة كانت قد أصبحتْ كبيرة.. تعلّمَ أغلبُ إخوتِها
وأخواتها إلى مَراحِلَ مُتفاوِتة.. لكنّ أحداً منهم لم يتجاوَزِ التعليمَ الثانويّ.. تزوّجَ
بعضُهم.. وأطفَلوا..
زَوّجَتْ هيَ نفسَها لأكثر من مُشَرَّد.. وأقامَتْ معهم في بيوتِهِمُ الحقيرة.. (هل هي
الحقيرة..؟! أم مَنْ أودى بهم إليها، هو الحقير..؟!) أنجَبَتْ طِفلةً من ذلكَ المَعتوه،
مُشَوّه الخِلقة.. لم تلبثْ أن ماتَتْ.. فرأى أهلُ (بَهيجة) أنها ما تزالُ تحتفظُ ببعضِ
القوّة، وبعضِ بقايا الشباب.. وأنها، إن عاشتْ معهم، سيستفيدونَ من بَقيّةِ طاقَتِها..
فهيَ تملكُ منَ الخِبْرَةِ في خِدمةِ الآخرين، والقدرةِ على تحمُّلِ الذلِّ والخنوع، مالاتملكهُ
امرأةٌ في قريتِها (الخصيبة).. فقرّروا أن (يَلمّوا) تلكَ القذِرة، المُتشرِّدة، التي كانوا قد
تبرّؤوا منها، منَ الشارع.. لتعمَلَ عندهم خادِمَةً غيرَ مُحترَمة، وغيرَ مأجورة.. لها
صَحْنُها الخاصّ، ومِلعَقتُها الخاصّة، وزاويَتُها الضّيِّقة، المُعتِمة، التي تأوي إليها
عندما تنتهي من أعمالِ البيت.. فيتجَنّبُ أهلُها حَمْلَ عارِها، إذا لم يعرفْ أحدٌ من أهلِ
القريةِ بوُجودِها في بيتهم..
وعادَتْ (بَهيجة) إلى دارِ أهلِها، خادِمَةً مُطيعة.. نظّفتِ البيتَ، كما لم تستطعْ أمها،
أو أخواتُها، أو، حتى نساءُ إخوتِها تنظيفه.. طبختِ الطعامَ، بأشكالٍ، وألوانٍ، وأصناف
لم تخطرْ لهم على بال.. زَيَّنتْ زوايا البيتِ بالمزهرياتِ الطبيعية، والصناعية.. غرفة
الجلوس، والمطبخ.. كلها نالتْ نصيبَها من الترتيبِ والنظافة من يدِ (بَهّوج).. زرَعَتْ
أنواعَ الزهورِ والورودِ في حديقةِ الدارِ الصغيرةِ، التي حَفَرَتها بيديها الخشَبيّتين،
اللتينِ لم يَعُدْ لهما شكلُ يدَي أنثى.. كوَجهِها، تماماً.. الذي انطفأتْ منهُ شُعلةُ الحياةِ،
حتى صارَ يشبهُ وَجهَ المَوتى.. استثمَرَتْ كلَّ ذرّةٍ من ترابِ الحديقةِ، التي كانتْ مكَبّاً
للنفايات.. فصارَتْ، من تحتِ يديها، حديقةً زاهية.. مُتعَةً للناظرين..
وأمّها.. حتى أمها كانتْ تُرَدِّدُ أنّ هذهِ (الشّيعة) وتقصدُ (المُحتَقَرَة) (بَهّوج) هيَ
التي قلَبَتِ البيتَ رأساً على عَقِب.. هيَ التي زرَعَتْ.. وهيَ التي طبَختْ.. وخاطتِ
الثيابَ الجميلةَ لإخوتها، وأبَوَيها، وأحفادهما الصغار.. وزَيّنتْ.. ورَتّبَتِ البيتَ بشكلٍ
يُسعِدُ جميعَ ساكِنيهِ، وزائِريه..
وعندما مرِضتْ (بَهيجة) لم يعرِفْ بها أحَد.. فقَدوا سَماعَ صوتِها الذليلِ الهامِس..
وحَرَكَتها الدائمة.. تراجَعَتْ دَرَجَةُ النظافةِ في البيت.. ذبلتِ الزهورُ في الحديقةِ
الصغيرة..
بَحَثوا عن (بَهّوج).. ظنّوا أنها هَربَتْ مع رجُلٍ آخر.. شَتَموها.. لعَنوها.. ولعَنوا
الساعةَ التي قرّروا فيها أن (يَلمّوها) منَ الشارع..
فلتُشرِّدْ مَرّةً أخرى.. فقد كبرَتْ بالعمر.. ويبدو أنّ قِواها بدأتْ تخور..
أيامٌ عديدة، و (بَهّوج) غائبة عن الأنظار.. تجتمعُ العائلةُ كلَّ يومٍ، صباحاً،
وظهراً، ومساءً.. تأكل، وتتزاوَر، وتشربُ المَتّة، وتتناوَلُ المُكَسَّرات.. ولا أحد يسألُ
عن مَصيرِ (بَهّوج) إلاّ بعضُ الصّغار، أبناءُ إخوتِها.. فيلعَنُها الجميعُ إذا شَعَروا أنّ
حاجَةً تنقصُهم، وهيَ غائبة.. فيتكلّفُ أحَدُهم عَناءَ القيامِ بها:
-مَلعونةٌ أنتِ يا (بَهّوج).. الزريعةُ تحتاجُ إلى تسميدٍ وسِقاية..
-مَلعونةٌ.. فقدِ اتّسَخَتِ الثيابُ كلُّها.. وزوجةُ أخيكِ الحامِل على وَشَكِ الوِلادَة..
-مَلعونةٌ.. أختُكِ ستتزوّجُ عَمّا قريب.. فمَنْ سيقومُ بأعباءِ الزفاف..؟! مَن..؟! أيتها
القذِرَة.. أنتِ مثل (سلاح بيت شيبان) عندَ الضرورةِ لا تكونينَ فاعِلَة..
بعدَ أيام.. سَمعتْ أمُّها أنيناً يأتي منَ القبوِ المَهجورِ، الذي كانَ زريبةً للبقرِ
والحَمير.. واستُغنيَ عنهُ، عندما استُغنيَ عن ساكِنيه..
تتالتْ أصواتُ الأنينِ الذي يأتي كأنهُ من مَغارَة.. نزلتِ الأمُّ – مُتثاقِلَةً – عِدّةَ
دَرَجاتٍ منَ الحَجَرِ الأسوَدِ الذي نَبَتَتْ عليهِ بَعضُ الأعشابِ الخضراء.. يبدو أنّ قَدَماً لم

15
تَدُسْهُ منذُ مدّة.. أخفَضَتْ رأسَها عندَ العَتبة.. ووَضَعَتْ كَفّيها حَولَ عَينيها، لتجمَعَ
بَعضَ الضوءِ، عَلَّها تكتشِفُ مَصدَرَ الأنين.. تلَوَّتْ (بَهيجة) فوقَ (جِرْفَةِ) التّبْنِ،
صارِخةً:
-دَخيلِكْ يا أمييي.. إنني أموت..
-مَن..؟! (بَهّوج)..؟! (ألله يحرق روحك.. شو جابك لهون يا مهتوكة الشَّيبة..؟!)
-دَخيلِكْ يا أمي.. ناوليني كأسَ ماء.. إنني مَريضة.. إنني أموت..
-(يقطَعِكْ ألله).. صار لنا مدّة نظنّ أنكِ (انقلَعْتِ) إلى (عَبّود) مَرّةً أخرى.. أو لَحِقْتِ
ابنَ كلبٍ آخر..!!
قَلَبَتْها إلى جانِبِها الأيمَن.. صَرَخَتْ (بَهيجة) :
-آخ.. يا أمي..!! لحمي يتساقَط.. يتناثَرُ يا أمي..
تَعَوَّذَتْ (أم حَميد) منَ الشيطانِ الرجيم.. وهيَ تناوِلُها كأسَ ماء.. لم تلبَثْ أن
طَلَبَتْ غيرَهُ، وغيرَه..
قامَتِ الأمُّ لتغسلَ يديها عِدّةَ مَرّاتٍ بالماءِ والصابون.. وتبصقُ عِدّةَ بَصقات.. ثمّ
تفركُ يديها بغُصنِ رَيحانٍ أخضر، قطَفَتْهُ من حديقةِ الدار.. لتعودَ وتشمَّ رائحةَ يَدَيها،
التي صارَتْ عَطِرَة..

___________________________________________________________
________
تلكَ الزيارة..
تلك الزيارة، فتحت جراحَ الماضي..
أثنوا كثيراً، وفخروا، بابنة جيرانهم (المتفوقة ) سابقاً.. كما هو ابنهم متفوقٌ بالشهادة الثانوية..
قلتِ لهم، أنكِ لاتحترمينها، وشتمتِها، وشتمتِ أهلها – جيرانهم – الذين أرهقوكِ، لمدةٍ طويلة..
لم يتخلوا عن علاقاتهم الحميمية، مع تلك الأسرة التي أساءت لكِ أكثر من مرة، يا مَحجوبَة..
وهم على عِلمٍ بأغلبها..
صَمَتوا.. وصمتَ معهم مُعتز.. وقطبوا..
– إي.. ماذا لديكم من أخبار….؟!
وراحوا يواصِلون أحاديثهم، بكل اهتمام، بين الطرفين.. هو.. وأقاربه.. دون أن يأبهوا
لمشاركتكِ لهم، بأحاديثهم (الهامة )..
لم تستغربي.. ولم تتأثري كثيراً.. فقد (تكَسرتِ النصالُ على النِصالِ ).. تابعتِ الحديث الذي
كنتم قد بدأتموهُ معاً، حول أحوال البلاد، والوطنِ الجريح، وحَولَ الفساد، وكيف جاءت إحدى
السوريات المُغترِبات، وأهدت جرحى المشفى الذي يعمل به زوجُ هَنا، الدكتور، الذي يحبكِ
ويحترمك، وتبادلينه وأهله الحب والإحترام.. لم تري منهم سوى الإحترام، فكيف
لاتحترمينهم..؟!

16
– استلَمَ الهدية، المدير المسؤول عن الجرحى.. (ويزدادُ انفعالُه ).. خمسمئة ألف ليرة….
– ألا يوزعهم على الجرحى، كما أوصتهم تلكَ المرأة التي طلبتْ ألا تعرف بنفسها، فهذا
واجبها تجاه مَن يحمونها ويحمون الوطن..؟!
– لا يوزع منها سوى القليل..
– ألله يحرقهُ بهم..
تابَعوا أحاديثهم (الهامة ) وأخبارَهم (المؤكدة ).. دون أن يلتفتوا، أو يستمِعوا إليكِ،
وأنتِ تضيفين من معلوماتكِ، في نفسِ الموضوع.. وتخبرينهم، دون أن يولي أحدُهم،
حتى الدكتور، أيةَ التِفاتة..
وتتوجهين إلى الطالب المتفوق، وتتابعين (مُبتسمةً ) :
– لا أحَد يستمع إلي، يا خالتو.. وتحكين باقتضاب، بضع كلمات، أنكِ تعرفين امرأةً
دمشقيةً، مُغترِبة، من مكونات هذا الوطن الأم، تعرفتِ إليها عن طريق مَواقع التواصُل،
أحبتكِ، وأحببتِها، وطلبتْ منكِ أن تخبريها كيف بإمكانها مُساعَدةَ ذلكَ الجريح الجميل،
المُبتسم بالصورة التي وضعتها على صفحتكِ، تستجدينَ أحداً يساعدُ جَرحانا من حُماة
الديار، (شَلَل رُباعي ).. وأنها لم تكن ترغبُ أن تفصِحَ عن اسمِها، حتى طلبَ منكِ أحد
الجَرحى، أن تربطيهِ معها، كي يتواصَلا، مباشرةً.. وكان ذلك.. وأرسلت له، دفعة
أولى، أكثر من (52 ) ألف ليرة سورية.. وزعها على ثلاثة جرحى.. وقد أخبركِ أنها
حضرت إلى طرطوس، وأعطته عشرة آلاف ليرة.. ولم تعودي تسألينهُ شيئاً من هذا..
– هيَ موظفة، وتعيلُ ابنيها، وأمها.. لا تستطيع إرسال مبلغٍ كبير..

وأنا أكتب هذه السطور، دخلت (لانا ) :
– مسموح الدخول .؟!
– ولو.. يامية هلا.. أنتِ ؟ (وترفعين سماعة المذياع من أذنيكِ ) ظننتكِ (مَها ) بنت
عمتك.. لا تؤاخديني، كنتُ أكتب..
– لا لا.. لايهمك.. أنا لا أطيق القراءة والكتابة..
(يومن على يوم.. لو طالتِ الفرقة.. مانسيت انا، يوم.. ما نسيت انا الرفقة… ) كم
تحبين هذه الأغنية التي تستمعين إليها الآن، من إذاعةِ دمشق، وتطربكِ، تتمايلين وأنتِ
ترددين كلماتها، مع (فهد بلان ) بمنتهى النشوة والتأثر.. وطالَما ساهَمتِ، من خلالِها،
بالتواصُل مع أبناء وطنك، إخوتك، في (جَبَل العَرَب ) و (سَهل حوران ) الذين كان
بعضهم يعتقد أن ماجرى ويجري في البلاد (ثورة )..!!
– إن كنتِ راغبة في الجلوس، أنزل من السرير، وأترك الكتابة..
– لا والله، سآخذ التين، وأنزل..
– ألله يجعله ألف صحة وهَنا…
___________________________________________________
سأعود إلى الكتابة، فالنت مقطوع..

17
نشرة الأخبار الصباحية، السابعة والربع من صباح هذا اليوم، الأربعاء 10/8/2016م
(بتوجيهٍ من السيد الرئيس بشار الأسد، زار العماد فهد جاسم الفريج، قواتنا العاملة في حلب..
واستمع منهم…………….. إلخ )
__________________________________________________
هنأتِ الشاب النحيل، وأهله.. أنت التي أحضرتِ له علاماته العالية، من موقع وزارة التربية.
– معتز.. استطعتُ الوصول إلى الموقع، هل لديكَ أحد من أقاربكَ في (البكالوريا )..؟
– "ببعضِ التمنع " نعم..
– مَن؟
– إبن هَنا..
– ماهو رقمه؟
– سأتصل بهم، وآخذه..
– دعكَ على الهاتف..
ناجح.. وعلاماته، كذا، وكذا..

طاروا من الفرح..
هنأهم زوجك.. وطلبتِ منه أن يعطيكِ السماعة، لتهنئينهم بدورك..
– ألف مبارك، ياخالتو.. ألله يعطيك العافية.. أللهم صَل عالنبي، كبرتَ سريعاً، يا حبيبي..
صحيح أنني لم أرَكَ منذ سنوات.. لكنني أحبكَ جداً، وأنا فخورة بك، وسعيدة من أجلك..
اعطني أهلكَ لأهنأهم..
– هاهي أمي..
– هاتِها..
– ألف مبارك، يا هَنا.. ألله يخلي لكم اياهم.. والله أنا سعيدة بهذا التفوق.. ان شاء الله
تفرحون بهم كلهم، وبأعلى المراتب، وبصحتكم أيضاً..
– ألله يسلمك، يا مرت خالي.. وشكراً جزيلاً، لأنكِ أعطيتِنا العلامات.. كنا نظن أن الوقتَ
مُبْكِرٌ لفتح النت..
– كم أنا سعيدة، لأنني أول مَن أدخلَ السعادة إلى قلوبكم..!!
( ملخص الحديث، أنتِ لا تحبين أقاربي )..!!
(ليكي، لا تحاولي.. لا تتعبي حالك.. مارح إترك أقاربي..)..!!
وتصمُتين..
كنتِ تقولين لهُ، عندما يحنقُ من أبناء وبنات أخيه، ومن أمهم الظالمة، التي طالما أساءت له،
ولأهلهِ، وإخوته :

18
– لايهمكَ، يا معتز.. لكن، عليكَ أن تثق ثقةً تامة، بأبناء وبنات أختك.. أختكَ التي مازلنا
نأكل من تعبها، من قبل زواجها المتأخر، وبعده.. هؤلاء أصيلون..
– لكن أبناء أخي، كأمهم.. وكل سلالة أمهم.. ليس منهم أمَل..
– هذا لاينفي قيامنا بواجبنا تجاههم، يا مُعتز.. يجب علينا أن نزورهم، باستمرار، حتى لو
كل أسبوع مرة.. كي لايشعروا بالمزيد من آلام اليُتم.. كي يشعروا أنكَ بديلٌ عن أبيهم،
رحمه الله..
– كيف أفعلُ ذلك..؟! لن تسمحَ لي أمهم.. أنا أخافها..
حتى ولو كانت أسوأ مما هي عليه، فهي زوجةُ أخيك، وأم أبنائه.. وهي تكره (وائل ) وتحبك
أنت.. وأخوكَ، رحمهُ الله، كان يحترمني جداً، ويدافعُ عني عندما يسيءُ لي وائل وزوجته..
______________________________________________
بقيتِ أكثر من ستةِ أشهر، وأنتِ متأكدة أن كتلةً في صدركِ الأيمن.. لم تخبري أحداً.. وجاءَ
يومٌ، وأنتِ تنامين نومةَ القيلولة، على جانبكِ الأيمن، فوق بلاط الصالون، ومُعتز، ينام على
الديفون المقابل، بعد أن عاد من عمله مُرهَقاً، وتناولتما طعامَ الغداءِ معاً..
نهضتِ قبلهُ، كالعادة، نبضات قلبكِ مُسرعة، وهناك بعض (خَوارِج الإنقباض ) تزيد من
توترك.. فوجئتِ بقميصِ نومكِ، وقد نضحت فوق صدره الأيمن، بعض السوائل، ازداد خوفكِ،
وتوترك.. :
– معتز.. " وبكيتِ بقهر ".. أريد أن أخبركَ شيئاً، لكن لاتقلق.. أنا أسلم أمري إلى الله..
– ماذا بكِ.؟!
وانفجرتْ دَمامِلُ روحكِ دفعةً واحدة..
– معتز.. منذ ستة أشهر، على الأقل، وأنا أشعر بكتلةٍ صغيرةٍ في صدري، ولم أخبركَ،
كي لا أزعجك.. والآن.. انظر… مَصلٌ ممزوجٌ بدم..
بدا عليه القلق الشديد، واصفر وجهه..
– لماذا لم تخبريني بذك..؟؟
– لا أريد أن أتعبك.. كفاكَ ماتعبته من أجلي، سابقاً..
– والآن، ما العمَل..
– العمل، سنستشيرُ أحد الأطباء.. لكن، لاتقلق.. مهما حدث، فالحياة والموت من عند الله..
وأنتَ لم تقصر بحقي، ولا مرة في حياتك.. تماسَك، مهما حدث.. أنا أتقبل القدَر.. لكنني
لا أستطيع تحمل ظلمِ الناس..
– يا أللــــــه…!! منذ ستة شهور، ولم تخبريني..؟!
– لا أريد أن أزيدَ أعباءك، يا معتز.. وكن مطمئناً، أنكَ لم تقدم لي سوى الخير، من يوم
أن عرفتك.. يجب ألا تشعر بأي ذنب، لقد قدمتَ لي كل ماتستطيع.. ولم تقصر تجاهي،
حتى لحظة..

19

– أوف…………… يا ألله..!!
ولم يترك طبيباً إلا واستشاره.. وذهب إلى بيت أختكِ، التي لم يكن يطيقها، لأنها كانت تؤويكِ،
حينَ يعز المأوى.. وتهتم بكِ، كأنكِ ابنتها الوحيدة، التي أضعفها المرض، وأنهكَ قِواها..
يخبرها، متهالكاً، عما حدث.. ويسألها، ما العمل..؟! وهو يحمل نتيجة التحليل المخبري
المكتوب باللغة الأجنبية.. (إنتروداكتال بابيلوما ).. ولم تعرفوا لها تفسيراً..
ويصطحبكِ إلى دمشق.. (مشفى المُواساة ) لتكشفي عن صدركِ، أمام الأطباء والمريضات
المنتظرات أدوارهن..
ويأتي (السعودي ) الأكثر خبرة بهذه الأمور.. يتفحص صدركِ من بعيد.. ثم يلمسه بقوةٍ تؤلمكِ
:
– ليس هنالكَ من كتلة.. ليس بكِ شيء..
– لكن مصلاً ودَماً يخرج من صدري، منذ عدة أيام.. وأنا تحسستُ كتلةً منذ أكثر من ستة
أشهر..!!
– اعصري صَدرَكِ، وأرِني الإفرازات..
تضغطين، وتضغطين، وتستجدين صدركِ أن يفصحَ عما يعاني.. دون جدوى تُذكَر..
– هذه النقطة، تعتبرينها إفرازات..؟! ليس بكِ شيء.. جاءَ دَورُ غيرك..
– الحمد لله.. الحمد لله.. سنعودُ حالاً..
– ما بكَ، يا مُعتز..؟! هل أنتَ مُقتنعٌ بما قال الطبيب..؟! لن أذهبَ قبل أن أعرفَ ما بي..
– سيدتي.. سيدي.. هنا، لا يعرفون شيئاً.. سأدلكما على عيادةِ طبيبٍ حاذق..
وراحت إحدى ملائكة الرحمة، تشرحُ لكما، ما اسم الطبيب، وأين تقع عيادته..
وحتى رقم هاتفه..
ولم توافقي على زيارته، لأنكِ أدركتِ سَقاطةَ الموقف، ولا إنسانيته.. تجارة..!!
وعدتما إلى القرية.. مررتما بطرطوس.. حَمَلَ نتيجةَ (التشريح المَرَضي ) ورَم
حُلَيمي داخل القناة..
عُدتما إلى دمشق.. دَلكما أحدهم على طبيبٍ دِمشقي مشهور.. دَرَسَ على حسابهِ في
أوروبا.. وأجرى لكِ العملية (تخدير موضعي )، بناءً على طلبك..
كان مُعتز يجلسُ في الطرفِ الآخر من الغرفة، والطبيب يجري لكِ العملية، وأنتِ
مستيقظة، تساعده الممرضة، التي لم يكن راضياً عن لباقتها، وتطمئنين زوجكِ أنكِ
وَكلتُ خالقكِ، وهو الشافي المُعافي، وأنكِ عَدَلتُ عن إحضار القرآن الكريم لتضعيه
تحت رأسكِ لتحميكِ معانيه الروحية، لأنها مترسخة في قلبكِ وروحك.. وتستغرب
الممرضة أنكِ مؤمنة..!!
وتتابعين سَردَ ماحدث :
(وعند خروجي، استقبلتني أختي الغالية، التي سافرت إلى دمشق دون أن تعرف
إلى أين.. المهم أنها تريد ألا تتركني وأنا في حالةِ ضعف، كعادتها.. كنتَ تسندني،
وتلقتني أختي وهَنا، التي كانت الدموعُ تملأ عينيها، وأنا أطمئنها أنني بخير.. ويزداد
حبي لها، الذي لم يفتر يوماً، منذ أخبرنا والدها المرحوم أنها وُلِدَت، وأنه سيُسميها ( هَنا

20
) لأنه يراها هَنية.. ولا حتى بعد وفاتهِ ومعاناتها مع أخواتها من التشنجات العصبية،
التي كنتُ أخففُ من أهميتها، وأساعدهن على تجاوزها، بحبي واهتمامي الصادقين..
كانت قد أنهتِ امتحان التخرج في الجامعة، وأسرَعت لتراني قبل دخولي إلى
العملية، وأخبرتني أختي، بمنتهى التأثر، كم بكَت هَنا، لأنني دخلتُ قبل وصولها..
في بيتِ أخيكَ، لم أشعر أنني مرغوبة، كالعادة، حتى الآن أختي تؤنبُ نفسها كيف
تركتني تحت رحمتهم وعادت، وأنا لاحَول لي ولا قوة، وبانتظار نتيجة التحليل
المخبري.. وتمكث أنت يومَين، على الأقل، تعتني بي، وتحممني، ثم تتركني عندهم،
وتعودُ إلى عملكَ في طرطوس، وأنا أبكي بقهرٍ، وأشعرُ أنني وحيدةٌ في غابة.. في اليوم
التالي، تأتي هَنا وزميلتها من السويداء، تهديني الغالية ( جَنى ) باقةَ وردٍ جميلة، كتبت
على الإتكيت ( المهندسة جَنى.. مع تمنياتي بالشفاء العاجل ).. فرحتُ جداً، وبكيتُ من
فرطِ سعادتي.. ضممنا بعضنا بفرحٍ غامرٍ، وحب نقي متبادل.. مما أثار غيرةَ زوجة
وائل، طلبتُ من ابنها الغالي آنيةً مناسبة لأحفظ بها الورد الهدية، ببعض الماء..
وضعتُ عروق الوردِ في الآنية الجميلة، وأخذتُ أسوي وَضعها فيها، وأجعل الإتكيت
في الواجهة.. لكن أم ريمون، أمسكتِ الباقةَ بقوةٍ، ورمَتها بعنفٍ فوقَ بلاطِ الغرفة،
قائلةً : ولِكْ، أنتِ لاتعرفين الإتيكيت.. لاتعرفين الإتيكيت..!!
ونزعت عنها الشريطة الحمراء الجميلة ووضعتها، كما ترغب، في الآنية..!! وسادَ
الصمت..!!
شعرتُ بالقهر، ونظرتُ إلى هَنا.. متوقعةً أن تحتج على تصرف زوجة خالها..
لكن… دون جدوى..
بعد قليل، ودموعي تسيل، أحاولُ أن أخففَ من شعوري بالمهانة أمام الضيفة
الغالية، المهندسة جَنى.. مما زادَ من انفعالِ وغيرةِ أم ريمون، التي ابتسمت باستهزاء،
دون مناسبة، وقالت : ( أنتِ لاتعرفين كم نسخر منكِ أنا وهَنا، عندما ترسلين لي وَرَق
العنب، الذي لايكون جيداً، ولا تتقنين قطفه.. !! )
– تسخرينَ مني، أنتِ وهَنا..؟! هل هذا صحيحٌ، يا هَنا..؟! تسخرين مني في غيابي، يا
هَنا..؟!
وتصدمني ابتسامتُها……………!!
هناك الكثير الكثير من الأمور المشابهة……
لم يعُد يصدمني منكم شيءٌ، يا مُعتز… ولا من بيتِ أختكَ، أو غيرهم…
لكنني لن أنسى……………. )
مَحجوبة
__________________________________________________

(8) جسرٌ.. وعبور
أحَبّتْهُ.. إلى دَرَجَةِ أنْ مَدّتْ منْ روحِها جِسْراً.. وقالتْ له : – اعبُرْ إلى مُبتَغاك..

21

فصارَ يَعْبُرُ، ومَعَهُ نساءَهُ، وعَشيقاتِه..
في كلِّ مَرّةٍ، يقِفُ العاشقانِ فوقَ الجِسْر.. يتعانقانِ، بحَميميّة.. ويَعْبُران..
لم يَكُنْ أحَدٌ منهما يسمَعُ أنينَ تَمَزّقِ روحِها.. كانا غارِقَيْنِ في لَهْوِهِما..
و مَرّةً، إثْرَ مَرّة.. تآكَلَ الجِسْرُ.. ثمّ سَقَط.. مُصْدِراً أنينَهُ الأخير.. صَرَخاتٍ، هَزّتْ ضميرَ
الكون..
فَزِعَ العاشِقان.. صَرَخا منَ الهَوْل.. أمْسَكَ كِلاهُما بيدِ الآخر.. و فَرّا إلى الجِهَةِ الأخرى.. ضَمّا
بَعْضَهُما.. وراحا يُراقِبانِ السُّقوطَ الأخيرَ للجِسْر..
كانتِ الصَبيّةُ ترْتجِف.. وعَشيقُها يَضُمّها إلى صَدْرِهِ الحَنون.. ويَرْبتُ على ظَهْرِها، برِفْق..
يُدَفّئُ الرأسَ الخائفَ، بكُلِّ ما أوتِيَ منْ حَرارَةِ الحُبِّ، والحَنان.. حتى صارَ الجَسَدانِ، روحاً
واحِدَة.. بينما الجِسْرُ يزدادُ تمَزّقاً.. وأصواتُ تَمَزّقِهِ تُزَلزِلُ الكَون..
نَسيَ الرّجُلُ، أنّ هذا الجِسْرَ، هوَ روحُ المرأةِ التي أحَبّتْهُ حتى العِبادَة.. وحينَ انتَبَهَ.. كانَ
الجِسْرُ قد صارَ شظايا صغيرَة.. تجرِفُها المياهُ الجاريَة.. دونَ أنينٍ يُذكَر..
قالَ لها :
– صِدْقاً.. لسْتِ الأولى.. لكنّكِ الأخيرة.. نامي.. واحلمي أحلاماً جَميلة..
صَدّقَتْهُ.. وراحَتْ تحلمُ.. وتحلمُ.. وتحلم..
كانتْ، قَبْلَهُ، تحمِلُ رَجُلاً آخَر.. لكنّها لا تُحِبُّه.. أوْصَلَتْهُ إلى البَرِّ.. وتَرَكَتْهُ حَيثُ شاء..
و عَشِقَتْ.. أحَبّتْ.. تحَطّمَتْ.. تلاشَتْ..
نَبْعُ ماءٍ صغيرٍ.. تدعَمُهُ رَوافِدُ زرقاء.. حَضَنَ بَعْضاً منْ مِزَقِ الرّوح، التي كانتْ جِسْراً.. و
سارَ بها نحوَ البَحر.. فضَمّها المُحيطُ.. و ذابَتِ الروحُ معَ مُحيطِها.. صارَتْ ذَرّةً منْ ذَرّاتِه..
لكن.. دونَ مَلامِحَ تُمَيّزُها….
___________________________________________________________
_______
حِوار_
-تسألينني ماذا فعلتُ اليوم ؟
سأخبرُكِ، حالاً..
بعدَ استيقاظي في السادسة والنصف صباحاً، وأداء بعض الأعمال الروتينية، أكملتُ قراءة رواية
(النفق ) للكاتب الأرجنتينيّ (أرنستو ساباتو )…

22

-سابَتو……… وليس ساباتو… سابَتو، وتعني السبت..
-أنتِ أدرى، يا أمي..
أتعرفينَ أنهُ من مواليد (الروخاس )؟!
-بالله؟!
-وهو من مواليد 1911م.. لكنكما عشتما في بلدٍ واحد لعدّةِ سنوات، فلم يتوفَّ سوى منذ أعوام
قليلة.
-لم أسمعْ بهِ، سوى الآن..
بعدها، قمتُ، وملأتُ ربعَ طنجرة الحَمّام بالماء، ورفعتُها على رأسيّ غاز في المَطبخ، وخلالَ
ذلك، جَليتُ الأواني، ونظّفتُ رخامَ المَجلى، وجَفّفتُهُ بالمنشفة الخاصة…
-لا تُطيلي.!
-لن أطيل..
أثناء الإستحمام، وجسمي مغمور بالصابون، مِلتُ قليلاً، وخفتُ أن أتزحلقُ، وأسقطَ، ويُكسَرُ
جَنبي، تذكّرتُ ما حَصَلَ لكِ، يا أميَ الغالية.. أزحتُ من ذهني فِكرةً مُلِحّةً، أن يكونَ لي يدٌ فيما
حَصل، إهمال.. تقصير.. أو.. أو… وتابعتُ الإستحمام.. خرجتُ بعدَ أن جَفّفتُ شَعري وجسمي،
ودخلتُ الغرفةَ لأكمِلَ ارتداءَ ملابسي، خوفاً من أن يلفحَني البَردُ وأمرض، فالطقسُ باردٌ من
يومَين، وقد أمطرَتْ بشكلٍ مُتقطِّعٍ، بل، وسمعتُ صوتَ رَعدَتينِ خفيفتَين قُبَيلَ الفجر، لكنّ الأمرَ
لم يستدعِ فصلَ شاحنِ جهازيَ الخلويّ..
-لن تُطيلي..؟!
-هاها.. سامحيني يا أمي.. سأحاولُ مَرّةً ثانية..
-لا أظنّ أنكِ ستُفلِحين، فهذهِ عادتُكِ، هاها..
-وعادَةُ أغلبِ أفرادِ أسرتِنا.. أليسَ كذلك..؟!
-أصَبْتِ.. أكمِلي، بالله.!
-.. كنتُ قد سَلقتُ كميةً من الهندباءِ البَرّيةِ التي جَنيتُها من الحقلِ الذي كتبهُ زوجي باسمي، بعدَ
أن تنازلتُ عن أغلبِ حقوقي عليهِ، ومنها هذا البيت، وكنتُ قد أبدَيتُ رغبةً بأن أبصمَ لهُ
بالعَشرةِ أنني سأتنازلُ عن كلِّ حقوقي، عندما سألني رأيي..
تزوِرينني؟.. يا الله.. سأحاوِل..
عصرتُ الهندباء، وأضَفتُ إليها بعضَ المِلحِ، والزيتِ، والثومِ المَدقوق، وثلاث كُرات مثلّجة من
عصير الليمون الحامض، كنتُ قد عصرتُهُ قُبَيلَ تساقطِ الثلجِ، الذي تجمّدَ، وجَمّدَ ما بقيَ من

23
ثمراتِ الليمونِ على أمهاتِها، وسَقطتْ تِباعاً.. لكن رب البيتِ كانَ قد عَصَرَ الكثيرَ، أيضاً،
بواسطةِ عَصّارةٍ كهربائية.. لا تسأليني.. أقسِمُ أنني لاأعرفُ إن كانتْ للبيت، أم مُستَعارة..!
سَخّنتُ رغيفاً على الغاز، وتذكّرتُكِ، وحياة عينيكِ، يا أمي.. وضَعتُها فوق صينيةِ ستنلس
صغيرة، وجلستُ آكلها بشهيةٍ، بعدَ أن تناولتُ أدويتي المُعتادة.. شربتُ عقبها بعضَ كؤوسٍ من
المَتة، معَ قليلٍ من مسحوقِ الزنجبيل، وبعدَها جَمَعتُ مافي الحَمّامِ من غسيلٍ أبيضَ، ومُلوّن،
تذكّرتُ فِراشهُ، بَدّلتُ وجهَ الوِسادَةِ العُليا، وغطاءَ الفراشِ المُقلّمِ، ووَجهَ اللحاف.. طوَيتُهُ فوقَ
الفراشِ، ليريحَهُ منظرُهُ النظيفُ والمُرَتّب، وطوَيتُ البطانيةِ، ووضعتُها جانباً..
طبَختُ ملءَ الركوةِ المتوسّطةِ، رزّاً مع الشعيرية، بعد أن حَمّصتُها بزيتِ الزيتون.. وصرتُ
أمشي رياضةً بيتيةً، من أمامِ نافذةِ الصالونِ الشرقيةِ المَفتوحة، إلى قربِ نافذةِ المطبخِ الغربيةِ
المفتوحة باستمرار.. أكثرَ من نصفِ ساعة..
مسحتُ بعضَ الغبارِ عن أعلى الديفونَينِ، والتلفزيون والكمودينة.. نسيتُ أن أخبرَكِ أنني
وضَعتُ (وَجبَةً ) من الغسيلِ الأبيضِ في الغسّالةِ الآليةِ، كانتْ ماتزالُ تدورُ، عندما انقطعَ التيارُ
الكهربائيُّ في الواحدة، قبلَ أقلّ من عشرِ دقائقَ من الآن..
كنتُ أتصَبّبُ عَرَقاً، عندما اتصلتُ بحفيدتِكِ الغالية، فأجابَ عصفورُها الغالي.. كَلّمَني بصوتِهِ
الموسيقيّ الطافِحِ بالحياة، وعندما سألتُهُ مَن أنا؟ أجابَني : تاتا فاطمة.. رغمَ أنني كنتُ قد غيّرتُ
صَوتي، لكنهُ عرفني..
حديثٌ تبادَلتُهُ مع صغيرِنا الحبيب الجميل، أراحَني، وأنعَشَني، وانتقلتِ النشوةُ إليهِ، أو أنهُ هوَ
مَصدَرها.. فراحَ يفرّغُ طاقتَهُ الحيويةَ المُختزَنةَ، عن طريقِ صُراخٍ يشبهُ زقزقةَ العصافيرِ
القويّة، وصرتُ أفعلُ مثلَه.. تناوَلتْ (مي ) السماعةَ، وطمأنتني أنها تعافتْ بشكلٍ شبهِ كامل،
فحَمَدتُ الله..
-أمي وأبي في البيت الجديد، اتصِلي بهما، يفرحان.. على الرقمِ القديم..
اتصَلتُ، وسُعِدتُ لأنّ أختي سعيدة..
-جئنا من طرطوس قبل قليل، أفطرنا، والآن نشرب المتة، وسننزل إلى النهر.. و…
-الحمدُ لله..
وأخبرتُها بما فعلتُ، وأنني اتصلتُ بابنتِها، واطمأننتُ عليها..
-الحمدُ لله، تعافتْ نوعاً ما.. وإلاّ لما أتيت..
أغلقتُ نافذةَ الصالونِ، بشكلٍ شبهِ كامل، وأتيتُ أكتب..
مازالتْ (معركةُ القلمونِ ) مُستمرّةً.. والجيشُ، والمُقاوَمةُ، يتابعانِ التقدّمَ..
إلى اللقاء يا أمي……………..

24
_____________________________________________________
فاطمة
الجمعة 16/5/2015م
_____________________________________________________

صورةُ قاتِل
لم يبقَ لمحجوبة أيّ ركنٍ تسندُ عليهِ ظهرَها المكسور، أو غصنٍ تستمسِكُ بهِ، كي لا
تسقط سَقطتَها الأخيرةَ، حينَ رأت بأمّ عينيها، وهي جالسةٌ بمُفرَدِها في ذلكَ المكانِ المُبهَمِ،
هَياكلَ لكائناتٍ سوداءَ، بعضُها مُلثّم، تنهَشُ في جُثثٍ آدَميةٍ مُتهالِكةٍ، لم تعُدْ بها أيةُ قدرَةٍ على
المُقاوَمة.. تبعثرَت روحُها باضطرابٍ ورُعبٍ لامَحدودٍ، حينَ تأكّدَت أنّ أخاها من بين أؤلئك
الشباب.. وعندما جاءتِ اللحظةُ المرسومةُ، أطلَقَ أحَدُ الهياكِلِ رَصاصَهُ على الرؤوسِ المُشعثةِ
واحِداً، واحِداً، وانهالَ الرصاصُ بعدَها من كلِّ الهياكِلِ المُتوَحِّشةِ، وراحتِ الأجسادُ الآدَميّةُ
تتخبّطُ في بركةٍ من العشبِ الأحمرِ، الذي نبَتَ فجأةً في تلكَ الصحراءِ القاحلة.. هدأ الكونُ،
وسادَ الصمتُ الرهيبُ، وهيَ جامدَةٌ في مكانِها، لا تأتي بأيِّ حِراكٍ، أو تطلِقُ أيّةَ صَرخة..
خرسَتْ مَحجوبةُ، فاغِرَةً فمَها المُتشقّقَ، جاحظةَ العينينِ، مَشلولة.. دارتِ الدنيا عدّةَ دَوراتٍ
مُتسارِعة، استفاقتْ على إثرِها فوقَ سريرٍ أبيض، وخرطومٌ طويلٌ يَصِلُ وَريدَها بالكيسِ
الشفّافِ المُعَلّقِ فوق رأسها، يكادُ ماؤهُ يبفد.. ابتسَمتْ لها امرأةٌ تتشِحُ بالبَياضِ، وقبّلتها من
جبينِها : (الحمد للهِ على السلامة ).. راحتْ تبحثُ عن صَوتِها، دونَ جَدوى، تريدُ أن تسألَ ما
الذي حَدَث؟ كانت تسمعُ أصواتَ الأنينِ تملأ الأرجاء، وهَرجاً، وصَخباً، وصُراخ.. لم تخَفْ..
لكنها حائرة.. وحينَ استرجَعَتْ ذاكِرَتَها، أطلقتْ صَرخةً، كَتمَتها كَفُّ أحدِهم، وَجهُهُ متجهّم :
(اصمتي..! لستِ الوحيدة..انظري حَولك..).. ازدادَ هياجُها، وانقطعَ السلكُ الذي يغذّي أورِدَتها،
وطارَتْ إلى خارجِ المكان.. راحتْ تصرخُ بحرّيةٍ، لاتدري مَن كان يسمَعها، ولا يهمّها، لكنها
سمعتْ صوتاً غليظاً ينهَرُها.. وسادَ الصمتُ، وانقطعَ اللهاث.. فتحتْ عينيها ثانيةً، مازالَ
الخرطومُ مكانه.. خفتَتْ أصواتُ الأنينِ،وازدادَتِ الصّرخاتُ، والندب.
-ابتعِدوا.. أخرِجوني.. لا أريدُ أن أعيش.. لا أريد.. لا أريد.. يا خَيّي ي ي ي ي………….!!
خذني معك..
-سنأخذكِ عندما يأتي دَورُك..
التفتتْ.. إنها نفسُ الهياكِلِ السوداء..
لم تخفْ هذهِ المرّة.. تجرّأتْ وسألتِ القاتِل :
-لماذا..؟! لماذااااا..؟!

25

رأتهُ يرفعُ السيفَ الذي نحَرَ بهِ أخاها حينَ قاوَمَ الرّصاص..
-اقتلني، يا ابن الكلب.. يا وَحش، اقتلني..
ترَكَها تصرخُ فوقَ كُثبانِ الرِّمالِ الحارّة.. تهيمُ، لا تدري أينَ الجِهات، ولا تهمّها الجِهات.. جهَةٌ
واحدةٌ كانت تبحثُ عنها.. نظرَتْ إلى السواقي الحَمراءِ، تجري بينَ الأعشابِ الخضراء، ثمّ
رفعَتْ رأسَها نحوَ السماء..
-يا خَيّ ي ي ي ي…..!! خذني معك.. لا تتركني يا فارِس..!!
رأتْ وَجهَهُ قمراً في لياليها الحالِكة.. حاوَرَتهُ، وأخبرَها أنهُ مرتاح.. اطمأنّتْ قليلاً.. الشهداءُ لا
يموتون..
كلُّ ذنبِهِ أنهُ كانَ يحارِبُ الإرهاب..كلُّ ذنبِهِ، وذنب رفاقِهِ الأبطال، أنهم قاوَموا المُعتدينَ على
الوطن..
(لسنا مُعتدين.. ولم نكُ، قَطُّ، مُعتدين.. إنما ندفعُ عن أنفسِنا وشعبِنا القتلَ والتدمير..).. لكنّ هذهِ
الحرب القذرة أدخلَتِ المُعتدينَ إلى دارِنا، وراحتْ تحاربُنا من تحتِ الأرضِ، وبين الأزقّة، وفي
المَطبخِ، والصالة، وفي غرَفِ النومِ، وعلى الشّرفة، وحتى على حيطانِ المنازل.. وحينَ وَصلتْ
إلى قربِ بابِنا، أطلقَ أخي الرصاصَ على أسرَتِهِ، ثمّ على نفسِهِ، كي لايَنالوا منهم.. لا.. لا..
ليسَ أخي مَن فعلَ ذلك..أخي كانَ مخطوفاً مع رفاقِهِ منذ أشهُر..
فاجأها السيفُ الأسوَد.. ثَبَتتْ.. لن تخيفني، بعد.. سأقلعُ عينيكَ قبلَ أن تنالَ مني، يا ابنَ
العاهِرة.. فتحَتْ عينيها، وهَجَمَتْ عليه بأظافِرِها، لكنهُ فَرّ من أمامِها، واختفى، كأنهُ إبليسٌ
لعين..
-سأقتلكَ، يوماً.. أقسمُ أنني سأقتلك.. سأشويكَ حَيّاً، كما شَوَيتَ إخوتي أحياء.. ليسوا إخوتي؟!
كلّهم إخوتي وأهلي..كلّهم أبرياء.. ماذا فعَلوا لكَ، يا ابنَ الحرام؟!؟!
استفاقتْ على صَوتِ رجلٍ حَنون.. لم تصدِّق نفسَها..
هل أصَدِّقكَ، أيها الرجل؟!! من أينَ لكَ هذا الحَنان؟؟! من أينَ جاءَتكَ هذهِ المَشاعِرُ الإنسانية،
وقد فقَدَها الناس؟!؟ من أينَ، يا ابنَ آدَم.؟!
-تعالي، لنجمَعَ شَتاتَ بعضِنا، ونبتعِدَ عن غبائِهم وجُحودِهم..فأنا مثلكِ، ابن آدم، كما تقولين..
تعالي يا امرأة، فأنا أحتاجُكِ..
-تحتاجُني؟! لا أحَدَ يحتاجُني..
-أنا أحتاجُكِ،جداً..
-وما الذي أقدرُ أن أفعَلَهُ لنفسي، كي أفعلَ من أجلِك؟؟!!
-أرجوكِ..!!

26

تصالَحَتْ معَ اللهِ، والمؤمنين.. تصالَحتْ معَ ذاتِها الإنسانية.. وتَبِعَتهُ..
-ماهذا الظلام؟!
-سأشعِلُ النور..
تراجَعَتْ إلى الخلف..
– تعالي.. لا تخافي..!
لم تُجِبْ..بل، لم تسمَع..ضَمّها إلى صَدرِهِ، وهي صامتة، مُحَدِّقةً، تشيرُ بإصبَعِها المَجروحةِ إلى
الصورة..
-أيها القاتِل…….. صَرَخَتْ، دونَ صَوت.. أيها القاتِل.. أريدُ أن أذبَحَكَ بأظافِريَ، الآن..
التفتَ الرجلُ إلى حيثُ تنظرُ مَحجوبَة.. أفلَتَ خَصرَها، وهَرِعَ ليخفي صورةَ قاتِلِ أخيها..
في تلكَ اللحظةِ، كانتْ ساقاها الخمسينيّتانِ، تُسابقانِ الرِّياح..
أصواتُ الرصاصِ تلاحِقها، وصَليلُ السيوفِ السوداءِ فوقَ رأسِها، وهيَ تركض..
سَقطتْ في بركةِ عشبٍ أحمرَ، مازالَ حارّاً.. أحرَقَ رُكبَتيها، وراحَتيها..مَسَحَتها بصَدرِها،
وتابَعَتِ الركض..
سَمعتْ صوتَ فارِسَ يناديها : أختي ي ي ي ي.. أنا هنا.. لا تخافيهم.. لاتخافي شيئاً، ولا
أحَداً.. إنني هنا، قمَراً يحرُسُّكِ..
فتَحَتْ عينيها، ونظرَتْ نحوَ السماءِ المُكفهرّة..كانتِ الغيومُ تتبَدّد.. ووَجهُ فارِسَ يبتسِم.
___________________________________________________________
_
فاطمة صالح صالح
المريقب/ مساء يوم الخميس، الثامن والعشرين من كانون الثاني – يناير – 2016م

ضَفائر جديدة.. لكِ، أيتها الحياة
مُشتاقةٌ جداً، لأن أسمَعَ كلاماً جميلاً، خارجاً من قلبٍ رَقيقٍ، شَفّاف.. تعبَقُ فيهِ الإنسانيّة..
ويخرُجُ منهُ بَخورُ الأمان.. يتوَزّعُ في حَنايا روحيَ الظمأى.. في هذا العالَمِ القلِقِ، المجنون..
البَعيدِ كُلّ البُعْدِ عنِ الدّفءِ، والأمانِ، والإنسانيّة..

27
مُشتاقةٌ جداً، إلى لَفتاتٍ دافئة.. وابتساماتٍ عَذبَة.. خاليةٍ منَ التعقيد.. بعيدةٍ كلّ البُعْدِ عنِ
التكَلّف.. عن تصَنّعِ الحياة..
مُشتاقةٌ جداً.. إلى زهْرَةٍ قُدسيّة.. تُدَغدِغُ وُرَيقاتُها الطريّةُ روحي.. فتعْتِقها.. وتسمو بها في
طَبَقاتِ المُستحيل.. تُبْعِدُها عن مَصادِرِ الألَم السائدِ في هذا العالَم الحائرِ الضالّ.. تسمو بها،
حتى تصِلَ إلى فضاءاتِ الجَمالِ.. ومَدائنِ الألفة.. تعْبُرُ بها مَجاهِلَ الخوفِ، والقلق.. مُحَلّقَةً
فوقَ كلّ المَعاني الزائفةِ، التي تحاولُ أن تحكُمَ العالَم.. لتصِلَ بها إلى مَصادِرِ السعادةِ..
والحبِّ.. والدّفءِ.. والسلام.. تحوكُ هنالكَ جَدائلَ الحياةِ، من جديد.. تُحيلُها أغمارَ حِنطة..
تصبغها بألوانِ قوسِ قُزُح.. تُعيدُ كتابَةَ تاريخِ العالَم.. تمزّقُ رِداءَهُ القديمَ البالي، ذا الألوانِ
الحمراءِ الفاقعة.. وتنسُجُ من خيوطِ الجَمال.. منَ الزّهريِّ، واللّيلَكيِّ الأخّاذ.. ثوباً جديداً..
وتطلي وَجْهَهُ بالبَياضِ الناصِع.. وتكتبُ على جَبينِهِ، بأحْرُفٍ من حَنان، أجمَلَ القصائدِ، التي
تغازلُ الأرواح.. وتهزّ فيها أوتارَ الشوقِ، والأمَل..وتفتحُ نوافذها كي تخرجُ خفافيشُ الظلامِ،
والغِربان.. وتدخلَ منها نسائمُ الصّباح.. وحَماماتُ السلامِ تهدِلُ في زواياها.. وينتشرَ الدفءُ،
من أشِعّةِ الشمسِ القادمة، لتُطَهّرَ العالَمَ، وتدفئَ القلوبَ الباردَة.. تُشْعِرَها بلذّةِ دفءِ المَحَبّةِ،
ومُتعَةِ العطاء.. تحرقُ القلوبَ الحَجَريّة.. تحوّلُها إلى رَماد.. وتذروها فوقَ أنهارِ الحِقْدِ،
الذاهِبَةِ إلى الجَحيم.. تزرَعُ مكانها قلوباً من حَنان.. قادمةٌ شُتولُها من واحاتِ السلامِ، وبِحارِ
المَحَبّة.. مُغتسِلةٌ، ومُعَمَّدَةٌ بقُدْسِ التآخي، والتراحُمِ بينَ البَشَر..
هل من جَناحَينِ يَحملاني إلى قُرى الدّفءِ، والندى.. لأحضرَ مَواسِمَ الفرَح، ومَهرجاناتِ
الطّهْر..؟! فقد بدأ الإحتفال.. وأنا ما أزالُ أهَيّئُ نفسي.. أتزَيّنُ لهُ، وألبسُ أجمَلَ ماعندي،
لأكونَ لائقةً بالفرَح..
أخافُ أن يسبقَني الكثيرون.. أخافُ ألاّ أجِدَ لي مكاناً شاغراً هناك.. أن تفوتَني المُتعَة.. أن
يسرقَ أحَدٌ ما منّي أحلاميَ البريئةَ، في أن أحضرَ الفرَح.. أخافُ أن تُسْرِعَ الأيامُ والليالي..
أخافُ ألاّ يكونَ باستطاعَتي اللحاقُ بها.. لأجَدّلَ معها ضَفائرَ الحبّ.. وأرميها فوقَ بحارِ
السلام.. لتأخذَها مع أمواجِها، وتعْبُرَ بها المُحيطات.. لتوَزّعَها في كلِّ شاطئٍ، ومَنزل.. كلِّ
قريةٍ، و مَدينة.. كلِّ تَلٍّ، وسَهْلٍ، في هذا العالَمِ المُضطَرِمِ، المُضطرِب.. فوقَ تلالِ القهْرِ،
وكُثبانِ الرّماد.. في شوارِعِ الحُزنِ، ومُدُنِ الضّباب.. فوقَ جثّةِ الظلمِ، والإستعباد.. في دَمارِ
الحُروبِ، وجُنونِ العَظَمَة..
هل مِنْ أحَدٍ يُهَيّئُ ليَ العَرَبَة..؟!
لقد أكمَلْتُ زينتي..
هل مِنْ نسمَةٍ ربيعيّةٍ تُقِلّني..؟َ

فاطمة.. 9/10/2001م
________________________________________

28

عُدوانٌ غاشِم
استيقَظْتُ على عَضّةِ كائنٍ، في أسفَلِ خَدّيَ الأيمَن.. كنتُ نائمة على جانبيَ
الأيمَن.. حِكاكٌ مُلِحٌّ، أنهَشُهُ بأظافري، يمتدُّ باتَجاهِ العُنُقِ، والرّقبة.. تسارَعَتْ نبضاتُ
قلبي.. إزعاجٌ عامٌّ، وتوَتُّر.. أوقَدْتُ المصباحَ الكهربائيّ.. بَحَثْتُ عنِ البَعوضة
(البرغشة) على الحائطِ، وفوقَ اللّحافِ، وفي كُلِّ مكانٍ، دونَ جَدوى.. الحِكاكُ يزدادُ
إلحاحاً، ويَمْتَدّ.. مَعقولٌ، أن تكونَ مُجَرّدَ بَعوضَة..؟! هل آخذُ مُضادّاً للتّحَسُّس..؟!
اهدئي، يا امرأة..!! إنّكِ تَتَوَهّمينَ، كعادَتِك.. تناوَلْتُ "أنديرال" و" ألباناكس"،
وخَرَجْتُ إلى الحَمّام.. عُدْتُ.. مازالتْ عَينايَ تبحَثانِ عَنِ الفاعِل.. هاهُوَ جِسْمٌ أسوَدُ
يَرْبِضُ على الحائطِ، قُرْبَ السَّقْف.. استَعَنْتُ بنظّارَةِ البُعْد.. مَلعونةٌ، أنتِ، يا حامِلَةَ
الطائراتِ المُعادِية.. إذنْ.. أنِتِ الفاعِلة..!! لا بُدّ من عِقابِكِ حتى المَوت.. هاهُوَ الحِكاكُ
يمتَدُّ إلى ماوَراءِ أذني، وعَيني.. أنتِ..؟! لَعَنَكِ اللهُ، أيّتُها المُجْرِمَة.. ستنالينَ قِصاصَكِ
العادِل.. تناوَلْتُ بلوزَتي السّوداء الرقيقة، التي هَيّأتُها للغَسيل.. رَمَيْتُكِ بها، بَعْدَ أن
أحْكَمْتُ التسديدَ (أسْفَل، ومُنتَصَف الهَدَف ) وأطلَقْتُ قَذيفَتي.. ها أنتِ تَتَجَندَلينَ، وآثارُ
دِمائِكِ – دِمائي، التي امتَصَصْتِها، على غَفْلَةٍ منّي، واسترخاءٍ، أثناءَ نَومي.. إلى
الجَحيمِ، أيّتُها الحَمقاء.. مَسَحْتُ ما أمْكَنَ مِنْ بَقايا الدّمِ، على الحائط.. لم أستَطِعْ
تنظيفَ المَكانِ بالكامِل.. لم تستَطِعْ يَدي، ولا سِلاحيَ الفَتّاكُ، ذاكَ، أن تطالَهُ كُلّه..
عُدْتُ، مُرتاحَةً، بَعْدَ أنِ اكتشَفْتُ المُجْرِمَ، واقتَصَصْتُ مِنه.. استلقَيْتُ على السّريرِ،
وأمْسَكْتُ الجهازَ الخَلَويَّ، لأسَجّلَ على شاشَتِهِ هذا الإعتداءَ الغاشِم.. هذهِ المَعرَكَةَ،
التي لم تزُلْ آثارُها من كِلا الجانبَينِ، بَعْدُ.. هاهي بَعوضَةٌ أخرى تجتازُ السّريرَ، على
عُلُوٍّ مُنخَفِضٍ، كاتِمَةً الصّوْت.. لكنّ راداراتيَ المُستَنْفَرَة، رَصَدَتْها، برُغْمِ كلِّ شيء..
دَوّنْتُ الحادِثَةَ على الشاشَةش، للتاريخ.. وها أنا أتّجِهُ للقَضاءِ على الهَدَفِ المُعادي
الثاني، الذي يستَبيحُ سَمائي، وحائِطي..
الرابعَة والنصف، فَجْرَ يومِ السّبتِ، الثاني من تشرين الثاني "نوفمبر" عام
2013م.. ذِكرى (وَعْد بلفور، المشؤوم)

_____________________________________________________
قوافلكم.. وأنا
هدوءٌ، يا ابنيَ الغالي.. هدوء..
هل أبكيكَ؟ أم أبكيكم؟ أم أبكي أهلي؟ أم نفسي؟!
ربما كلّ ذلك.!
تكلّمتُ معها، سألتُها عن حالِها، قالت أنها لاتدري بماذا شعرت، حين مَرّتْ جنازتك، وأخبرتني
أنها ستتكلّمُ معي لاحِقاً..
-لا تتكلّمي.. المهمّ أن تكوني بخير.

29

لكنني سأكلّمها الآن.. انتظِر يا حبيبي.. لعن الله مُجرِميّ الغوطة، وكلّ المجرمين.
وبعد أن تبادَلنا مَشاعرَ الألمِ والقهر، والصّمتِ الدامِع، حكَت لي، وهي تحاوِل أن تسعدني،
فتتظاهَرُ بالسعادة :
-كانا يلعبان، قال أحمد لأخيه، ساخِراً :
-قال إرهابيّين.! قال..!! هل تعلم أنّ الجيش حَرّر (نُبّل والزهراء ) و (ريف حلب ).؟!
أجابَهُ ماهِر :
-بل، و (ريف اللاذقية ) أيضاً..
وتابَعا اللعِب..
تضاحَكتُ :
-حتى الأطفال صاروا يُتابعونَ ما يحدث، وبهذا الإهتمام، والوَعي..
جاءَتها ضَيفة.. وَدّعتني ب (ألله معك ).
قبل استشهادِ أخيها، كانت تبكي كلّ شهيدٍ، إلى درجةِ أنها لامَت نفسَها لأنها لم تعتَدْ على مرورِ
مَواكبِكم، جَماعاتٍ، وفرادى..
أنا أيضاً كنتُ أبكيكم، وأشعرُ بالقهرِ من أجلكم.. (ها أنا أسمعُ زخّاتِ الرصاصِ من قريتكم، وأنا
جالسة قربَ المدفأة في غرفتي، أتغدّى (برغل بحمّص ) مع بصَلٍ أخضر.
سيدفنونَ جثمانكَ الطاهِر، إلى جانبِ أخيك الذي استُشهِدَ قبلكَ بعِدّةِ أشهر، وإلى جانبِ أخيها،
وبقيةِ الشهداء.. بالتأكيد قارَبَ عددُكم أيها الأبرار، الخمسينَ شهيداً، ماعَدا الجَرحى والمَفقودينَ،
والمخطوفين.. وبعضُ القرى أكثر بكثير..
كيف قتلوك؟ ولماذا؟ هل أحضَروا جثمانكَ، فِعلاً؟ أم..؟! وماذا بقي من جسدِكَ العشرينيّ.؟! أم
أنهم ثلّجوه في ثلاّجات إحدى المشافي، منذ عدةِ أسابيع..؟!
أكاد لا أصدق أنهم وضعوا جثمان أخي الغالي في برّادِ مشفى "المعرّةِ " قبل أن يُحضروه لنا
في اليوم التالي لاستشهاده، ملفوفاً بالعلمِ الوطني، وخلف سيارةِ الإسعاف التي تقلّهُ، بدَت لنا من
عند "السّبيل " عشرات السيارات المُشيّعة..
ذلك الجسدُ القويّ، وتلكَ الزنودُ المفتولةُ، وتلكَ الطاقةُ المُختزَنةُ، أصبحت ثلجاً..؟!
كنتُ أجلسُ قربَ أمي الغاليةِ، على السريرِ، وأواسيها، وهيَ تندبكَ ياغالي :
-أمي.. لا تحزني.. ابنُكِ صارَ عند أرحمِ الراحِمين.. عند الحَنّانِ المَنّان.. أمي.. لو جَمّعتِ كلَّ
حَنان أمهاتِ العالم، لما كانت قطرةً في محيطِ حَنانِ اللهِ تعالى..

30
لا أعرفُ، يا أخي، من أين جاءني ذلك الصبرُ، أو تلكَ الحِكمة.. هل هيَ رحمةُ الله..؟! لا شكّ
في ذلك… رحمةُ الخالِقِ لمَنْ خلَقَ، وبذلَ جُلَّ طاقتهِ، كي لا يحيدَ عن طريقِ الصواب..
صورتكَ الآن أمامي، يا أخي.. تلكَ التي زيّنتْ منازلَ أهلكَ وأقاربكَ ومُحبّيك، حتى في "حَلَب "
بعد سنواتٍ من رحيلكَ المُتوَقّع، والصاعِق، ظلّت صورتكَ مع طفلتكَ الكُبرى ذات العامَين
ونصف العام، والتي التقِطتْ لكما في أحد استوديوهات المدينة، قبل رحيلك بيومَين، فقط.. هل
كنتَ تُدرك أنها صورةُ الوداع..؟!
هنيئاً لكَ، يا أخي.. لم تشهَد مافعلهُ الطغاةُ الذين كنتَ تحاربهم في "حَلَب " مع رفاقكَ الأبطال،
وكنتَ قائداً متقدّماً جنودَكَ في كلِّ المعارك..!! قال بعضُ مَن كنتَ تدخلُ بيوتهم، في مقدّمةِ
الجُنودِ، لتبحثَ عن أحدِ "الخُوّان " المُجرِمين :
-والله، كانَ يدخلُ البيتَ حامِلاً سِلاحَهُ، متقدّماً جنودَهُ، وقد أوصاهم، بحزمٍ، ألاّ يوقِظوا طفلاً، أو
شيخاً، وألاّ يروِّعوا امرأةً، أو يزعجوا مريضاً، وألاّ يلتفِتوا سوى إلى هَدَفِهم… "ويتابعُ النحيبِ،
ويُكمِل " : رجُلٌ شَهمٌ، بطَلٌ شريف..
وما أكثرَ مَن يحملونَ نفسَ القيَمِ، يا أخي..!!
مازلتُ آكلُ "البُرْغُلَ " والبَصَلُ يكادُ ينفد..
تُرابٌ، بتُراب.. لولا الروح، ماذا كان يعني الإنسانُ..!!
قبلَ قليل، كنتُ أعيدُ كتابةَ "نبض الجُذور " على شاشةِ اللّابتوب، لأنشرَها على صفحتي على
الفيسبوك، وتتناقلها بعضُ المَواقِع…
كلُّ رواياتي، وأشعاري، وكلّ ما نشرتُ في الصّحُف، كتبتُهُ بيدي هذه، على الورقِ، ثمّ نقلتُهُ
على الكمبيوتر، ومن بعدِهِ، على اللّابتوب، وطبَعتُهُ، وأرسلتُهُ إلى دورِ النشر، وعانيتُ ما عانيتُ
من مُماطلةٍ، وطَمَعٍ، وسُخريةٍ، عندما أطلبُ من الناشِرِ أن يُسرِعَ في نشرِها، لأنّ هناكَ العَديدُ
من الأقاربِ، والمَعارِفِ سيشترونَ منها عَدداً من النسَخ، وإن تأخّرتَ بالنشرِ، سوفَ يَمَلّونَ،
وربما تُنسيهم مَشاغِلهم شراءها.. فأُجابَهُ باستهزاءِ الناشِر :
-طبعاً.. القرّاء واقِفونَ بالدّور..!!
كدتُ أختنقُ، وقد لامَسَتْ حَبّةُ "بُرغُل " جَذرَ لساني، عند اللهاةِ، من الزاويةِ اليُسرى لعُمْقِ
فمي.. بَصَقتُ اللقمةَ، وسَعَلتُ، ثمّ شربتُ ماءً، ودَمَعَتْ عينايّ، ومازلتُ أسعُل.. لا أعرفُ
إن كانتِ "البَخّاخةُ " تفيدُني الآن، سأحاولُ تجاوُزَ موجةِ السّعالِ التّحَسّسيّ هذهِ، قدرَ
الإمكان، وأوقِدُ المِدفأةَ، فقد تجاوَزَتِ الساعةُ الثانيةَ وإحدى وعشرينَ دقيقةً، بعدَ ظهرِ يوم
الأحد الرابع عشر من شباط – فبراير – عام 2016م.
فاطمة صالح صالح
المريقب

31
_____________________________________________________

كنتُ أراكَ ، كلما نهضتُ لكي آخذ نفسا عميقا ،
كادت الحاجة إليه تقضي عليّ..
كنتُ أراك خلف ضباب تلك النافذة ذات الزجاج غير
الصقيل..ظننتك خيالا من ضمن الخيالات التي أراها تمرّ
خلف نافذتي الوحيدة المغلقة.. ولا أستطيع إدراك
ماهيتها .. أسمع لها أصواتا متداخلة .. لم أستطع خلال
كل تلك الشتاءات أن أميّز بينها كثيرا .. فقط كنتُ
أخمّن أنها ربما تكون أحيانا أصوات أطفال مدارس ..
أوصوت امرأة تبكي.. أو أنات عجائز ، وأصوات جَرّ
أقدام ، وربما ارتطام عصا تتكئ على إسفلت الشارع
المزدحم ..
أظن ، وأظن .. لكنني كنتُ قادرة فقط على تمييز خيالك
الضبابي العابر .. مع أنني لم أكن أراك إلا كالخيالات
العابرة ..
لكن .. سبحان الله .. أنت الوحيد الذي صرتُ أخمّن ، أو
أحدس أنه سيمرّ في هذه اللحظة مثلا .. دون أن أكون
قد سمعتُ صوت عبورك المميّز.. فأقفز من فراشي ، غير
عابئة بالدوار الذي يداهمني كلما قمت مرّة ، نتيجة
ركود دورتي الدموية، التي كانت تنام معي عبر سنوات
القحط المركبة ..
أمسح البخار عن النافذة .. وأقرّب وجهي منها ..
ألصق خدّي على زجاجها.. أبحث عنك بين العابرين.. لكن
.. دون جدوى ..
كنتَ تمرّ.. خيالا ،كالخيالات الأخرى .. لكنني ، لا أدري
لماذا كان عبورك الوحيد، الذي يسعدني ، حتى قبل أن
ألمحه.. ولم يكن يحزنني كثيرا اختفاؤه عبر الجانب الآخر من
تلك النافذة.. مصطحبا معه وقع خطواته..
كنتُ دائما على أملٍ، كثيرا ما كان يتحقق..أنه
لابد لي أن أراك تعبر ثانية .. في زمن تال ، قد يكون
قريبا ، وقدلايكون ..
المهم أن إحساسي كان يصدق .. إن لم يكن في اليوم التالي
، سيكون بعده .. أو بعده .. أو ..؟!
كنتَ تحضر دائما .. حتى صارت مخيّلتي تعمل في اتجاه
آخر.. تحوّلتْ إلى العمل في الحقول .. بعد أن كانت
تكتوي في الصحارى المترامية الأطراف..
بدأتُ أحفر في تراب الأرض .. وأزرع الأحلام في أنك لابدّ
آتٍ .. اليوم ، أو غدا ، أو بعد غد ..
لم أعدْ أكره حياتي ، بالقدْر الذي كنته من قبل ..
كان السأم ، والجفاف ، وحدهما عالمي ..
لكنني صرتُ بعد مدّة ، أدرك أنك رجل يعبُر.. يمنح
وجودي إحساسا جميلا .. فأتوهّم أنني آخذ كل حاجتي من

32
الهواء .. على وقع خطواته الواثقة.. وخياله الدافئ
..
حتى أنني تجرّأتُ مرة .. ونقرتُ لك على النافذة..
بأصابعي التي كادتْ تتصلب ، على مبدأ" العضو الذي
لايعمل ، يضمر.."
أول مرة ، لم تولِني اهتماما ..لأنك لم تلاحظ وجودي..
ولم تسمع نقرات أصابعي .. ودليلي على ذلك ، أن وقع
خطواتك لم يتغيّر..
كنتُ أحزن – حينها –وربما أبكي ، وأعود إلى قوقعتي ،
تحت ذلك الغطاء .. أطمر نفسي بالكامل .. وأبكي ..
أبكي قليلا .. وأحيانا أكثر.. لكنني أنهض ثانية ،
على أمل أنك ستعبُر بعد قليل.. وكثيرا ما كان ذلك
يحدث ..
كنتُ أتردّد قبل أن أعود وأنقر لك على نافذتي
المعتِمة.. إلى أن استطعتُ- مرّة – أن ألفتَ نظرك ..
لاحظتُ ذلك من توقف قدميك ..
توقعتُ أنك تلتفتُ يمنة ، ويسرة .. لتسمع .. ثم تمشي
..
كان ذلك يسعدني إلى درجة أنني صرتُ أضحكُ.. وأقفز في
أرض الغرفة.. قبل أن أسقط في إحدى حُفرها الكثيرة ..
______________________________________________

لا.. وألفُ لا.. يا مَن كنتَ، في يومٍ من الأيام، حبيبي..!!
تغازلُني من ورائها..؟!
عَجَباً..!! عَجَباً.. لعِدّةِ أسباب..!!
مَنْ تحسَبُني، يا مَن أصبَحْتَ أخي..؟! مَنْ..؟! إحداهُنّ..؟! وأنتَ تعلمُ مَن أعني بهذهِ اللفظة..!!
ربما فَهِمتَ ابتسامتي في وَجهِكَ ووَجهِها، غيرَ ما عَنَيت.. لم تكنْ إلاّ ترحيباً بأخوَينِ أعرِفهما،
وليسَ بيننا ما يستدعي عدَمَ الترحيب.. أم حَسبْتَ أنني ضعيفةٌ إلى درَجَةِ أنني لا يمكنُ أن
أصمدَ أمامَ كلمةِ غزَلٍ افتَقَدْتُها، تصدرُ منكَ أنتَ بالذات..؟!
لا.. وألفُ لا.. يا مَنْ كنتَ، في يومٍ من الأيامِ، حبيبي..!!
أظَنَنْتَ أنني غبيةٌ، عندما تجاهَلتُ عَينيكَ اللتينِ كانتا تلا حِقانني في كلِّ حَرَكَةٍ من حَرَكاتي،
وضحكاتي، ومُجامَلاتي..؟! ويَدَيكَ اللتَينِ كانتا ترتجفانِ وهُما تتلقّيانِ السلامَ من يَدَيّ.. تشدّانِ
على يَدَيّ.. تحاوِلانِ، بكُلِّ لَهْفَةٍ، احتِواءَهُما.. وكلماتكَ الهامِسَة، التي كنتَ تحاوِلُ أن تخصّني
بها دونَ الآخرين، عندما كنتُ أقدّمُ لكَ، من ضِمنِ الآخرين، فنجانَ القهوة..؟!
تجاهَلتُ كلَّ ذلكَ، بعفويّة.. أحَسِبتَها أنتَ غباءً..؟!

33

لا.. وألفُ لا.. يا مَنْ كنتَ، في يومٍ من الأيام، حبيبي..!!
لم أكنْ، يوماً، من خَفافيشِ الظلام.. ولا أقبَلُ أن أكون..
إنني من بَناتِ النور.. وذلكَ يُسعِدُني..
لِعِلمي، أنكَ أحبَبْتَها حباً سلَبَ النومَ من عينيك.. أفقَدَكَ صَوابَك.. لدَرَجةِ أنكَ لم تعُدْ تستطيعُ
التفكيرَ باتزان..!! جَمالُها، وذكاؤها، وجاذبيّتُها..و..و.. أنسَتْكَ ، بلحظاتٍ قليلة، كلّ ماكانَ بيننا
من حُبٍّ نقيٍّ طاهر، مُجَرّدٍ عنِ النزواتِ العابرة.. بعيدٍ كلّ البُعدِ عن طَيشِ الشباب.. مع أننا كنا
كلانا في ذروَةِ تلكَ المَرحلةِ الجميلةِ العَذبةِ من الحياة.. كانت لدينا الحياة، بكلِّ مَعانيها..
الشبابُ، والنشاطُ، والقوّةُ، والمَرَحُ، والضحكُ، والحبُّ بكلِّ الجَوارِح، المُنزَّهِ عن كلِّ خطأ يمكنُ
أن يقع.. مهما كانَ ذلكَ الخطأُ صغيراً، أو عابراً بنظَرِ غيرِنا..
كنا نحبُّ لأجلِ الحب.. كنا نحلمُ، ونحلمُ، ونحلم.. كانت فراشاتُ أحلامِنا تحلّقُ بعيداً، بعيداً.. في
أبعَدِ الآفاقِ، وأعلى القِمَم، وأعمقِ الوديانِ، وأبهى الألوان.. في بساتينِ الفرَح.. في زقزقاتِ
عصافيرِ الجنة.. في بَياضِ كلِّ أقحوانة.. في رائحةِ زهرِ الياسمين.. في أعلى سماواتِ الفرَحِ
والسعادة، حَمَلَني حُبُّكَ، يوماً.. يا مَن كنتَ، في يومٍ من الأيامِ، حبيبي..
حَمَلَني على مَتنِ نُسَيماتِ الصباحاتِ الريفيّةِ العليلة، التي تحملُ البِشْرَ والتفاؤلَ والإنشراح..
أبعَدَني عن كلِّ ما يُعَكِّرُ صَفوَ حياتي.. أسعَدَني كلَّ السعادة.. رَفَعَني إلى أعلى مستوياتِ
إحساسي بإنسانيتي وأنوثتي.. جَعَلَني أحِبُّ نفسي وأحترمُها، وأحبّ الجَمالَ في كلِّ شيءٍ، وفي
كلِّ مَخلوق.. عَبَدْتُ الخالقَ بإيجابيةٍ أكثر، عندما مَلأ قلبي بحبّكَ الطاهِرِ النقيّ البريء..
نَسيتَ كلَّ ذلكَ، بلحظةٍ، عندما رأيتَها.. سَلَبَتكَ عقلَكَ وإرادَتِكَ معاً..
يا لَها مِن مَحظوظة..!! يا لَها من إنسانةٍ مُتفوِّقةٍ بكلِّ شيء..!!
لا عَليكَ، يا مَن كنتَ، في يومٍ منَ الأيامِ، حبيبي..
لا أنكرُ كم تأثّرتُ..
بحجمِ حبي لكَ، تأثّرتُ..
كم انهرتُ.. كم مَرضتُ.. كم تعِبتُ.. كم ضَعِفتُ.. حتى مَنّ اللهُ عَليّ بالعافية.. وساعَدَني،
سبحانهُ، لألَملِمَ أجزائيَ المُبَعثرَة، وأبدأ حياتي من جديد.. بنضوجٍ أكثر، وإيمانٍ أعمَق، وبقوّةِ
دَفعٍ أكبر، ساعدَتني، وتساعِدُني، حتى الآن، وستساعِدُني دائماً على أن أعيشَ بإيمانٍ، وحِكمةٍ
ووَعيٍ ورضى، ونشاطٍ ومحبّة.. لأكونَ مواطنةً صالحةً، وإنسانةً خيّرَةً مِعطاء.. نافِعَةً لنفسي
وللطيّبين..
لَمْلِمْ جراحَكَ، يا أخي.. فدواؤكَ الآنَ ليسَ عندي..
فَتِّشْ عَمّنْ تتعَشّقُ العيشَ على جُثثِ الأخرَيات..
الخيانةُ ليستْ من خِصالي..

34

كانتْ وما تزالُ وستبقى، أبعدَ ما تكونُ عن مُعتقَدي، وديني الذي أدينُ به..
إن كنتَ أصبَحْتَ تستسيغها، فابحَثْ عَمّنْ يلذّ لها ذلك..
إن كنتَ قد تخلّيتَ عن كرامَتِكَ بهذهِ السهولة، فليس ذلكَ من طَبعي..
كرامتي وكرامةُ كلِّ إنسانٍ غاليةٌ عَليّ.. فما بالُكَ بكرامةِ صَديقتي..!!
أخيراً.. أوَدُّ أن أهمسَ في أذنكَ هذهِ الكلِمات :
إن كانتِ الأيامُ قد عَلّمَتكَ أن تأخذَ كلَّ شيء.. وتتخلّى عنِ العَطاء.. فاعلمْ أنّ الحياةَ، والسعادَةَ
ليسَتا مُلكاً لكَ وَحدَك..
لي بهِما حَقٌّ مُقَدّس.. ولها أيضاً.. ولكلّ الناس..
لا………… وألف لا……………..
يا مَن كنتَ، في يومٍ منَ الأيامِ، حبيبي……………..!!
______________________________________________

لماذا أسمعُ صَوتَ الرياحِ القويّةِ العاتيةِ في الخارِج، ولا أستمتِعُ بهُدوءِ المنزلِ
وشاعريّتِه..؟!
لماذا أرى الأغصانَ والمزروعات تئنُّ بانحِنائها من العاصفة، ولا أراها تتراقَصُ وتتمايَلُ قانعَةً
بقدَرِها، وصامدةً، لا تخورُ قِواها..؟! يُعانِقُ بَعضُها بَعضاً بحُبٍّ وألفةٍ ودفءٍ وسَعادة..؟!
أصواتُ الرياحِ تهدرُ حقاً في الخارِج، وتُميلُ الأغصانَ والزّرعَ بقوّةٍ وعُنف، مُقَلِّلَةً من دِفءِ
الغرفة.. لكنَّ الأشجارَ تصمُد.. لأنها مُصَمّمة على الصّمود، ولأنها تريدُ أن تستَعِدَّ لرياحٍ أقوى
ربما جادَتْ بها الفصول.. فهل كلّما هَبّتْ ريحٌ ستنكَسِر..؟! ونوافِذُ مَنزلنا الحبيب تهتزّ لكنها لم
تنكسِر لأنها قويّة.. جُبِلَتْ من مَعدنٍ مُقاوِمٍ صلب.. والهواءُ الذي يتسرّبُ من تحتِ الأبواب،
يجعَلُني غيرَ مُنعَزِلةٍ عَمّا يجري في العالَمِ الخارِجيّ.. يساعِدُني على تَحَسُّسِ ما يَجري في
الخارِج، كي أبقى مُنسَجِمَةً مع الحياةِ في كلِّ مكانٍ وزمان.. وفي كلِّ أشكالِ هذهِ الحياة، بارِدَةً أم
دافئة.. عاصِفةً أم هادئة..
الكهرباءُ مَقطوعَة.. لكن لدَيَّ مِذياعيَ الصغير، أفتحُهُ على بَعضِ البرامِجِ التي أحِبّها عندما
أريد،لا لأكسرَ وَحْشَتي.. لأنني لا أحِسُّ بالوَحْشَةِ أو حتى بالوَحْدَة.. فأنا أحسُّ بانسِجامٍ داخِليّ..
وبقناعَةٍ وحُبٍّ للحياة.. بكلّ فصولِها وتَبَدُّلاتِها.. ولا أجِدُ السعادَةً إلاّ بتَبَدُّلِ أشكالِ الحياة.. مُزهِرَةً
حيناً.. جَرداءَ حيناً آخر.. دافئةً حيناً.. باردَةً حيناً آخر.. هادِئةً حيناً وعاصِفَةً حيناً آخرَ أيضاً..
والهاتِفُ مُعَطّل.. فهل أحِسُّ بالعُزلة..؟! كَلاّ.. فقد قال الرسول محمّد (ص) :

35
(اخشَوشِنوا، فإنَّ النِّعَمَ لا تدوم).. وأنا أحاوِلُ الإعتيادَ على التأقلُمِ مع كلّ الأوضاعِ والظروف..
لأنني مُعَرّضةٌ مع كلّ العِبادِ على كلّ الظروف، حُلوها ومُرّها، يُسْرَها وعُسْرَها..
مِن شِدّةِ الرياح، رَجِعتُ عنِ الطريق عندما كنتُ نازلةً إلى عَمَلي، فقد طارَتْ حقيبتي من يَدي
وابتعَدَتْ عَنّي مسافة، وكادَتِ الريحُ تقذفني حيثُ تشاء، فضحِكْتُ كثيراً من هذا المَنظر.. وعُدْتُ
أدراجي إلى بيتي، أشعَلتُ المدفأة وجلستُ قُربَها.. يالَها من مدفأةٍ مُسَلّية.. تُمتِعُني بين حينٍ
وآخر، خصوصاً إذا كنتُ مُنسجمةً بشيءٍ ما.. كشغلِ الصوف أو الإفطار أو الإستماع إلى
حديثٍ شَيّقٍ منَ المذياع، تُمتِعُني مِدفأتي العزيزة بصَوتٍ كالقنبُلة، يوقِظُني من غَفلتي.. يتبَعُ ذلكَ
تناثُرُ الشّحّارِ الأسوَدِ في أرجاءِ الغرفة.. ورائحة لا أُحسَدُ عليها..
عَلّ مِدفأتي الحبيبة هي الأخرى تحاوِلُ أن تعَوِّدَني على التأقلُمِ مع كلِّ الظروف..!!! عَلّها
تقولُ لي : هذا جزاءٌ لكِ لأنكِ لا تولينني أيَّ اهتِمامٍ يُذكَر.. ولا تشكُرينني، أو تستمتِعي بي عندما
أكونُ مُشتعِلةً بهدوء.. أوَزّعُ دِفئي في كلِّ مكانٍ من بيتِكِ وحياتِك…
بارَكَ اللهُ بكِ أيتها المِدفأة، وأيتها الرياح، وأيّتُها الفصول كلّها.. وأرجوهُ سبحانهُ أن يُعيننا على
أن نستمتِعَ بالخيرِ كُلِّه عندما يُنعِمُ علينا به.. وأن يَمنحَنا الصّبْرَ والقوّة.. لتَحَمُّلِ كُلِّ الصِّعاب..
بنفوسٍ قانِعة، هانِئة، سَعيدة.. مُسعِدَة.. نشيطة.. مِعطاء.. خَيِّرَة دائماً..
قبل ظهر السبت 17- 3- 1990م
(بَلَغَتْ، يومَها، سُرعَةُ الرّياحِ أكثرَ من 120 كم/سا.. اقتلَعَتْ بعضَ الأشجارِ في بعضِ
الأماكِن.. وخَرّبَتْ بَعضَ البيوتِ البلاستيكيّة، وطَيّرَتْ بعضَ سقوفِ التوتياء، وقَلَبَتْ وحَطّمَتْ
بعضَ المَراكِب.. مراكب الصَّيدِ في شاطئ طرابلس في لبنان.. وخَلّفَتِ الكثيرَ من النباتات،
كالفول والسّلق والخَسّ.. كأنهُ مَسكوبٌ عليهِ مازوت، لكنَّ الطبيعةَ سَخَتْ على هذهِ النباتاتِ
وأعادَتها إلى ما كانتْ عليهِ، وأحسَن، بعدَ عِدّةِ أيام…… مطر.. ثمّ.. شَمس..)
___________________________________________________

إليك…….

لو أنني الآن بين أحضانكَ، ياغالي، لاكتفت روحي من إحساسها بالأمان.. الأمان الذي فقدته من
زمان..!!
حبيبي.. أيها الرجل الرجل..
أحتاجك…………………..
لقد تزوج مُعتَز، بطلبٍ مني، ورغبةٍ في أن يحل مشكلته مع الحياة، ويقترن بإنسانةٍ موظفة،
ومن مستواه الفكري..

36
كان شرطي الوحيد، أن لايقتربَ من مشاعري، وألا يثيرَ أعصابي، لأنني لم أعد قادرة على
تحمل الإنفعالات العنيفة التي لازمتني من لحظة اقتراني به، حيث، بالتدريج، فقدتُ القدرةَ على
التحمل، مع عدم مقدرتي على التخلي عن سندٍ يفهمني ويحترمني ويقدرني، وأكون له سنداً،
أيضاً.. فأنا أؤمنُ أن الحياة الناضجة والشراكة الصحيحة، هي شراكة تكامُلية، وليست تفاضُلية..
وجدتكَ، بين الركام، في زحام تلك الفوضى، رجلاً عاقِلاً طافحاً بالحب والحنان، قوياً بمبادئه..
وماذا يهم إن كنتَ بساقٍ واحدة..؟! فأنا ساقكَ الثانية، وأنتَ دعامتي المعنوية..
ليلةَ استرَحتُ من مُعتز، واستراحَ مني – دون أن أشعرَ بأي تأنيبٍ للضمير.. فكما قلتُ لك، كان
الموضوع باقتراحي وتشجيعي، فطالما كان يردد على مسامعي، أنه لو قُدرَ له أن يتزوج من
جديد، فسيختار موظفةً، تتقاضى راتباً يسند راتبه، ليعيشَ بسعادة.. هاقد حقق حُلمه.. ولا يهمني
بعد ذلك إن كان سعيداً، أم لم يكن.. المهم أنني فعلتُ ما يُرضي ضميري، ويريح أعصابي..
فليتزوج بموظفة، ولأشعر بالأمان في حضن مَن أحببتُ بالروحِ، قبل الجَسَد..
ليتني في حضنكَ الآن، وأنتَ تمسحُ على شَعري بحنان يدِكَ اليُمنى..!! وتحقق لي ما وعدتني به
:
– سأعوضكِ عن كل ما افتقدتِهِ من حنان..
– وسأكون قدَميك..
– دفئيهما.. فقد تصقعتا..
– أدفئ قدمي مَن دفأ قلبي..
معادلةٌ طالما حلمتُ بها، ووعدتُ روحي بتحقيقِها..
ليلتها، شعرتُ بالمزيد من الحاجةِ إليك.. فتناولتُ جهازيَ الخَلَوي، وتركتهُ يرن لمدةٍ قصيرة..
أغلقتهُ قبلَ أن ترد علي.. لكنني توقعتُ أنكَ شعرتَ كم أحتاجُكَ في تلكَ اللحظة..
لاأنكر أنني شعرتُ بقشعريرةٍ، ورجفانٍ في روحي وجسمي، حين قرر الزواج، رغم قناعتي،
ورغبتي.. ولم يهدئ روحي وجسدي، سوى تفكيري بكَ، ياغالي، وتصوري أنني في حضنكَ،
كعصفورةٍ تحتمي من صقيعِ هذا الشتاء القاسي، في عشٍ دافئٍ، بَنتهُ مع حبيبها..
لستُ أدري إن كنتَ ماتزالُ حياً.. لكنني أكتفي بأن أشعرَ أنكَ قد خرجتَ من بين الحطام
المتراكم.. فطالَما حلمتَ بالإستقرارِ والأمان..
إن كنتَ ماتزالُ حياً، فأخبرني ياحبيبي..
وليسَ مهماً أن نلتقي بالجسَد.. الأهَم، أن يُدفئَ كل منا صقيعَ الآخر..
بالنسبة لي، يكفيني أن نفسي هدأت، بعد أن كتبتُ لكَ هذه السطور..
أرجو أن تكون وتبقى بأمان..

مروَة

37
_____________________________________________________

ليلة
سكونُ الليلِ، يعقبُ الصمتَ الصارخَ في ذلكَ المنزلِ المُثقَل..
تجاوزتِ الساعةُ الواحدة.. صحيفةٌ عمرُها أكثرُ من عامٍ، تُطوى.. يُطفأ الضوءُ.. تهتزّ أركانُ
المنزلِ الجافّة.. تصيخُ السمعَ.. هديرُ قذائفَ ليس بعيداً.. تهجسُ.. قوّاتُنا تتصدّى لقوى الظلامِ
الآتيةِ من جهاتِ الأرضِ الأربع..من البرّ، والبحرِ، والجوّ.. من تحتِ الأرض.. مَنِ الذي تركها
تنخرُ نسيجَ هذا الترابِ الثّرّ..؟! لماذا لم تغرقْها الينابيعُ، أو تبتلعْها البحار، أو يجرفْها الموجُ، أو
تحرقْها حِمَمُ البراكينِ التي تغلي في جوفِ هذه الأرض..؟! ( نور للّي يصافينا.. نار عاللّي
يعادينا..)تقفزُ من سريرها.. توقدُ المصباح.. جَوّ رائقٌ، وهدوء.. سحاباتٌ يتخلّلها ضوءُ قنديلِ
الليلِ الفضّيّ الأزليّ.. قرىً نائمة.. تحرسُها أنوارٌ مُبعثرَة، بعضُها أبيض، والآخرُ أصفر.. نورٌ
أحمرُ يعتلي قِمّةَ الجبلِ المُقابل، يظهرُ، ويخبو بالتناوُب.. هناكَ ترتفعُ قبَبٌ لأولياءَ صالحين، منذ
مئات السنين.. يحرسونَ تلكَ القرى الوادعة، الكادحة.. جَدّها كانَ أحدَ الحُرّاس، دونَ أن تُبنى
فوقَ مقامهِ قبّة.. ماتزالُ قاماتهم تنتصبُ حاملةً سلاحَها.. بندقيّةً، فأساً، محراثاً، معولاً، منجلاً،
دفتراً وكتاباً، قلماً ودواة.. تهتزّ الأركانُ مرّةً أخرى.. هديرُ القذائفِ يخرقُ السكونَ الصاخب..
ترتفعُ روحُها نحوَ السماء : ( ياااااربّ..!! أيتها القوّةُ الخالقة القادرة..!! ).. تصمتُ القذائفُ، ثمّ
تعودُ بقوّةٍ أكبر.. تتابعُ صَلاتَها : (.. أهلي.. أنا.. وكلّ الطيّبين.. أرجوك..!! ) ألم يشبَعوا – بَعْدُ –
من دمائنا..؟! تكرّرُها في عزاءِ كلّ شهيد.. كلّ سنبلةِ قمحٍ، وغصنِ آس.. ما الفائدة..؟! لن
يتركوا هذا البلدَ آمناً، قبلَ أن يتقاسَموا خيراتَه.. منذ مئاتِ السنين.. وربما أكثر.. أهيَ ضريبةُ
الجغرافيا..؟! أم ضريبةُ حُسْنِ النيّة..؟! ضريبةُ القيَمِ الإنسانيّةِ، التي هي – في معاييرهم –
ضَعفٌ، وهَبَل..؟! ( مَن نامَ، لم يُنَمْ عنه ) قالها السيّد..
سادَ الصمتُ الحذرُ من جديد.. خَمَدَتِ القذائفُ، إلى حين..
تحاولُ أن تنام..
تصبحونَ على خيرٍ، وسلام.. على أمْنٍ، وأمان.. وعلى وطنٍ مُعافى.. تكلّلُهُ خُضرَةُ الغارِ، وندى
الأعشاب.. وطنٍ من فِضّةٍ، وسنابل.. من قاماتِ السنديان.
فاطمة صالح صالح
______________________________________________

38

مَهَمّةٌ جَليلة
فاطمة صالح صالح
عندما أسارِعُ للقيامِ بأحدِ أهَمّ واجباتي تجاهَ وطني، في هذهِ المرحلة الحاسمة من تاريخنا،
وتاريخ المنطقة.. وربما.. تاريخ العالم.. أكونُ، أيضاً، أمارسُ حَقي باختيارِ مَن أراهُ أجدَرَ
بقيادَةِ هذا الوطنِ الأغلى، والارتقاءِ بهِ نحوَ التقدّمِ، والتطوّرِ والانفتاحِ الواعي على العالمِ
الإنسانيّ، والحضارةِ البشريّة..
صباح هذا اليوم.. الثالث من حزيران يونيو 2014م، حضرتُ إلى مركز الإنتخاب في قريتي
(المريقب) مسقط رأس المجاهد (الشيخ صالح العلي) قائد الثورة ضدّ الغزاة الفرنسيين في
الجبال الساحلية من القطر العربيّ السوريّ.. وصاحب الرصاصة الأولى في مواجهةِ ذلكَ
المُستعمر الغادر.. وصلتُ إلى المركز قبل السابعة بربعِ ساعة.. كانت اللجنة تحضّر لبدء
العملية الإنتخابية.. انتظرتُ حتى أعلنتِ الساعةُ تمامَ السابعة.. وحقّقْتُ حُلُمي بأن أكونَ أوّل
من يُدلي بصوتهِ في هذا الإستحقاق الرئاسيّ الهامّ جداً، خصوصاً في هذه المرحلة من تاريخ
شعبنا وأمتنا..
كانتْ صُوَرُ الشهداءِ تزيدُ القاعةَ جَلالاً، وتزيدُ من حَماستي لأقومَ بهذا الواجبِ تجاه الوطنِ
الأغلى.. هم ضَحوا بدمائهم وأرواحهم من أجل خَلاصِ هذا الوطن.. تَرَكوا أسَراً، وأبناءً،
وأهلاً، وزوجات… تركوا كُلّ مايخصّهُم من أجلِ عقيدَةٍ آمَنوا بها، وأخلصوا لها، وأقسموا أن
يضحّوا بأغلى مالديهم من أجلها.. فكيفَ يتقاعَسُ أحَدُنا عن تقديم كلّ ما يستطيعُ، لمواصَلةِ
طريقهم الجليل هذا..؟!
رأيتُ أرواحَهُم ترفّ في أرجاءِ القاعةِ، مبتسمَةً مُتفائلة.. خصوصاً عندما بدأتِ القاعةُ تزدحِمُ
بمَن ضَحّوا من أجلهم…
بعضهم كان يريدُ أن يبصمَ بالدم.. لكنني اكتفيتُ بوضعِ إشارةٍ تحتَ صورة المُرَشّح الدكتور
(بشّار حافظ الأسد) لاقتناعي أنهُ أهلٌ لتحَمّلِ هذا العبء، وقيادَةِ هذا الوطن، بضميرٍ حَيّ،
وخِبرَةٍ مُكتَسَبة، وصِدقٍ معهود…
سالتْ دموعي على خَدّيّ، وأنا أحدّقُ في عيونكم أيها الأبرار…. صدّقوني أنها لم تستأذنّي…
حَضَرَتْ أمام عينيّ في تلكَ اللحظات، حياةُ، وتضحيةُ، وكرَمُ، واستبسالُ كلّ شهيدٍ منكم.. يا
أكرمَ خَلقِ اللهِ تعالى..
(صالح) الذي استُشهِدَ تاركاً زوجَةً مريضةً بائسة، وثمانيةَ أبناء، وأباً عجوزاً فقيراً كادحاً، لم
يلبث أن لحِقَ بابنه.. وزوجةَ أبٍ، بكتهُ كما تبكي الأمّ الحنونُ ابنها الوحيد.. لحُسْنِ معامَلتهِ
لها.. هي التي لم ترزق بأبناء.. وتوَلّتْ تربيتَهُ مع أختهِ، والعطفِ على أبنائهِ، إلى وقتِ
استشهاده..
و (عبد الكريم) زميل الدراسة.. و (نضال) الضابط البطل.. و (مَلاذ) الضابط الذي لم يُحضِروا
جثمانه حتى الآن.. وكذلكَ الضابط (بُنيان).. تأمّلتُ ابتسامَتَكَ الحزينةَ، المطمئنّة.. يا (أحمد)

39
الغالي.. كيفَ عِشْتَ مُكافحاً من أجلِ الحصولِ على لقمةِ العيشِ الكريمة الشريفة الحلال..
وكيفَ أوصَيتَ أخاكَ قُبيلَ ارتقاءِ روحِكَ إلى بارئها، بلحظات.. أنّ عليكَ ديناً لفلان.. ودَيناً آخرَ
لفلان.. كي يوفّوهم بعد استشهادِك.. وأن يهتموا بزوجتكَ الطفلة.. ورَضيعَتَيكما.. وغيركم..
وغيركم.. وغيركم…. لكلِّ بطلٍ منكم قصّةٌ يُدرِكُ مَنْ يعرفها أنّ وَطناً أنجَبَكم، وأرحاماً حَمَلَتكم،
وأهلاً كادحينَ رَبّوكم على الحلال.. والحَلال، فقط….. من أشرفِ الأوطان.. وأطهَرِ الأرحام..
وأسمى قِيَمٍ إنسانيّةٍ أرضعتكم إياها أشرَفُ الأمهات.. وأنبلُ الآباء..
أخي الغالي ( اسماعيل )….. صحيح أنّ صورةَ وَجهِكَ الغالي.. الجميل.. الحبيب… الأغلى…
لم تكنْ موجودةً معَ صُوَرِ الشهداء الغوالي….. لكنّ روحَكَ الطاهرةَ النقيّةَ الشريفةَ الوفيّةَ
المندفعةَ لفِعْلِ الخير.. )ولا تريدُ على ذلكَ جزاءً، ولا شُكورا.. ) كانتْ ترفُّ في سماءِ القاعة..
بل.. في رحابِ الوطنِ الأغلى.. تشدّ على أيدي الشرفاءِ الأوفياءِ المُخلصينَ الصادقين.. أن….
تااااااااابِعوا المسيرة…… الوطنُ أمانةٌ………. وأنا، وأمثالي الشهداء الأبرار…. ضحّينا
بأغلى مانملكُ من أجل صِيانةِ هذا الوطن الأغلى…. بكلّ ثقةٍ، وإيمانٍ، وقوّةٍ، وتصميم………
فاحفظوا الأمانة…… يا أبناء وطني الأغلى.. أيها الثابتونَ على الحقّ.. ثباتَ المؤمِن الصابرِ
العامِل على خيرِ الجمييييييع…. جميع الشرفاء الأوفياء البانين… مَرَرْتُ بجوارِ مقامِكَ الذي
يدعونهُ قبراً… شعرتُ بسعادةٍ بالغة… شعرتُ أنكَ تُدلي بصَوتِكَ لمَن تراهُ الأجدَرَ بصيانةِ
الأمانة… رحمةُ اللهِ تعالى على روحِكَ الخالدة.. وعلى أرواح جميع الأوفياء للحق.. الخالدين
في الوجدان..

مولدُ الفجر الأخضر..
لم أعرفكَ قبلَ تلك اللحظات.. حين مرّ بياضُكَ فوقَ سوادنا..
كان إسفلتُ الشارع يتوهّج.. والأرواحُ تذوب.. وأنتَ ترتفعُ فوقَ الجميع، لتلامسَ قبّة السماء..
تفتحها من كلّ الجهات.. وتدخلَ في ملكوتِ الجَمال الأزليّ، السرمديّ..
من هناكَ أتيتَ يا بُنيّ..
هل قتلكَ الحنينُ إلى منابع النور الخالدة.. فارتفعْتَ فوقَ ذلكَ العفن الذي أرادوا تلطيخَكَ به..
جاهلينَ أنكَ عَصيّ على قذاراتهم..؟! وعندما اشتدّ بُغضُهم لأنفسهمُ الضعيفة.. وأدركوا انتصارَ
بياضِكَ على سوادِ أرواحِهمُ الهزيلة، قذفوا بها إلى النهر.. ليمحوَ آثامَهم.. فارتفعتَ شهيدا ، يا
بُنيّ..
حاولنا أن نرفعَ أصواتنا، تعبيرا عن السخط ، والحبّ.. فأدركنا أنّ حُلوقنا جفّتْ.. عندها،
اكتفينا بمراقبة صعودكَ..
تجمّدت الهاماتُ على جانبيّ الطريق الحارّة.. وارتفعَت الصلواتُ لإله الحبّ، والجمال.. عندما
اخترقتَ الحُجُبَ، مرفرفا بأجنحتكَ النورانية..

40

وامتزجْتَ بالمحيط الأزرق..
عُدنا إلى منازلنا، ليفتحَ كلّ منا تلفازهُ الأحمر.. كانتْ أشباحُهم السوداءُ تتراقصُ عبرَ
الشاشات.. تنشرُ الرعبَ في قلوبِ الصغارِ، والعجائز.. وتثيرُ القرَفَ في بعض النفوس.. والحقدَ
في بعضِها.. والقنوطَ في بعضها الآخر.. روحُكَ الناصعة ، النقية، الراقية.. هي وحدها التي
كانت تعيدُ الصفاءَ لتلكَ النفوس المضطربة.. ترسلُ النورَ من عليائها.. فتهزمُ ظلامَ المكان
والزمان.. تروّعُ القراصنةَ، وتبعثرُهم..
هاهو شعاعُ الحقيقة يعمّ أرجاءَ الوطن..
هاهي الطهارة ترسمُ العزيمة ، والرحمة.. والقلقُ الطاغي، يحثّ النفوسَ الطيبة على العمل..
العملِ المجبولِ بالمحبة..
إنها عملية المخاض المؤلمة..
هاهو رأسُ الوليد يطلّ، عابرا ذلك البرزخَ العميق.. ويندفعُ بقوّة ، وحيوية . وحبّ ، ونشاط..
نحو الحرية الحقيقية.. حرية الحبّ، والنقاء، والنوايا الصافية.. ليعمّ الخيرُ على وطننا الأغلى..
بكلّ أطيافِه الرائعة ، الناصِعة.. نواة لحياة إنسانية خالدة..
المطرُ يهطلُ، يا بُنيّ..
تعلّمنا من تراثنا، أنّ الحرارة الشديدة جدا ، تبشّرُ بمطر غزيرٍ وخصوبة يانعة..
فعلى روحكَ السلام.. يا بُنيّ الشهيد..
___________________________________________________

فاطمة صالح صالح
عصر يوم الإثنين الأول من رمضان..
1/8/2011م
_____________________________________________________
نيرانٌ تكوي الضلوع.. براكينُ تذيبُ الصخور..
عَواصفُ تجتاحُ المَدى.. ليلٌ يَطولُ بظَلامِهِ المُدلَهِمّ..
يليهِ صَباحٌ مُشرِقٌ بشَمسِهِ الدافئة..
دروبٌ مزروعةٌ بالأشواكِ والصّخور..
سوداءُ تلكَ الصخور… مُتألّبَةٌ تلكَ الأشواك..
قاسية.. صعبةُ الكَسْر..
طعامٌ مُرٌّ كالعَلقم… شرابٌ كالزيتِ المُحْرِق..
بَصيصُ نورٍ يأتي من الظلام.. من بعيدٍ.. بعيد..
يوحي بالإستمرارِ والإقدام..

41

بدونِ ذلكَ كلّهِ.. لايمكنُ أن تجِدي نفسَكِ.. أيتها الضائعة..
لتكُنْ قوّتُكِ السلبية، قوّةً إيجابية.. ليكُنْ إحساسُكِ العميقُ بالأشياء.. دافِعاً للدّيمومةِ والإستمرار..
حثّي الخُطا.. فهناكَ نورٌ.. بعيدٌ.. بعيد.. يبدو لكِ ضئيلاً.. لكنّهُ عملاق.. يشرئبُّ بعنقهِ إلى
الأعلى.. ليكونَ هادياً لمَن أحَبَّ الحياة.. بكلِّ ما تعني..
_____________________________________________________

هاجس
تواعِدُني بين فترةٍ وأخرى…
حتى أظنُّ أننا سنلتقي عمّا قريب..
و.. غالباً، تبتعِد.. في ظروفٍ، لا يمكنُ لإدراكي أن يعرفَها..
منذ سنواتٍ، وسنوات.. وأنا أتوقّعُ أننا سنلتقي..
أهربُ منك.. لكنكَ لا تُبالي..
تقتربُ متى أرَدْتَ.. تكادُ تحضنني وتسافرُ بي إلى مَجاهلِكَ البعيدة..
أخافُ سطوةَ أحضانك.. وأهربُ من يديكَ، هَلِعَةً، مَرعوبة..
فتحرَد.. تغيبُ عن باصِرَتي إلى حين.. ثمّ أشعرُ أنكَ تدنو، بكَفّيكَ القويّتين.. فأفغرُ فمي، وأفتحُ
جَفنَيّ إلى أقصى مَداهُما.. فتزعل.. تغيب.. ولا أحزنُ من غيابك..
أشعرُ بالإطمئنان.. لكنهُ ليس اطمئناناً كافياً ليُشعِرَني بالإستقرار.. بالرّكون..
هاجسي يبقى يدورُ حولَ احتمالِ حضوركَ على حينِ غفلة.. أو بمعرِفتي المُسبَقة..
كلُّ احتمالاتِ حضورِكَ تُرعِبُني.. فأحاولُ تجنّبَها، عَبَثاً..
أو أنَّ وَهمي هوَ الذي يحضر.. وليسَ أنت..؟!!
لم ألحَظْ – مَرّةً – أنكَ لا تحبّني.. لكنني أخشاك.. لا أعرفُ لماذا..!!
ربما لأنني اكتسَبْتُ هاجِسَ الخوفِ منَ المجهول.. وأنتَ المَجهولُ بعَينِه.. بكلِّ سَطوَتِه.. بكلٍّ
رَهْبَتِه..!!
وكيف لا أخافُكَ، وفي حُضورِكَ الغِياب..؟!!
حضورُكَ الغِيابُ العَميق.. أيها المَوت..!!

42

أيها المَجهول..
هل أنتَ – فِعْلاً – مُخيف..؟!!
هل أنتَ رَهيب..؟!!
هل أنتَ قاسي..؟!!
أم أنّ مَخاوِفَنا هيَ القاسية.. هيَ الرهيبة.. هيَ المُخيفة..؟!!
أخافُ أن أطلبَ منكَ أن تنزعَ القِناعَ عن وَجهِكَ المَجهول..
أخافُ أن تبدو لي كما أتوقّع.. أو أكثرَ بَشاعة.. أكثرَ قَسوة..
أنا أخشى القَسوة.. أخشى العُنف..
أنفُرُ منَ المَجهول…. لأنني أتوقّعُ أنهُ مُرعِب..
لكن.. قد يكونُ خوفي غيرَ مُبَرَّر..
قد تكونُ مَلامِحُكَ ناعِمَة..!! لكن.. جِلدُ الحَيّةِ – أيضاً – ناعِم..!!
قد تكونُ طَلّتُكَ مُشرِقة..!!
مَن يدري..؟!
مَن رآكَ، وغادَرَ معكَ إلى مَجاهِلِكَ.. ثمّ عادَ وأخبَرَنا بماهيّةِ عالَمِك..؟!
لن أستجديكَ – بعدَ الآن – أن تأتي.. أو ألاّ تأتي..
سأحاولُ تجاهُلَ حضورِكَ، أو غيايِك..
لن أكونَ حَمقاءَ إلى دَرَجةِ أن أتركَ كلّ مالدَيّ.. وأقعُدَ بانتظارِك..
صديقاً، أم عَدوّاً..
حبيباً، أم غريباً..
وَهماً، أم حقيقة..
وسأبقى أفعَلُ.. وأتفاعَل..
أبني.. وأهدم..
في واقِعٍ مَرئيّ، ومَحسوس..
ساعيةً – بكلِّ مالَدَيّ – لتكونَ أبنيتي حلَقةً من حلقات البناءِ الصاعدة.. أفقياً، وعَمودياً..

43

ف ( منَ العَبَثِ، أن نقلَقَ لأشياءَ غير خاضعَةٍ لإرادَتِنا )..
فاطمة

_____________________________________________________

هُويّتي..!!
عَشقتُها.. والعاشقُ يَميلُ إلى الذّوَبانِ في المَعشوق، بقدرِ ما يكونُ عِشقُهُ صادقاً..
عَشقتُها.. ولا أدري إن كانت هي – أيضاً- تعشقني..
فالحبُّ الحقيقيّ، ينمو دائماً.. حتى ولو كانَ من طَرَفٍ واحِد..
لكنّ حُلُمَ العاشِقِ، الأبَديّ.. يبقى، أن يُبادِلَهُ المَعشوقُ الحُبَّ.. وبنفسِ القدر..
فلا يكتمِلُ الحُبُّ، إن لم يتّحِدْ طرَفاه.. العاشقُ، والمَعشوق.. ويذوبا مَعاً..في مكانٍ، يُصبحُ لا
مَكاناً.. وزمانٍ، يُصبحُ لا زماناً..
إنهُ الخلود.. إنهُ الأبَديّة..
أبكي كثيراً، عندما لا أعَبّرُ لها عن حُبّي.. فتبادِلُني بالصّمْتِ، أو، التجاهُل.. أو، أنني أنا التي
أطمَحُ منها إلى البَوحِ المُباشَر، وبوضوحٍ أكثر.. كي أتأكّدَ أنها تحبّني..
ربما هي ترى أنّ ذلكَ غيرُ ضروريّ.. فالحُبُّ لا يُعرَّف..
إنهُ شعورٌ بالرِّضى، والطمأنينة، عندما تلتقي بمَن تحبّ..
وقد تدّعي أنّ الحبَّ ليسَ قولاً مُباشِراً، فقط.. فكثيراً ماكانتِ كلماتُ الحُبِّ، خاليةً من
مَضمونِها.. لذلكَ، هيَ تُترجِمُ حُبّها لي، من خلالِ أفعال.. ربما لا تُتعِبُ نفسَها بالتعبيرِ عنها
بالكلام.. لأنها تظنُّ أنّ الكلامَ عاجزٌ عن ترجَمَةِ العواطف..
هل هيَ مَنْ تقولُ هذا الكلام..؟! أم أنا التي أقولُه، لأوهِمَ نفسي أنها تحبّني.. فيمنحُني حبُّها
مُبَرِّراً لوجودي.. ودافِعاً لي للإستمرار، في هذهِ الظروفِ القاسية..؟!

***

سأرسمُ لها عِدّةَ صورٍ، ماتزالُ عالقةً في نفسي.. سأحاولُ أن أكونَ مُحايِدَةً، وأكتب تحتَ كلِّ
صورةٍ، عِبارَةَ (بدونِ تعليق)..
لن أجبرَكَ أن تحبّها، كما أحبَبْتُها أنا.. فقد تكونُ مَعاييرُ حبّكَ، مُختلفةً عن مَعاييرِ حبي..

44
فقط.. أرجوكَ –قارئي العزيز- أن تتمَلّى وَجهَها.. وأن تعيرَها بعضَ اهتمامِك.. عَلّكَ تعرفها..
فتصبح صديقتَك..

***

ثلاثُ مَراحِلَ، مَرّتْ بها خلالَ القرنِ العشرين.. سأحاولُ أن ألتقطَ لها عَدَداً منَ الصّوَر، في كلِّ
مَرحَلة..
وسأبدأ مع بدايةِ القرن..
وقبلَ أن أبدأ بالتصوير.. سأخبرُكَ – عزيزي القارئ – أنني رأيتُها، مَرّةً، تائهة.. ضائعة..
ممَزّقةَ الثياب.. مريضة.. باكية..
تقدّمتُ نحوَها، بحنوِّ العاشق.. شَهَقَتُ، عندما رأيتُها على تلكَ الحالة.. سألتُها : – مَنِ الذي
فعَلَ بكِ هذا..؟! لكنها لم تُجِبْ..
ألحَحْتُ عليها :
– باللهِ عليكِ.. قولي لي.. ماذا بكِ..؟!
– وما الذي ليسَ بي..؟!
تنفّسْتُ ملءَ رئتيّ.. استعَدْتُ استقامَتي.. تهَلّلَ وجهي، عندما أجابَتني على سؤالي..
لمَحْتُ منها بعضَ الثقة.. فسألتُها – بحَذَر – :
– ما الذي يُشقيكِ أكثر..؟!
قالتْ :
– هُويّتي..
– وما بها هُويّتُكِ..؟! هل فقَدْتِها..؟!
– مَزّقوها..
طمأنتُها :
– لا تخافي.. معي منها الجزءُ الأكبَر..
التفَتَتْ إليَّ، باستغراب..
ابتسَمْتُ..
لكنّها لَوّحَتْ برأسِها، غير مُصدّقة..
هَزَزْتُ رأسي عِدّةَ مَرّاتٍ إلى الأمام، كي أؤكّدَ لها قولي.. لكنّها أشاحَتْ بوَجهِها عني،
وأسرَعَتْ لاهِثَةً..

45

نادَيتُها :
– حبيبتي..!!
لم تلتفِتْ.. ولم أيأسْ..
أسرَعْتُ خلفها.. نركضُ بينَ الجبالِ، وفي الوديانِ، وعلى التلال..
عَلِقَ رِداؤها الطويلُ في أشواكِ العَوْسَج.. كانتْ فرصَةً مناسِبة، لألتقِطَها من شَعرِها الذي
كانتِ الريحُ ترسِلُهُ نحوي بتماوُجٍ يزيدُهُ جَمالاً وفِتنة..
صَرَخَتْ.. وفتَحَتْ فمَها..
فحَوّلتُ أصابعي شَبَكَةً فوقَ شَفتيها.. مَنَعْتُ عنّي شَتيمَةً مؤكّدَة..
كانَ التعَبُ والإرهاقُ قد نالَ منّا نحنُ الإثنتين..
أمسَكْتُها من خصرِها.. وجَلسنا في ظلِّ شجَرَةِ بَلّوطٍ مُثمِرة..
ألقتْ برأسِها المُثقَلِ على كتفي..
سألتني :
-لماذا تطاردينني..؟!
-لأنني أحبّكِ..
رَمَقتني بعَينينِ مَنَحَهُما التعَبُ المزيدَ منَ البريقِ والسّحر..
نزلتْ دَمعَةٌ فوقَ صخرةٍ سوداء.. كادَتْ تثقبها..
بأصابعيَ العاشقة، مَسَحْتُ خدّيها..
رَفَعَتُ كَفّها المُلقى على فخذي.. قَبّلتُهُ منَ الجهَتَين..
استكانتْ قربي..
شعَرْتُ بثقلِ جسمِها فوقَ جَنبي.. لكنّها مَنَحَتني المزيدَ منَ الدفء..

***
– أيلولُ، يمنحُنا المزيدَ منَ الحزن..
– بل، المزيدَ منَ القلقِ، والشفافية..
– أيلولُ، يُبكيني.. لا أعرفُ لماذا..؟!
– بل، هو يدفعُنا للتفكير.. يُحثّنا على تدارُكِ ما فاتَنا.. فيمنحُنا التجَدُّد.. يبعثُنا من
رَمادِنا..

46

– أنتِ حالمَة..؟!
– وهذا مُبَرّرُ وُجودي..
– أحلامُ الشعراءِ، أوهام..
– بل، هيَ مُقدّمَةٌ للواقِع.. وأنا أحلمُ أنكِ ستستعيدينَ هُويّتَكِ.. فالطغاةُ لم يُمزّقوا منها إلاّ
الوَرَق..

***

صورة1
كانتْ "كلثوم" تحملُ جَرّتَها، تقصُدُ "عينَ الحَبَق"، عندما لاحَقَها الجنديُّ الفرنسيُّ
"العَبْد" منَ المُرتَزَقَة "السنغاليّين".. لَكَزَها في ظهرها.. فأسرَعَتْ أكثر.. أسرَعَ
خلفَها، وبندقيّتُهُ في كتفِه.. لاحَقَها حتى وصلتِ العَين، وهوَ يُراوِدُها عن نفسِها، وهيَ
تهربُ منهُ، ولا تظنُّ أنَّ لها مَفرّاً.. فهوَ يحملُ سلاحاً قاتِلاً، وعضلاتٍ مَفتولةً، وجوعاً
قديماً لامرأة..
استنجَدَتْ "كلثوم" بالمَزارِ الذي تحيطُ بهِ غابةٌ منَ السنديانِ العتيق :

-دَخيلَكْ، يا "شيخ غنّام".. احمِني.. وابعِدْ شَرَّ هذا العَبْدِ عنّي..
وهُرِعَتْ لتختبئَ خلفَ الصندوقِ الحَجَريِّ الذي يرقدُ تحتَهُ جثمانُ الشيخِ الجَليلِ، الذي كانَ
ينصُرُ المَظلومينَ في حياتِه.. وما يزالُ يلوذُ بمقامِهِ كلَّ مَظلومٍ، أو مُحتاج..
شيءٌ ما.. ربما خشوع.. أو خوف.. أو بقيّةُ أخلاقٍ، رَدّتِ الجنديَّ عائداً من حيثُ أتى.. رأتهُ
"كلثوم" مُطأطئاً، يركُلُ الحَصى فوقَ الدّربِ العائد، واليأسُ والخزيُ يزيدُ من قَتامَةِ وَجْهِهِ،
وانكِسارِه..
حزنَتْ عليه.. فواسَتْهُ، بصوتها الحنون :
(-يلعنْ أبو صاحبو.. مو دارِجْ عندنا..)
ملأتْ جَرّتَها بسلام.. قَبّلَتْ صندوقَ المزارِ.. ونذَرَتْ أن تشعِلَ البَخورَ فوقَ مقامِهِ، عندَ عَودَتها
الثانية..

***

صورَة2
عندما داهَمَ أحدَ بيوتِها، الجنودُ العثمانيّونَ القُساة.. عَلَّ أحَدَ الرجالِ ما يزالُ مختبئاً في أحِدِ
البيوت.. إنهم يجمعونَ الرجالَ ليرسلوهم إلى الجُنديّة الإجبارية، لمُحاربةِ أهلهم وأبناء
وطنهم،أو..!! كمُرتزقة..
كانَ اثنانِ منَ الرجالِ مُختبئَينِ في الدار.. يحاوِلانِ حِراسَةَ الأطفالِ والنساءِ والعجائز
والمَرضى، والمَؤونةَ القليلة.. وعندما سَمِعَتْ "سَليمَة" أصواتَ أقدامِ جُندِ الأعداءِ تتقدّمُ باتّجاهِ
بيتِها.. هي التي اعتادَتْ على تمييزِ الأصواتِ بفِراسَةِ امرأةٍ جَبَليّة، استدعَتها الحاجة.. أومأتْ
للرّجُلَينِ بالإختباءِ في غرفةِ التّبْنِ، خلفَ الدّوابّ.. وأمسَكَتْ "بَدْرَة" ابنةَ جيرانها، ذات الثلاثةَ
عشرَ عاماً.. والتي كانتْ تستعيرُ رَغيفَ خبزٍ، وبعضَ "الرّوْبة"، بسُرعةِ البَرْقِ، وَضَعَتْ يَدَها

47
على فمِ الشّابّةِ الصغيرة.. وأمسَكَتْها من كَتِفها، ووضَعتها تحتَها، وجلسَتْ فوقها، كأنها تجلسُ
على "قِرْمَةِ" حَطَبٍ، أو "جَلّوق" فوقَ كُرسيٍّ عتيق.. فرَشَتْ ثوبَها الواسِعَ فوقَها.. وأمَرَتْها
بالهُدوءِ التامّ.. صاحَتْ بالجنود :
-لماذا تفعلونَ هذا..؟! قلتُ لكم، ليسَ لدَينا رِجال..!!
لكنّهم واصَلوا البَحْثَ، وتكسيرَ "السّدادينِ" المصنوعةِ منَ الطينِ والقَشّ، وإفراغِ مُحتَوَياتِها
منَ الحُبوبِ، فاختَلَطَ طعامُ البَشَرِ، بعَلَفِ الحيواناتِ، وروثِها.. والأبقارُ، والأنعامُ تعجُّ وترتعِدُ
خوفاً من هؤلاءِ البهائمِ، أو، الوحوشِ الهائجة..
-أينَ زوجكِ..؟!
-ولماذا تلكزني هكذا..؟! قلتُ لكَ ألفَ مَرّة، أخَذتموه.. أخَذتموهُ، ولمْ يَعُدْ.. فلماذا تُتعِبونني
بالبَحثِ عنهُ مُجَدَّداً..؟!
لَكَزَها ثانيَةً في صَدْرِها.. صاحَتْ به :
-يلعن أبوك.. اخرج الآن..
وخَرَجَ.. بل، خَرَجوا بَعدَما خَلّفوا البيتَ مَقلوباً رأساً على عَقِب.. قامَتْ "سَليمَة" من فوقِ
"بَدْرَة" التي كانَ وَجْهُها كالبَدْر.. أعطَتْها حاجَتَها، ورافَقَتها، مُخفيَةً إيّاها تحتَ ثوبِها، حتى
دَخَلَتْ بيتَهم..
ظلّتِ المَرأةُ تُواعِدُ الجنودَ، مَرّةً بعدَ أخرى.. لكنها وُعودٌ خادِعَة.. كانتْ توهِمُ أحَدَهُمْ، أنها مُلْكُ
صديقه.. فيخشى الإعتداءَ على "مُلْكِ" مَنْ هوَ أقوى منه.. لكنها – في الحقيقة – لم تكنْ
صَديقَةَ أحدٍ، ولا مُلكَ أحَد.. ولم يَمْسَسْها أحدٌ، طيلَةَ حياتِها التي تجاوَزَتِ الخامسة والثمانين،
إلاّ زوجَها "محمّد".. ولم يَعرفْ هوَ سِواها.. لكنّها – بقامَتِها الفارعَة – وقوّةِ صَوتِها،
وقَسْوَةِ مَلامِحِها، وصَلابَةِ عودِها، الذي استطاعَ الصمودَ كلّ هذا العمرِ، تحتَ لهيبِ الشمسِ،
وقسوَةِ الرّياح، ووُعورَةِ الجبال.. استطاعَتْ أن تُساهِمَ في "الثورَة" على طريقتِها الخاصّة..
مُخلِصَةً لمَبادِئِها.. وَفيّةً، مناضِلة، حنونٌ على الضعَفاء..
***

صورة3
في زَمَنٍ ما.. كانتْ حبيبتي صَبيّةً.. قد بَلَغَتْ سِنَّ النضج.. ناداها جَسَدُها.. فهَدّدَتهُ.. طرَقَ
أبوابَها جائعاً.. فأمهَلَتْهُ قليلاً.. لكنّهُ مَلَّ الإنتظار.. فضَجَّ في فضاءِ روحِها.. وراحَ يصخَبُ،
ويَستجدي.. استسلَمَتْ لمَطالِبِهِ العادِلة.. وراحتْ تبحَثُ عَمّنْ يَليقُ بإتمامِ المَهَمّة، وتلبيَةِ
حاجاتِ ذلكَ الجَسَدِ الصاخِبِ، الصارِخ.. وعندما لم تجدْ رَجُلاً يَليقُ بذلكَ الضّجيج.. عندما لم
تجدْ مَنْ يملأ فضاءاتِها الرّوحيّة.. انكفأتْ.. وضَغَطَتْ على صُراخِ ذلكَ الجَسَد، حتى كادَ
يختنق..

48

بكَتْ عليهِ، ومِنهُ.. لكنّها هَدّدَتْهُ :
-لو قَتَلَتْكَ الرّغبَة.. بل، لو قَتَلَتنا معاً.. لنْ أُسْلِمَكَ إلاّ لمَنْ يُغذّي فضاءاتنا المادّيّةَ، والمَعنويّة..
بنفسِ القَدر.. لن يمْسَسكَ ذكَر… اهدأ.. فلا بُدَّ أن أحظى يوماً ما، بذكَرٍ، رَجُلٍ، إنسان.. يفيضُ
حَناناً، ويشمَخُ عِزّةً وقوّة.. عندها، سألبّي حاجَتَنا المُشتَرَكة.. وسأتعَرّى أمامَهُ، ليكونَ رَجُلي..
رَجُلي الوحيد، الذي يُكمِلُني، وأكمِلُه.. نتّحِدُ معاً، كاتّحادِ الغيمِ بالمَطَر.. كالجبالِ بالطّرُقاتِ
الوَعرة.. كاتّحادِ الزّهرِ بالأريج.. والله، معَ الحياة..
***

صورة4
عندما هَجَمَ الجَرادُ، والتَهَمَ ما خَلّفَهُ المُستعمِرُ، من أخضرَ، ويابس، وترَكَ الحقولَ، والأجسادَ،
والأرواحَ، جَرْداءَ قاحِلَة.. في ذلكَ الزمَن.. حَرّمَ عُقلاؤها ذَبْحَ إناثِ المَواشي، حِرْصاً على
زيادَةِ المَواليدِ، وحِفظِ الأنواع..
وعندها، أيضاً.. حَرّموا أكْلَ بعضِ أنواعِ الطيورِ، والحيواناتِ البَرّيّةِ، والبَحريّة.. كالأرانب..
وغيرها.. لنفسِ السّبَب..
وفي ذلكَ الأوانِ، حاوَلوا مَنْعَ الناسِ من رَعيِ المواشي في بَعضِ البِقاعِ الخضراءِ، أو قَطْعِ
الأشجار.. ولم يجِدوا بُدّاً من تخويفِ العامّةِ، منَ الإقترابِ منْ "وَقْفِ" المَزاراتِ، أو التّعَدّي
على تلكَ المساحاتِ الخضراءِ، والأشجارِ المُعَمَّرَةِ، التي تحيطُ بالمَقامات.. حِفاظاً على الطبيعةِ،
ومُحاوَلَةً لاستعادَةِ التوازُنِ البيئيّ، كانتْ قدْ أفقَدَتهم إياها الحُروبُ، والجَرادُ، والأزمِنَةُ الجافّة..
احتفَلوا بالأعيادِ، على طريقتِهِمُ الخاصّة، التي تتناسَبُ معَ أوضاعِهِمُ المَعيشيّة.. جَعَلوها
مُناسَباتٍ لأداءِ صلاةِ الجَماعَة.. ولمُصالحَاتِ المُختَصِمين.. ومَواسِمَ للفرَح.. يذبَحونَ فيها
بَعْضَ الماشية، والدّجاج.. ويطبخونَ عليها "البُرغُل " مع "الحمّص".. إلى جانبِ "اليَخْنة"
المكوّنة من اللحم والبَصَل والزيت.. يجعلونَ الطّبْخَ بشكلٍ جَماعيّ.. القريةُ كلّها تجتمعُ في بيتٍ
واحد.. يَجمَعونَ الذبائحَ مع بعضِها، وكذلكَ البرغل والحمّص والبصل والزيت.. وكذلكَ زكاةَ
المال..
هذا مالُ الله..
يُصَلّونَ جَماعَةً.. ويأكلونَ جَماعَةً.. ويوزّعونَ الزكاةَ على المُحتاجينَ، والأطفالِ، الذينَ قد لا
يرَونَ النقودَ إلاّ في الأعياد.. أو، قدْ لا يتناوَلُ أحَدُهُمُ اللّحْمَ، سوى منَ العيدِ، إلى العيد.. ولأبناءِ
السبيلِ نصيبٌ من الطعامِ، والزكاة..
يجتمِعونَ في شَهرِ رَمَضان، ليُصَلّوا صَلاةَ العشاءِ، جَماعَةً، في بيتِ أحَدِهِم.. يرَونَها مناسَبَةً
للتلاقي، والتراضي، وفَكّ الخلافاتِ، والتفاهُمِ فيما بينهم، وتبادُلِ الأحاديثِ، والأخبارِ الخاصّة،
والعامّة، في شؤون الحياة.. ثمّ يعودُ كلُّ واحِدٍ منهم إلى بيتِهِ، شاعِراً بأهميّةِ الإجتماعِ على
خيرِ الجميع.. ويُرَدِّدون : (المَجالِسُ.. مَدارِس)..

49
كانَ العيدُ يحملُ مَعنىً إنسانياً سامياً.. ومناسَبَةً لملءِ البطونِ الجائعة، والأفواه الفاغرة..
والتكافُلِ الإجتماعيّ، الذي لم ينقطِعْ عنهُ الناسُ، يوماً.. لكنّهُ يبدو جَليّاً في الأعياد.. ويعوّضُ
النّقصَ خِلالَها.. فقد تضيعُ حُقوقُ البَعْضِ، في زحْمَةِ اللهاثِ عن لقمةِ العيشِ الكريمة، فتأتي
الأعيادُ لمُراجَعَةِ ما مَضى، وتصحيحِ الخَلَل، وتثبيتِ الصّح..
***

صورة 5
كانَ هناكَ "عِدْلٌ " واحدٌ للقرية.. يستعملهُ الأهالي، والأفضليّةُ للأكثر حاجةً.. و "شرْوالٌ "
واحدٌ أيضاً.. يلبسهُ المُسافر.. و (تنكةُ) صفيحٍ واحدة.. وكذلكَ (تنّورٌ) واحد.. تخبزٌ عليهِ
القريةُ كلّها، حَسبَ الدَّوْر.. دون أيّ خلافٍ على الدَّوْر.. فبالطبع الدّور الأول لمن (طَلَعَتْ) أيّ،
اختمَرَتْ عَجنَتُها أكثر.. وكذلكَ (بئرٌ) واحِدٌ للقرية.. يستعملُ الأهالي ماءَهُ لطينِ الأسطحة.. أو
أيّةِ حاجَةٍ مُماثلة..
وطينُ الأسطحةِ، أيضاً، كانَ جَماعياً.. يبدؤون بالبيتِ الأكثر حاجةً للطين.. وكذلكَ كان هناكَ
(حَبْلٌ) واحد.. و (خْناقٌ) واحد.. و (كَيلَةٌ) واحدة.. و(طاحونٌ) يدَويّةٌ واحدة (جاروشَةُ) حُبوبٍ
واحدة.. و (دولابٌ) واحِدٌ، لحَلِّ شرانقِ دودِ الحَرير…. إلخ..
هذهِ الروحُ الجَماعية، كانتْ تمنحُ الجميعَ الشعورَ بالدّعمِ، والإنتماءِ إلى الجَماعة.. وتُشعِرُ
الجميعَ بالقوّة.. أنهُ إذا احتاجَ أيّ إنسانٍ منهم لأيِّ دَعْمٍ كان، مادّيٍّ، أو مَعنويّ.. فسيجدُ
المُساعَدَةَ من أيّ شخصٍ آخرَ في القرية.. بشكلٍ عفويٍّ، طبيعيّ.. كأنهم ضمنَ عائلةٍ واحدة..
(الجار.. ولو جار)

***

كثيرةٌ هي الصّوَرُ التي التقطتُها لحبيبتي.. سأطْلِعُكَ عليها، لاحِقاً، يا قارئي العزيز..
سألتُها :
-وهلِ الهُويّةُ التي مَزّقَها الطّغاةُ، هي ما تبحثينَ عنهُ، يا حبيبتي..؟!
لماذا لم تبحثي عنها في المَعنويِّ فينا، نحنُ أبناء حَضارتكِ..؟!
هلِ الهُويّةُ إلاّ مُمارَساتِ الشعوبِ، وثقافتِها، التي تتجَلّى في علاقاتها الإنسانيةِ معَ الناسِ،
والحياةِ، والكائنات، والكونِ كُلِّه..؟!
ثقي، أيتها الغالية، أنّ هُويّتَكِ محفوظةٌ في تاريخِكِ المَجيد.. في جيناتِ أبنائكِ، وأهلك،
وأحفادِك.. آتيةً من مَنابِعِها النقيّة.. مُتفاعِلَةً مع الكونِ، والثقافاتِ الأخرى.. إلى حَدِّ المُساهَمَةِ
في إثرائِها.. تعطي وتأخذ.. من دون الذوَبان في الآخر.. فالحفاظُ على الهُوية، ليسَ تعصّباً..

50
بلْ هو حِفاظٌ على الخصوصيّة.. والخصوصيّةُ جزءٌ من العموميّة.. لا تشبهُها.. بلْ، تزيدها
جمالاً، وتجَدُّداً..
لماذا تخافينَ من إظهارِ هُويّتِكِ، يا حبيبتي..؟!
-حِرصاً عليها منَ الغُرَباء..
-هل اعتدَيتِ،يوماً، على حَقِّ أحدٍ من هؤلاءِ الذينَ تخشَينهم..؟!
-أبداً.. لا والله.. فقط، دافَعْتُ عن حَقي في الحياةِ الحُرّةِ الكريمةِ، فوقَ أرضِ آبائي، وأجدادي،
الذينَ أورَثوني إياها منذُ آلافِ السنين..
-إذن.. أبرِزيها للعَيان.. وإلاّ اعتبَرتُكِ جَبانة..!!
-أبرِزيها أنتِ.. فقد بلغتُ منَ العُمرِ عِتيّاً.. وقد لا يُصَدّقُ الناسُ كلامَ عجوزٍ خَرِفَة..
-أنتِ لا تشيخين.. بل، تتجَدّدينَ باستمرار.. لكن.. امسَحي الغُبارَ عن وَجهِك.. فقد أخفى بعضَ
مَلامِحِكِ الجميلة..
الكاتبة:فاطمة صالح صالح
المريقب

_____________________________________________________

رقائقُ النور
 __________
رقائقُ من وسَن الضياء، تشف، كلمسةٍ حانية، على رؤوس جبالنا الخضراء، وتلالنا الناهضة،
تمسح بها الشمسُ الغاربةُ جباهَنا المعروقة، رغم غزارة أمطار هذا الشتاء، الذي يحمل معه
أحلام رؤانا، مغلفة بضبابٍ كثيفٍ، ورعدٍ، وبرقٍ، وهطول..
قمْ يا أيها النائم في بطونِ الأرض..
انهض، واعتلِ القِمم..
واصرخ بأعلى مدى..
أيقظِ الحالمين..
قل لهم : لقد حان وقت اليقظة، واستلام حبال الأشرعة، واستقبال جبهة البحر الزرقاء..
حان وقت الغوصِ في الأعماق، واستخراج أجمل الدرر، وأثمنها، وأبهاها..
لا وقت للنوم، بعد الآن، يا سكان القِمَم..
لا وقت للعناء..
الوقت صار إلى فرحٍ، ونشاطٍ، وأغاني فلاحين، وزغردة صبايا الأعراس الريفية، وزيارات
الأولياء..

51
 قم، يا أيها النائم.. وامسحْ جبين الشمسِ، بكفٍ من عطاء..امشِ معها، ولا تبالِ.. فطريقها دائمُ
الضوءِ، وشروقها يفتحُ الروحَ على مصراعيها ، ويغرسُ فيها الأمل..
لا تنحَنِ، سوى لتجني، وتعطي.. ففي العطاءِ غِنى..
 أيها الغني، اشحذ الهِمَم.. ولا تكتفِ بعطاءِ المادة.. فالروحُ عطشى للمَعنى.. وقد قيدتها أغلالُ
المادةُ، حتى العَدَم..
 امنحِ الروحَ معناها، وخلودَها.. فلم تُخلَق سوى للعطاء.. للخلود.. للكلي الخضرة.. الأعظم،
والأقدَر.. للنورِ اللامحدود..
قم، يا أيها النائم..
 فقد استيقظ الليلُ، من أولِ همسةِ نور.. وراحَ يعطي.. ويعطي.. ويعطي.. ويخفي تحت جناحه،
همومَ الناس.. يتركها تستريحُ في حضنهِ الخصيب، لتنعِشَها حبائلُ النورِ الخالدة، المُتجددة..
 قمْ، وانهَضْ، واكدَحْ، واستنشِقِ العبيرَ من أنفاسِ الصباحِ، الذي تبشرُ بهِ هذه الرقائقُ الراحلة،
لتبزغَ من شرقِنا العريق، وتفتحَ المدى للضياءِ الجميلِ، والجليل..
الصبحُ بانتظارِ التجدد..
فانهضْ، وغير مَسارَ الحياةِ، نحوَ الأبهى، والأرقى، والأنقى..
أيها الحالِمُ بالإرتقاء..
 _________________________________________________
فاطمة
غروب شمسِ الإثنين
الثاني من كانون الثاني 
من عام 20177م

بارعة
أخيراً.. استطاعتْ "بارعة" تحقيقَ حُلُم أساسيّ من أحلامها الواسعة… هي حَقّقتِ الكثيرَ
مما كانت تطمحُ إليه، لكنّ هذا الحُلُمَ كانَ أهَمّ حُلُم.، أو، كانت تعتبرُهُ الحٌلمَ الأساسَ، الذي
تستطيعُ الإنطلاقَ منه إلى بقيّةِ أحلامها.
(مصائبُ قومٍ،عندَ قومٍ،فوائدُ ).. هذا ما يترَدّدُ في نفسيَ الآن، بعدما أخبرَتني صديقتي بأنّ
"بارعة"ستتزوّج من الأرمل"فؤاد"الذي توفّيَتْ زوجتُهُ وأمّ أبنائهِ وبناته، منذ عدّةِ
أشهر،بالمرضِ الخبيث..قالتْ أنهُ كانَ يعاملُ زوجتهُ بكلّ طيبَةٍ وأمانة،طيلةَ السنواتِ التي
عاشاها معاً،وتقاسَماها، بحُلوِها ومُرّها، مع أبنائهما الذين تزوّجوا، وأطفلوا ..لم تستطعْ"
مَروة" أن تفرحَ بأحفادها كثيراً، إذ، سُرعانَ ما مرضتْ،وعانتِ الكثيرَ أثناءَ مرضها، والتنقّلِ
بين عيادةِ طبيبِ، وآخر.. مشفى، وآخر.. حتى اقتلعَها المرضُ، بعدَ عدّةِ سنواتٍ، من بين
أسرتها.. بكاها الجميع.. و في الوقتِ نفسِه،حَمَدوا اللهَ تعالى، لأنّهُ أراحَها من عذاباتها
المُضنية، التي لن تنتهي إلاّ بالموت….
عندما اكتشفتِ المرضَ، أو، شخّصَهُ لها الأطباء،كان قد استفحَلَ، وانتقلَ عَبْرَ أوردَتها
وخلاياها،إلى باقي أعضاء الجسَد، فأتلَفَها..
لكنَ "فؤاد" الزوج الطيب، الذي كانَ يرى في "مَرْوة" زوجةً صالحة، وأمّاً متفانية، تنسى
نفسَها لتؤمّنَ لهُ الجوّ المناسبَ، والحياةَ السعيدة، بعدَ عودتهِ كلّ عدّةِ أيامٍ من عَمَلهِ القاهر.

52
وفي غيابهِ تعتني بالبيت والأبناء، وتتواصَل مع الجيران، ومع أهلها وأهلهِ، بكلّ حبٍّ واحترام.
رأى أنّ عليهِ أن يقتنعَ، أخيراً، بعروضِ مَن حَولهُ، بالزواجِ مرّةً أخرى.. (أنتَ تُعتَبَرُ أرمَلاً،
منذ سنواتٍ، يافؤاد.. ). شعرَ بالصراعِ بينَ حاجتهِ المُلحّة لشريكةٍ تقاسمُهُ حياةَ العزلةِ، بعدَ
تقاعُدِهِ من عمله، وعودتِهِ –بجَسَدٍ مُنهَكٍ، وروحٍ مَشروخة، مُشَتّتة-.. وبين وفائهِ لشريكةِ
حياتِهِ، التي أحَبّها وأحَبّتهُ، وأخلَصا لبَعضِهما أكثرَ من ثلاثينَ عاماً..
هاهيَ "بارعة" تتقدّمُ –ببراعَتِها المُعتادة – وتتقرّبُ من عائلة "فؤاد"، ومن عائلة
المرحومة "مَرْوة" أكثرَ، وأكثر.. تتكلّم عن أنها لم تكنْ تنوي الزواجَ، بعدَ هذا العمر، الذي
تعوّدتْ أن تعيشه عزباء، حُرّة، طموحة، جَموحة.. ترسمُ حُلماً، وتسعى إلى تحقيقهِ بكلّ ما
أوتيَتْ من وسائلَ وطاقات.. حتى أنها لا تبالي إن كان ذلك على حساب أهلها،
وزميلاتها،وأخواتها اللاتي نِلنَ نصيباً من التعليم أكثرَ منها.. لكنها كانت الأجملَ بينهنّ..
توَزّعَتْ شُهرتُها في الصحفِ، والمجلاّت، مُرْفَقةً بصُوَرها الرائعة، وجَمالها الأخّاذ..
هي تعرفُ كيف تعتني بنفسها، وجَمالها.. وكيفَ تطوّرُ عمَلها وإبداعَها بما يُرضي السوقَ
ومعارضَ الرسمِ الفرديّة، والجَماعية التي تشاركُ بها في المهرجانات.. وتعرضُ لوحاتِها
(لوحات أخواتها) وتتبنّاها كلها، لتنالَ المزيدَ من الشُهرة، والإعجاب.. تعرفُ كيف تصطادُ
الزبائنَ، تغريهم بشراءِ لوحاتِها، بغنَجٍ أنثويّ مُبَطّن، ليَظهرَ حَياءً مُحَبّباً للرجالِ الجائعينَ إلى
تناوُلِ أطعمةٍ جديدة، تجدّدُ حياتهم، وتكرّسُ رجولتهم التي باتوا يخشونَ عليها من الأفولِ، بعدَ
عمرٍ من الحياةِ الأسَريةِ، والعمَلية، التي كانت في بدايتها سعيدة.. وأصبحَتْ مُمِلّة، ومَدعاةً
للضجَر، نتيجةَ الرتابة.
"بارعة".. استمالَها الكثيرون.. لكنّ أحداً لم يستطع الظفرَ بها، وقطْفَ أنوثتِها البِكْر،
سوى "عدنان"..
كانتْ في العاصمة، تشاركُ في مُلتقى إبداعيّ.. وكانَ يُحاضِرُ فيهم عددٌ من "الأساتذة" في
مختلَف مجالات المعرفة.. تقرّبَتْ من الكثيرين.. وتقرّبَ منها الكثيرون.. لكن.. كلّ ذلكَ لم يُثمرْ
إلاّ المزيدَ من العَطش.. والماءُ متوفّرٌ، وبسَخاء.. لكن… هذه المرة يا "بارعة" عليكِ أن
تبرَعي أكثر.. عليكِ أن تتمَنّعي، وتنسي ظمأكِ المُعَتّق.. أنتِ الآن أمامَ "الدكتور عدنان"..!!
"الدكتور عدنان" بنفسِهِ يغازلكِ.. وهل لكِ أن تصمدي أمامَ كؤوسِهِ المُترَعة..؟! هو، بذاتِهِ
مَن يُغريكِ بتبادُلِ الأنخاب.. هو ظامئٌ.. وأنتِ أشدّ ظمأ.. مالكِ أيتها المَخبولة..؟! هل ترفضينَ
الحياةَ.. وتبقينَ قابعةً في ظلامِ الموتِ الذي تحاولينَ تكسيرَ أسلاكهِ الشائكة، التي تفصلكِ عن
الحياة التي ترغبين..؟! يالكِ من ماكرة..!! يالكِ من مُدّعية..!! منافقة..!! ترغَبينَ..
وتُحجِمين..!! (كأنكِ لستِ من هذا العالم… أنتِ لستِ حَيّةً كما تدّعين.. ).. (بل، إنني حَيّة..
وأنتَ ترى بأمّ عينيكَ، يادكتور ).. (كذّابة).. (لن أسمحَ لكَ بهذا التطاوُل ).. (أنا سأسمحُ
لنفسي بتقبيلك..).
وجَرّها "عدنان" من زندها.. أدخَلَها مَلكوتَ إغراءاتهِ من بابها المُغلَق.. فتحاهُ سويّةً.. لكنّ
يديهِ كانتا أقوى.. (أنا لا أقبَلُ بهذهِ العلاقة غير الشرعيّة، يادكتور ).. (أنا لستُ دكتوراً.. أنا
عَبْدُكِ.. أنتِ من الآن فصاعداً زوجتي.. زوجتي الوحيدة. حبيبتي الوحيدة.. هل سمعتِ..؟! )..

53
(وزوجَتُك..؟! وأبناؤك.. يادكتور..؟! ).. (قلتُ لكِ، زوجتي مريضة.. مريضة، مريضة منذ
سنوات… وما لكِ بأبنائي..؟! كلّهم كَوّنوا أسَرَهم الخاصّة… تعالي.. تعالي يا حبيبتي.. يا
عشيقتي، وزوجتي الوحيدة.. يا حياتيَ الرغيدة.. أقْدِمي.. أقْدِمي.. لا تخافي.. )……….
واستسلمتْ "بارعة".. أفاضَتْ عليهِ كلّ ما اختزنتهُ من أشواقٍ، وحنين… من حِرمانها… مالم
يذقْهُ في حياتهِ الطويلة، التي شارَفتْ على السبعين.. وأذاقَها ما لم تذقْهُ في عمرها الذي فتَحَ
أبوابَ الحادية والثلاثين، على مصراعيه………… مرّة….. مرتين…. ثلاث………………..
ثمّ……..
اختفى "الدكتور"… غابَ عن حياةِ "بارعة".. التي أكثرَتْ من زياراتها إلى العاصمة، بحثاً
عنه.. بزياراتِ (عمل) كما كانت تقولُ لأهلها وإخوتها.. الذين كانوا يزدادون إعجاباً بابنتهم،
وأختهم البارعة….!!
في أحدِ الأيام.. وبعد أكثر من عام من الترَصّد، والبحثِ في كلّ وسائلِ الإعلام، وبكلّ
قرونِ الإستشعارِ التي تملكها .. قرأتْ –بمساعدةِ أختها- أنّ "الدكتور عدنان" الإختصاصيّ
في كلّ شيء.. كلّ العلوم، والمعارف، خصوصاً الغيبيّة، والفلكية، و ما لايمكن إثباتَهُ بالعقل
المحدود.. سيزورُ منطقتها، بدعوة من المركز الثقافي.. طارَ قلبُها.. مرضتْ.. لم تستطع النوم
طيلةَ أيامِ الإنتظار..
استأجرتِ السيارةَ الوحيدةَ التي تعملُ على خطّ قريتها النائية، ومركز المنطقة.. وطارتْ بها
نحوَ "عدنان".. نحوَ رائحةِ الرجولةِ التي مازالتْ تعبَقُ في كيانها الأنثويّ الضئيل.. رائحةِ
الرجولةِ التي أحيَتها- يوماً ما -.. ليسَ بعيداً جداً…
كيفَ سيكونُ اللقاءُ، يا "بارعة"..؟!
جلَستْ في المقعدِ الأماميّ، مُقابلَ المنصّة.. اختارَتِ الزاويةَ اليمينية.. كانتْ ترتدي الأخضرَ
الرائقَ الذي قابَلتْهُ بهِ أوّلَ مرة.. ألقَتْ بجسَدِها النحيل فوقَ المقعَد.. روحُها مُشَتّتة.. قلقة..
ظمأى.. خائبة.. تتوسّلُ ما تحلمُ بهِ من لقاء.. أكيد.. أكيد هو مُتلهّفٌ لرؤيتِها أكثرَ منها.. أكيد،
يحلمُ أن يأخذَها بين أضلاعهِ الهرمة، التي ستعودُ شابةً عندما تمتزجُ بعذوبةِ وطراوةِ
شبابها.. (أنا بحاجةٍ إليكِ، يا بارعة) طالما ردّدها على مسمعها.. (سنلتقي دائماً..يا…….)..
(لستُ دكتوراً.. أسَمعتِ..؟! لا تعيديها مرةً أخرى.. أنا عدنان.. عدنان، حافْ.. قتيلُكِ يا
بارعة.. سيّدتي أنتِ.. زوجتي.. امرأتي الوحيدة.. مكملةُ وجودي.. معيدةُ شبابي..).. منذ أكثرَ
من عام، وهي تردّد في روحها هذه المعاني، وهذه العبارات التي ترجَمَها على أرض الواقع،
في كلّ لقاءٍ من لقاءاتهما الثلاث..
نسيَتْ عمَلها.. أهمَلتهُ.. تجاهَلتْ أسرَتها.. مجتمعَها..شهرتَها.. رفضتْ العديدَ من الدعواتِ إلى
ملتقياتٍ متنوعة، لكنّ (حبيبها) بعيدٌ عنها..
دخلَ الدكتورُ برِفقةِ المسؤولين، ومديرِ المركز.. الصالةُ مليئةٌ بالمعجَبين، المتلهّفين إلى
المزيدِ منَ المعرفة، التي سيلقيها عليهم، وبالصوَر، والوثائق.. التي ستَظهرُ على الشاشةِ
الكبيرةِ فوقَ حائطِ الصالة..

54

لفّتْ "بارعة" ساعدَيها.. واحتضنتْ ذاتَها في تلكَ الزاوية.. وراحتْ تراقبُهُ بعينيها
السوداوَينِ، الساحرتينِ.. تزيدُ من سِحْرِهما بعضُ (الماسكرا) وقليلٌ منَ الكُحْلِ، ولَمْسَةٌ منَ
اللونِ الأخضرِ العشبيّ فوقَ الرّمشَين.. وجهُها الناصعُ، اصطبَغَ بالأحمر.. مساوياً لحُمْرةِ
شفتَيها الزهريّة.. أسدَلتْ شَعرَها الطويلَ، الذي قبّلهُ مليونَ مَرّةٍ، ولفّهُ حَولَ عُنُقِهِ، وهوَ
يحتضنُها.. أسدَلتْهُ على صَدرِها الأيسرِ، الراعش..
تابعَ الدكتورُ مُحاضرَتَهُ الطويلة، متحمّساً من منظرِ الجمهور المنبهر.. لم تحاولْ أن تلفتَ
نظرَهُ، حتى ولو بحَركةٍ، أو نحْنحَة.. وهل ينقصُكِ ذلّ، يا"بارعة"..؟! .. انتظرَتْ أن يبحثَ
عنها بكلّ ذاتِه، وإمكانياته.. وأن يجعلَ مُرافقيهِ يزرعونَ الدروبَ، والقرى، وحتى زوايا
القاعةِ، وأرواحَ الناس.. ليعثروا عليها.. ليخبروها أنهُ ينتظرُها.. وأنهُ لم يأتِ إلى منطقتها إلاّ
ليشمّ رائحتَها.. ليحتضنَها.. ليصطحبَها معهُ إلى منزلهِ في العاصمة.. أو.. إلى عشّهما الذي
أخبرَها في أولِ لقاءٍ، أنهُ سيبنيهِ من أجلها، في مكانٍ لا يعرفُ بهما أحد..
عندما لمحتْ عينيهِ الصغيرتينِ تجولانِ في الحاضرين، اتسعتْ حدقتاها.. ولفتتْ رأسَها نحوَ
اليمين.. لمحتهُ يمرّ فوقَ جثّتها الهامِدَة، دونَ اكتراث.. وهوَ يتابعُ إلقاءَ مَعارفه.. لم يكرّرِ
النظرَ نحوَها، سوى لنصفِ مرّة.. تأكّدَ من وجودِها، دونَ أن يلفتَ نظرَ الحاضرين.. تابعَ نشرَ
علومِهِ على الجمهور.. وفي نهاية المحاضَرة، التي استغرقت أكثر من ساعتين، تلقى أسئلةَ
الجمهورِ، الذي استمعَ بشغَفٍ إلى إجاباتهِ المُدْهِشة.. وقبلَ أن ينزلَ عنِ المنصّة، ضجّتِ
القاعةُ بالتصفيق.. حاولَ مسؤولو الأمْنِ إبعادَ المعجَبينَ الفضوليين، حفاظاً على راحةِ
الضيفِ، بعدَ هذا العَناء.. نهَرَ مديرُ المركزِ الجمهورَ الشابّ الذي أثقلَ على الدكتورِ
بالإستفساراتِ الإضافية..
راحَ كلّ إلى بيتِه.. يتناقشونَ بمضمونِ المحاضَرة.. وبالحضورِ المكتنزِ للدكتور، وقدرتهِ على
الإقناع.. بينما كانتِ السياراتُ الخاصّةُ تفتحُ لهُ ولمرافقيهِ الأبواب.. هناكَ وَجبةُ غداءٍ عامرة،
في أحدِ أرقى المطاعم.. وجولةٌ على المتنزّهات.. قبلَ أن يغادرَ الضيفُ عائداً إلى العاصمة..
أو، ربّما كانتْ تنتظرُهُ دعوةٌ أخرى في منطقةٍ أخرى.. مع……. أخرى….!!
لعدّةِ أشهرٍ، كانتِ الوسادةُ المبلّلةُ رفيقَ غُربتِها، الوحيد.. الزوَغان.. والصّراع..
الضّياع.. التشتّت.. والشعورُ العميقُ بمرارةِ الذلّ، وصَدْمَةِ الخَديعة.. زارَتِ العديدَ منَ الأطباءِ
في المنطقة.. لم يجدوا في "بارعة" أيةَ علامةٍ لِمَرَضٍ جَسَديّ.. خرِسَ البيت.. الأمّ.. الأبّ..
الإخوة.. الأخوات.. أخرَسَتهم "بارعة".. قلقوا عليها إلى درجةِ الموت.. ما الذي حَدَثَ لكِ يا
"بارعة"..؟! نعرفكِ قوية.. وذاتً بُنيةٍ صَلدَة، كهذهِ الأشجار.. وتلكَ الصخور.. نعرفكِ عذبةً،
كماءِ الينبوع.. جاريةً، كمياهِ نهرِ قريتِك.. تتجدّدينَ باستمرار.. فما الذي حَدَثَ يا "بارعة"..؟!
(عَينٌ، وأصابَتها).. (تحتاجُ رُقيَة).. (تعبتْ من التجوال)…
( لا… أيها المتخلّفون… سأزورُ الطبيبَ النفسيّ في العاصمة.. كما طلبَ مني طبيبُ القرية..
)..
قابلتْهُ خلالَ تلكَ الزيارة، التي امتدّتْ ليومَين، فقط..

55
أخبرَتْ زوجةَ خالها، أنها ذاهبةٌ إلى عنوانِ الطبيبِ المطلوب.. لم تقبلْ أن ترافقها ابنةُ خالها..
ظِلّها المُعتاد..
عندَ أسوارِ تلكَ الحديقةِ، قابلتهُ.. أخبرَها أنّ غيرَها حَلّتْ مكانَها.. وأنّ المسؤوليةَ تقعُ عليها..
فقد أطالتِ الغياب.. ثمّ، هوَ لمْ يُجبرْها.. (هل أجبرتُك..؟!).. (أبدا.. لكنك جعلتني أحبك.. )..
(تتكلمين كما تتكلم زوجتي.. أنت مازلت بعقليتها…!!).. (بالمناسبة.. ما أحوال زوجتك.. أم
عيالك..؟! ) مازالتْ على حالِها.. مَرميّةً على الفراش.. تزدادُ سُمنةً، وترهّلاً، وعجزاً..!!)..
(وأنت..!! أنتَ تزدادُ شباباً وقوةً، كلما عاشرتَ عذراء..!! أليسَ كذلك يا (دكتور عدنان)..؟؟!!
) .. (فلتكنْ ذكرى جميلةً، تعيشينها كلّ لحظة…..!! ).. (لعنَ اللهُ تلكَ اللحظة.. بل، لعنَني..
لا.. لاااااا……. لم أكنْ آثمة.. لستُ بَغياً.. لستُ بغياً يا….. دكتور………. هل فهمت..؟؟؟!!!
صَدَمَتْ طبْلةَ أذنيها أصْداءُ قهقهاتِه…….!!
_____________________________________________________

إليكَ.. بعدَ ندم

لماذا رحلتَ قبل أن أضمكَ إلى صدري.. أيها البائس..؟!
لماذا رحلتَ..؟! لماذا متّ ..؟! قل أيها الصديق..
ساعة واحدة.. هي التي جمعتنا مع الأصدقاء..
لم أسمعْ فيها إلاّ صوت نشيجك ..
لم أرَ فيها إلاّ فما يبتسمُ لمزاحيَ الباكي.. ودموعا تنهمر.. وروحا يتصدّعُ آخرُ أبراجها..
لم أرَ أمامي إنسانا .. بل رأيتُ هرَما من الآهات.. يتساقط قطعة .. قطعة..
كنتُ أودّ أن أدعوكَ إلى قريتي الغالية.. حاضنة أوجاع المبدعين..
لكنكَ رحلتَ..
وأنا لاأزال أرسمُ – ببرودة أعصاب – كلمة ( سوف ).. القاتلة..
رحلتَ..؟! يارفيق الحزن .. يا أخَ المشاعر الجيّاشة..
هل تعرف أنّ دموعكَ هي التي أسقطتْ كلّ الحواجز بين روحي الغارقة في أنهار دموعي..؟!
فكان لسيلكَ الجارف ، امتداد للهاث الأنّات بين ذرّات المياه التي تطهّرني إلى حين.. ثمّ لا
تلبثُ أن تحرقني..
هو.. وحده الحزنُ ، يوحّدُ الناس..
هو.. وحدهُ الصدقُ.. يهطلُ من وجوه الأنقياء..

56
أيها النقيّ.. هل تدري أنّ المسافات التي باعدتْ بين تعارفنا، قد تقلّصتْ إلى درجة التجمّد،
عندما سالتْ دموعكَ في نسيج روحي.. لتكويني..؟!
هل ينقصني اكتواءٌ أيها الصديق الذي رحَلَ قبل أن يعرف اسمي.. لكنه عرفني.. لكن.. بعد أن
عرفته حقّ المعرفة..؟!
يا للصداقة التي تولّدها الدموع..!!
يا للجراح .. حين تلتقي.. كيف تشكّلُ إنسانا من ألم..!!
يا للألم .. كيف يطهّر.. أو كيف يقتل..!!
هل تدري يا صديقي.. أنّ الألمَ يقتلني في اليوم مليون مرة..؟!
لن أقولَ ذلك.. لن أؤرّقَ رحيلكَ..
فلقد استرحْتَ..
ومازلتُ أنزف..
إليكَ أيها الشاعرُ العاشق..
أهدي قبلة .. وضمّة..
أختكَ في العذاب..
فاطمة صالح صالح
***********************************************************
****************

نهارٌ أخضر
من بينِ أصابعِ الأعشابِ الرّفيعةِ الغضّة، كنتُ ألتقطُها حَبّةً، حَبّة.. خضراءَ، ومُكتحِلةً
بالبنفسجيّ الغامق.. وبنّيةً جَعِدَةً، جافّة..
بَعضُها مُكتنزٌ يلمعُ فيهِ الزيتُ، ويَطلي أصابعي بطبَقةٍ طريّة.. وبعضُها مغمورٌ في الطين..
قبلَ يَومَين، كانتِ خيوطُ السماءِ تمتدُّ نحوَ الأرضِ لتُقبّلَ أديمَها قبلةً طالَ انتظارُها.. فأحيَتها بعدَ
مَوتِها، وتركتْ بَصماتها المُبلّلةَ بينَ ذرّاتِ تُرابها، دليلاً على عِشْقٍ أصيلٍ يتجدّدُ كلَّ عام.. بل،
كلّ عدّةِ أشهر.. وأحياناً تلتقيانِ في حالةِ انصِهارٍ، واندِماجٍ عِشقيٍّ، لمدّةٍ طويلةٍ، قد تمتدُّ أياماً، أو
أشهُراً مُتواصِلة..
العام الماضي.. غضِبَتِ السماءُ، فعاقَبَتِ الأرضَ بالإنقِطاعِ، والغياب.. تشقّقتِ التُربَةُ، وتباعَدَتْ
ذرّاتُها.. جَفّتِ الينابيعُ والأنهار.. شحّتِ المياهُ.. وسادَ الجَفافُ.. واحتدَمَ العَطش.. كادَتْ بعضُ
النفوسِ تقنطُ من رحمةِ السماء.. وبعضُها الآخر كان مُطمئناً إلى أنّ هذهِ العلاقةَ الأزليةَ

57
المُتكامِلة، خالدَةٌ إلى الأبد.. ومهما غَضِبَ الحبيبُ من حبيبه، لا بُدّ منَ الرجوعِ إلى أحضانهِ،
لتستمرّ الحياةُ الحقيقية..
(مايحدثُ على هذهِ الأرضِ، يغضِبُ كلّ ذي بَصيرة.. ولا بُدّ منَ العِقاب).. ( لقد كفرتِ الأرضُ
بالحُبّ.. وحاوَلتِ الإستغناءَ عنِ السماء.. فاستحَقّتِ هَجرَها..).. ( لا تقنطوا من رحمةِ السماء..
فعِقابُها تربَويّ.. لتُعيدَ الأرضُ حِساباتها، وتدركَ أن ليس لها من خلاصٍ، سوى بالعودةِ إلى
الإندماجِ بالسماء..)..!!
من بينِ سَواعِدِ شُجَيراتِ الزيتون، كنتُ أرفعُ رأسي قدرَ المُستطاع.. وأمدّ يديّ نحو أغصانها
العامرة.. أمسكُ غصناً، ثمّ آخر.. أقطفُ الثمراتِ المُبارَكةَ، مجموعاتٍ، مجموعات.. كأنني
أحلبُ بقرةً مِعطاء.. فتمتلئ الأوعيةُ،كنوزاً مُبارَكة.. عطاءً لا ينضَب.. الشمسُ تعتَلي عَرشَها
الأزرق.. تكادُ تصلُ القُبّةَ العمودية.. وَصَلتها، وتجاوَزتها باتجاهِ البحر.. نسماتٌ لطيفةٌ تهبُّ بين
فترةٍ وأخرى، ترطّبُ حنطةَ وَجهيَ المُتعرِّق، فأشعرُ بالإنتعاش.. تمرُّ غيمةٌ داكنةٌ فوقَ الحقل..
ترخي ظلالَها الرطبة.. أخافُ أن تمطرَ قبلَ أن أنهي عَمَلي، ويطمرَ السيلُ المزيدَ من الحَبّاتِ
المتوزّعةِ تحتَ أجنحةِ أمّهاتِها.. أشعرُ بالسعادة.. فالغيمةُ تُظلّلني.. وتمنعُ عن وَجهي وظهري
المزيدَ من الشعورِ بالحَرّ.. تمنحني قُبلةً رَطبة.. وتغادِرُ نحوَ الشمال.. تتبخّرُ معظمُ حَبّاتِ العرَقِ
عن جبيني.. أمسحُ ما تبقّى منها عن عينيّ وأنفي.. وأتابعُ القِطاف..
أحملُ الوعاءَ، وأنا أُخفِضُ رأسي وجَسَدي تحتَ سواعِدِ الزيتونةِ المُتفرّعة.. يصطدِمُ رأسي بأحَدِ
فروعِها الأفقيّة.. أشعرُ بالألمِ الشديد.. خفتُ أن أفقدَ توازني، ولا أحَد معي، أو، حتى، قُربي..
هل حَدَثَ معي ارتجاجٌ، أو نزيف..؟!! هل من المُحتمَل أن أموت..؟! وإن حصَلَ ذلك، فهل
سيُنفّذونَ وَصيّتي التي أخفَيتُها في مكانٍ ما..؟! هل سيعرفُ أحدٌ أنني استدَنتُ نقوداً من صَديقتَينِ
غاليتَين..؟! ومَن سيقولُ لهم..؟! هل..؟! وهل..؟! وهل..؟!
تجاهَلتُ كلّ هذا.. وتابَعتُ عمَلي.. لم أعُدْ لتلمُّسِ قِمّة رأسيَ المُتألّمة.. فقد بدأتُ أشعرُ أنّ آلامَها
تخفُّ بالتدريج..
جَمَعتُ قَدراً جيداً من حَباتِ الزيتونِ الصالحةِ للتخزينِ، كمَؤونةٍ سنويةٍ، بعدَ (رَصِّها).. قلَعتُ
بعضَ الأعشابِ الصغيرةِ من تحتِ الأشجار.. فبعدَ مدّةٍ ستنمو وتكبرُ، ويصعبُ علينا اقتلاعُها،
وتُعيقُنا عن جَمعِ حَبّاتِ الموسِمِ المُبارَك..
أنعَشَتني رائحةُ الترابِ الرّطب.. وهذا المَدى الواسِعُ الشاسِع.. جبالٌ خضراءُ، مَطويّةٌ بيدٍ
عظيمةٍ، تتصاعَدُ من عُمقِ الوادي.. قِمَمٌ تعتَليها قِبابٌ لأولياءَ صالحين.. كانوا يزرعون
ويحصدون.. يُشيدونَ، ويَبنون.. يُطَوِّعونَ الصخورَ، ويُبدِعونَ ما يُساعِدهم على العيشِ في
أقسى عَوامِلِ الطقسِ والظروف.. ويزودونَ عن أرضهم وأهلهم بالرَوحِ والدّمِ والعرَقِ النبيلِ،
وقوّةِ المَعرفة.. إنهم أولياءُ الأرضِ والسماء..
عُدتُ إلى البيت.. تحُفّني ملائكةُ الرحمةِ، وحَمائمُ الحُبّ.. طيورُ الأمَلِ تغرِّدُ في سَمائي.. تتقافَزُ
على أغصانِ الأشجارِ الصغيرةِ والمُعَمَّرَة.. والشمسُ تضفُرُ أشِعّتَها الشقراءَ، استِعداداً للمَبيتِ

58
في أحضانِ البحرِ الأبيضِ المتوسّط.. ترمي عن كاهِلِها عَناءَ نهارٍ كامل.. لتعودَ وتُشرِقَ من
جديد.. من شُرْفةِ ذلكَ الشرقِ العَريق.. بهِمّةٍ أكبر.. وقدرَةٍ مُتجَدِّدةٍ على العَطاء..
تغفو الكائناتُ، ثمّ تستيقظُ على لَمَساتِ أصابعِ الشمسِ الحانية.. تُشرِقُ الأرواح.. تتعانق.. ويبدأ
نهارٌ جديدٌ خَصيب..
فاطمة صالح صالح
المريقب يوم السبت 25/ 10/ 2014م
العاشرة والنصف مساءً
_____________________________________________________
هذا المساء
 ______________
هذا المساء، أشتاقكَ كثيراً 
هذا المساء، ليسَ غريباً عن باقي المساءات
أو الصباحات..
هذا المساء، حنينٌ.. حنين..
أحبك.
ولا أحد يرقى إلى مقامِكَ العالي..
في روحيَ العاشقةِ
فوقَ ذرّاتِها المُتناثرةِ، شظايا ..
برج من الآهاتِ، 
أحلام وأمنيات.
أوراقَ حَبَقٍ، وأجنحةَ فراشاتٍ تُحلّقُ في فضاءِ عمري..
هذا المساء.. أشتاقُ لعينيك.. لرائحةِ صدرِك.. لحنانكَ 
( أيّ سِرٍّ فيكَ..؟
إني لستُ أدري.. كلُّ ما فيكَ منَ الأشياءِ يُغري.. )
منذ أن سمعتُ صوتَكَ، أوّل هَمسة، وأنا أرَدِّدُ هذه الكلمات..
أحتاجُ أن تضمّني راحتاك..
أن أتحَسّسَ دِفئها على سَمارِ وجهي.. 
أن يمتزجَ عَرَقُها بحُبَيباتِ العَرَقِ التي ينضحُ بها جبيني..
أحتاجُ لصَدرِكَ الحاني، ولأوراقِ الحَبَقِ على جبينِك..
أحتاجُكَ، لتجمَعَ بقاياي.. فلا أحدَ يُحسِنُ ضَمّها إلاّك.
أنتَ حبيبي.. فلا تبتعِد.!
لن أرجوكَ ثانيةً..
تحطّمَتْ آخرُ أشرِعةِ عمري.. 
ذلكَ الشقيّ العاثر، الذي أتعَبَتني فراشاتُهُ الطائرة..
مراكبي غرِقتْ، يا صديقي..
لماذا تغصّ..؟!
هل مازلتَ تحتفظُ لي في زوايا روحِكَ، ببعضِ البقايا من الذكريات..؟!
هل يبقى طعمٌ لقُبلةٍ تستجدي فاعِلَها، فوقَ حنايا أشلائنا المُتناثرة..؟!

59

ثق، أنّ ( أللّيندي ) لم تكنْ صادقةً كلّ الصدقِ، عندما قالت:
إنّ عَهدنا للأبد، يعني، لمدّةٍ طويلة..!
ثق، أنّ مدّتيَ الطويلةَ، هي بطولِ عمريَ الذي يمتدُّ عبرَ عصورٍ منَ الأحلام..
حبيبي..
إنني أقسمتُ أنكَ لي.. وسوف تبقى لي.. إلى الأبد..
وأنا، إن قلتُ، أفعل.
أما أنتَ، فإنني أسألكَ:
-هل سأظلُّ المرأةَ الوحيدةَ التي تحلمُ بها، 
وتشتاقُها أكثرَ مما تشتاقُ أيةَ امرأةٍ في العالم..؟!
هل مازلتَ تقولُ لي : ياعمري..؟!
أنتَ عمري، 
ذكرياتي..
أنت كُلّي، وانشطاري..
أنتَ كنزي واخضراري..
آه، يا قهري على عمري، وجَمري، واحتضاري..!
هل ستأتي في احتضاري..
جَمرَةً تُحيي لهيبَه..؟!
إنني أحتاجُكَ الآنَ..
وإني بانتظارِكْ.. 
أحتاجُكَ اليومَ..
انتظرني عندَ تلكَ الساقيةْ.
أحتاجَكَ العُمرَ.. ابتعِدْ، كي لا أراكَ،
فتهطلَ الأحزانُ، والأزمانُ..
تنكسِرَ الرؤى..
ويموتَ في صَحوي بَياضُ الأقحوانْ.
____________________________________________________
فاطمة صالح صالح
من صحيفة (الأسبوع الأدبي ) العدد 1460
18/10/20155م
___________________________________________________________
___
وفاء
 _______
مُبتسمةً، كانت وفاء..
وأجزمُ أنها ماتزالُ مبتسمة..
بعد قليل، سيدفنونَ الترابَ، في التراب..
لكنّ ابتسامتكِ باقية..
مطبوعةً على صفحات الكون، تحكي شقاءَ عمرٍ، واصطبار..
بدأ اصطبارُكِ، منذ أوّلِ جَدٍّ، وجَدّةٍ، في قريتنا الغالية..
قريبتي، أنتِ يا وفاء.. قريبة الروح، والنسَب، والمبادئِ، والشقاءِ، ومتعةِ العطاء..
لكنكِ أكثرُ صبراً مني، ربما..

60
هل كافأكِ المَولى، وأنهى آلامَكِ التالية، قبل أن تبدأ..؟! ربما.. وهذا أملُنا بالله، أيتها الطيبة..
الدقائقُ المُتبقيةُ، فوقَ هذه السمراءِ الحارقةِ، والخصيبةِ، والخضيبةِ، تنقصُ بالتدريج..
هذا العام، سبَقكِ إلى حضنِ أمنا الأرض، جَسَدُ أخيكِ الأكبر، علي.. تلاهُ جَسَدُ أمّكما البائسة  أم
علي، والتي قالت لبِكْرِها، عندما أخبَروها بارتِقائه : سبقتني، ياعلي..؟!
 عشتم أيتامَ الأبِ، وشبهَ أيتامِ الأمِ، منذ الثاني والعشرين من حزيران عام ألف وتسعمئة وسبعين
ميلادية، عندما ابتسَمَ أبوكِ ابتسامَتهُ الأخيرة، والتي بقيَت مصلوبةً على صَدرِ السماءِ،
وماتزال..
غارَةٌ صهيونيةٌ، استهدَفت ( مستودَعَ الأسلحةِ ) الذي كان يحرسهُ، مع رفاقهِ في الجيشِ العربيّ
السوريّ..
 كانَ (أبو علي ) للتوّ أنهى تجهيزَ إبريق الشايِ الغامِقِ، والمُحَلّى بالسّكّر، وللتوِّ، بدأ، ورفاقُهُ
بارتشافِ أولِ كأس..
ارتقى مُضرّجاً، ومُخضِّباً أرضَ الجَنوبِ، قربَ العاصِمة.. 
قيلَ، أنه ظلَّ مبتسِماً، وهو يرقدُ في مشفى (6011 )، مُثلّجاً، قبلَ أن تنقلَهُ سيّارةُ إسعافٍ، إلى
قريتنا، ويُدفنَ قربَ مقامِ (الشيخ علي سلمان )، وقربَ أجدادكم، وأجدادِنا، في ظلالِ السنديانِ
المُعَمَّر..
 أبي يرقدُ، منذ التاسع عشر من كانون الثاني عام ألفين وتسعة ميلادية، قريباً من رفيقِ صِباه،
وقريباً من عمي، وأبيهِما، جَدّي البطل، المُجاهد (الشيخ سليم صالح ) وإخوته..
 أخي، يبعد عنهم عدة أمتارٍ، جنوباً.. فوقَ بعضِ مَراقِدِهم صندوقٌ حجَريّ مَطليّ بالإسمنت،
وبعضها يكسوها رخامٌ أبيض..
أخوكِ، أقرب إلى الطريق العام، الواصِلِ بين شمال الوطنِ وغربه، شرقه، وجنوبه..
 كنا في عمرَينِ متقاربَين، وكانَ يشكو من تعالي أبناء خالته، الذين يدرسون الطبّ، ويستأجرون
بيتكم في دمشق، بعد أن خَلا مِن أهلِه.. وكنتُ أشاركهُ الشكوى منهم.. نجلسُ في غرفتهِ
الصغيرة، نشربُ الشايَ، ونتبادَلُ الشكوى..
(علي ) كان طيباً جداً، مثلكِ، يا وفاء.. جميلاً، خجولاً، مكسوراً..
كان في الصفّ التاسع.. نزلَ إلى القريةِ من بيتكم الطينيّ –  بيت جدّك، أو بيت خالتي.. معكم،
ومع باقي إخوتك، وأخواتك، وهوَ يحجبُ وجهَهُ، بكفّيهِ الحارقتين، ويضغطُ على عينيه
المُغمَضتين، لا يُبالي بحَصى الطريقِ المُنحدِرةِ على (الصّفحَة ) هائماً، مُتلاشياً، يحاولُ ألاّ يرى
حقيقةَ ما سَمِع.. لكن….
مازلتَ تحرقني، يا أخي علي.. وستبقى..
 (كوكَب ) كانت صامتةً، من هَولِ الصّدمة، لم تفرجْ عن مشاعرها سوى عندما بدَت جنازةُ
أبيها الشهيدِ، نائحةً، قادمةً من دمشق، إلى طرطوس، ثم إلى (المْرَيْقِب ) مسقط رأس الشهيد..
ودّعته القرى المتناثرةَ على جانبيّ الطريق..
 أمكِ، التي كانت دائمةَ المرضِ، خصوصاً أثناءَ حَملِها بكِ، وبأختكِ الأصغر، أحضرَها الأقاربُ
والمَعارِف، من دمشق، وبالكادِ، استطاعوا التخفيفَ من صُراخِها، ونَدبِها، وانتِفاضِها، وهي
ترى الترابَ الأبيضَ يغمرُ جسَدَ حبيبها، ورفيق دربها البائسة.. أبي كان يهدّؤها، بقوله : وَحِّدي
ألله، وطوِّلي بالكِ، يا ابنةَ عمي.. وهي لاتسمع ولا ترى ولا تهدأ..
 دقائقُ عِدّة، ويُدفَنُ الترابُ بالترابِ، في قريةِ زوجكِ الطيب، قريتِك.. وسيودّعُكِ زوجُكِ،
وابنتك، وابناكِ، وأخوكِ، وأخواتك، وبعضُ العائلة، وبعض المعارف.. أختكِ (أمَل ) لا أظنّ أن
باستطاعتها حضور الجنازة، فالطريقُ بين الحسَكة، وطرطوس، يقطعُها المجرمونَ، أعداءُ
الحياة..
 أخوكِ الثاني، أشكّ أن بمقدورهِ توديعَك.. تطوّعَ في الجيش، منذ أول هذا العدوانِ الغاشِم، ربما،
ليكفِّرَ عن ذنبٍ اقترَفهُ في لحظةِ طَيش، وربما، لينتقمَ لأبيه الشهيد، أو ليُحارِبَ الفقرَ والمَرَض،
أو لكلِّ ذلك.. عدّةُ نوباتٍ قلبيةٍ داهَمَتهُ، وأجرَتْ لهُ (جَمعيّةُ البستان ) الخيرية، عمليّةَ قلبٍ

61
مَفتوح، لكنه لم يستطعِ التقيّدَ بنصائحِ الأطباء، وراح يُجهِدُ نفسه بالعمل بالأرض، وأدخلَ
المشفى لأكثر من مرة، عادَ بعدَها لينضمّ إلى الجيش، ويخدمَ في أكثر من منطقةٍ خطرة، في
فرعِ المُداهَمة، في الصفوفِ الأولى، ويُبلي بلاءً حسناً، أصيبَ أكثر من مرة، وأسعفه رفاقهُ،
دون أن يهتمّ كثيراً، هو الآن في الرقّةِ المُشتعِلة، مع رفاقهِ الأبطال، يقتحمون مواقعَ العدوّ،
وأجنادَهُ الشرِسينَ الجُبناء المخمورينَ بنشوةِ القتلِ، أو بنشوةِ حشيشةِ (الكيف ).. 
الساعةُ الآن، تشيرُ إلى الحاديةَ عشرة..
أظنّ أنهم يُصَلّونَ على جثمانكِ الضئيل، ويتحَلّقُ  عشَراتُ المُشيّعين، يردّدون الصلاةَ والدعاءَ
خلفَ الشيخِ الذي يؤمّ صلاةَ الجنازة، وترابُكِ الغالي يرقدُ بسلامٍ، فوقَ سريرٍ خشبيّ، تغطّيهِ
ملاءةٌ قطنيةٌ ناصعةَ البياض، بنصاعةِ قلبكِ الذي لم يحتمل التخدير، وبنقاءِ روحِكِ التي ترفُّ
فوق الجميعِ، غيرَ عابئةٍ ببكاءِ النادِبين والنادِبات..
(يا أيتها النفسُ المُطمئنة، ارجعي إلى ربّكِ راضيةً مَرضيّة، وادخلي في عِبادي، وادخلي جَنتي.
)
رحمةُ اللهِ تعالى على روحِكِ الطاهرة، يا وفاء..
أختك، وجارتك، وقريبتك
فاطمة
الثلاثاء 5/ 7 / 2016م
 __________________________________________________

طريقة عمل ( تين مْهَبل ) مع تشديد الباء..
 _____________________________
نقطف ثمار التين، نسطحها، ثمرةً، ثمرة.. (نفتحها جيداً ) ونفرشها على أغصان الحَيصل الجافة
(الوزال ) أو على قماشٍ قطني أبيض.. ونعرضها لأشعةِ الشمس، يومين، أو أكثر.. حسب حدة
أشعة الشمس.. وقبل أن تقسو كلياً، نجمعها، ونضعها في مِصفاةٍ معدنية، فوق المصفاة قطعة
قماش قطني أبيض نظيف.. فوق القماش، نضع (قشور التين ) ونلفها بالقسم الباقي من القماش،
ثم نغطيها بغطاءٍ معدني… ونرفع المصفاة والتين، على طنجرة، يغلي فيها بعضُ الماءِ
النظيف.. نضعف الغاز.. وننتظر حتى يلينَ التينُ جيداً.. نرفع القماشة التي تحتوي على التين
الحارَ، الدي عُقمَ على البُخار.. ونفرده على نفس القماشة.. نأتي بمدق خشبي.. ندق التينَ جيداً،
وهو حار.. ثم نفرش فوق راحتينا طبقةً رقيقةً جداً من زيت الزيتون.. ونقطع التين، حسب
الحجم الدي نريد.. مع الضغطِ على كل قطعة ( هَبول ).. ونفردها فوق نفس القماشة، حتى
تبرد… نجمع قطع التين (الهْبيبيل ) بقماشةٍ قطنية بيضاء نظيفة.. نربطها جيداً، ونغلفها بكيس
من النايلون الشفاف.. نضعها بالبراد، وكلما رغبنا بتناول قطعةٍ منها – وغالباً ما يكون دلك في
الشتاء – نأخد مانريد.. ونأكله… أو، نقدمه كضيافة.. أو نستعمله في مجالات أخرى كصنعِ
بعضِ أنواع الحلوى…
وألف صحة وهنا..
ملاحظة :
 سابقاً.. كانت كميات التين التي تُسطَح، كبيرة.. وكان الوعاءُ الدي تغلي تحته كميةٌ من الماء،
في (دِسْت ) أو طنجرة نحاسية كبيرة، على نارِ الحَطَبِ الجافة.. كان التين يُهَبلُ بواسطةِ (القفة )
المحبوكة من أغصانِ الحَيصل (الوزال )..
كم أنا سعيدة لأنني أوصلتُ طريقةَ تحضيرِ هدهِ المادة الطعامية التراثية الطبيعية، لكل مَن
يرغب…
دمتم ودامت سوريا، الأم الكبيرة والعريقة.. بألف ألف خير.. مع كل مَن يدعمها..

62

فاطمة صالح سليم صالح
 المْرَيْقِب
_______________________________________________
لستُ غريبة..
 ____________________
قبل قليل، كنتُ في حضرةِ (أم عماد) وزوجة (عماد) و(أم شادي) وصديقهم كلهم الإبن الغالي
(وائل).. وفي حضرة أخت (الشهيد) أنا… رغم أنف الخونة والقتلة… 
 ( اسماعيل صالح، رخص الموت ) …أخي.. ولي الشرف. كان رائداً في الجيش العربي
السوري، واستشهِدَ قرب المعرة، في طريقهِ إلى عملهِ فيكِ ياشهباء…
ولم يُعتبر شهيداً..
كان عمر زوجته، حوالي 24 عاماً.. وابنته سنتين ونصف.. وابنه شهر ونصف…..
وراح أخي…
( شادي ) قريبي، استُشهِدَ، بعد غيبوبةٍ دامت عدة أشهر.. كان يحرسُ (محطة محردة)..
 (عِماد ) كان عميداً في الجيش العربي السوري.. استُشهِدَ، بعدَ حصارٍ طويلٍ، وتجويعٍ،
وتعديبٍ، وتنكيل، في (مدرسة المُشاة ) فيكِ ياشهباء.. عادَ، رغم الجراح، وظل يدافعُ عن وطنهِ
الأم، واستُشهِد في ( الراموسة ) مندعدة أشهر..
وهناك الكثير من شهداء قريتي، مشاعل النور.. إخوتكم في الوطن والإنسانية.. أيهاالأبراااار….
وسنخلصُ لهم، كعادتنا……………………….
أختُ وأم وصديقةُ كل شريفٍ وشريفة، في سوريا الأم، والعالم..
فاطمة صالح سليم صالح
المريقب
_______________
أجلسُ الآن، على كرسي بلاستيكي، أزرق، فيروزي، أمام بيت (أم عِماد ) في قريتنا ( المْرَيقِب
)..
الساعةُ تشيرُ إلى التاسعة تماماً، صباح يوم الإثنين 19/9/20166..
– ألو.. أين أنتِ..؟!
– كنتُ عند عِماد، والآن في طريقي إلى البيت..
– أنا أمام بيتكم، بانتظارِك، وإن أحبَبتِ أن تزوري أحداً، بإمكاني تأجيل الزيارة..
– لا.. انتظريني..
__________________
بانتظارِها، لم تُشبعْ روحي بعضُ خطواتٍ غربيةٍ في (الزاروب )..
عُدتُ، ونزلتُ بمُحاذاةِ  بيت أم عِماد، من الغرب، على دربٍ ضيقٍ، شاسِع، يحوي الكثير من
الذكرياتِ البِكْر..
 تراءى لي أبي وأخته : ( – والله، يامرت عمي.. نحنا ما سرقنا القزات، وما اشترينا فيهن
ملبس.. وما كلنا تشبعنا.. وما كبينا الباقي بخربة بيت العَجي.. )..
 سمعتُ، وشاهدتُ الضحكاتِ والإبتسامات المُحِبة، على براءةِ الطفولة، ماتزال تتردد
منذعشرات السنين..
نزلت عدة درجات، بعضها إسمنتي، وأخرى ترابية، تعلوها الحصى والتراب وأوراق أيلول..
(ورقو الأصفر، شهر أيلول.. ذكرني فيك..)
بابُ المَحل مُغلق.. إذاً، فلأمشِ حيث تريد روحي، وعسى ألا تخونني قدماي.. ولن تخون..
عدة أمتارٍ، غرباً، باتجاهِ بيتِنا في قلبِ المْرَيْقِب.. رقصت روحي طرَباً، وحُزناً، وحَنيناً..

63
 هنا، كنا نمشي، يا أمي، في شهوركِ الأخيرةِ فوقَ هذه الفانية.. أمسككِ من أصابعِ كفيكِ،
ونمشي قريباً من البيتِ الذي فقدتِ منه أقوى أركانِك.. أمشي إلى الخلف، وأنتِ أمامي.. أحرص
على ألا يميلَ جسدُكِ الغالي، فلا تنقصكِ آلام..
 عيناكِ، ماتزالُ تلكَ الصورةُ المؤلمةِ حتى أعماقِ الروح، تحتفظ بتوَهانِها، تكويني نظرتُكِ
الفارغة تلك..
أيتها الشمسُ التي فقدتْ بَريقها، وتبحث عن مَلجأ حَنون…
رأيتُني أصرخ محتجةً على تهديدِكَ، ياغالي، مُتمتِماً، كي لا يسمعكَ غيري :
 – عودي.. لا أسمحُ لكِ بالنزولِ معي إلى (الرعية ) رفاقي الصبيان ينتظرونني.. ماذا ستفعلين
بيننا.. ؟!
– ماذاحدَث..؟! لماذاتصرخين..؟!
– إسماعيل ضربني، يا أمي..
أقسم أنكَ لم تضربني..!!
وتشفعُ لي روحُكَ الطيبة، وتسامحني، كعادتِكَ يا غالي..
 أتجه نزولاً نحو الشمال.. (الحاكورة )على يساري، و (جَوزات أم محمود ) على
يميني..و..و.. ألتقي بنا، على يسار الدرب النازل نحو (المْغيسِل ) و (عين شْعات ) ونحن
نجولُ في حقلِ الفولِ الأخضر، نأكل ونجني ونأكل.. كم كنتُ أحب ( فول الجَقَل )..!!وكم كنتَ
تستلذ بال ( بورطاط ) وأنا، أيضاً..
تكادُ شتلاتُ الفولِ تغمرُ أجسادَنا الصغيرة..
ونصعدُ نحو البيت..
رغبةٌ جامحةٌ، قادتني نحو (السقالْ )..
و حنينٌ.. حنين..
هنا، على يميني، استيقظتْ ذكريات..
 أنا، وأنتَ، وبعضُ أطفالِ قريتنا.. جيران، وأصدقاء.. نبحثُ في تلكَ التُربةِ الرطبة، وتحت
شجر السنديانِ العريق، عن (بَيضِ الحَمام ).. هاهيَ أوراقُ نبتاتٍ تشبهُ أوراقه.. وبأعوادِ
السنديانِ الصغيرةِ ننكشُ الأرضَ، وعلى عُمقِ عدة سنتيمترات، تظهرُ لنا ( بَيضةً ) معلقةَ
بجذورِه.. نزقزقُ فرحين.. ولا نيأسُ إن كانت مجرد (بَحْصَة ) بيضاء.. فالأرضُ غنية..
ومن غربِ الحقلِ، تبحثُ عن ( طَوافيحِكَ ) التي  حَفرتَها في الأرضِ، ورَفعتَ فوق كل (
طافوحَةٍ ) حَجَراً رقيقاً على مقاسِ فمها، تسندهُ أعوادٌ هَشةٌ، غالباً ما تسقطُ مُغلِقةً الحفرةَ على
عصفورةٍ صغيرةٍ، أغرَتها تلكَ ( الدودةُ ) أو (الحَرقوص) فلامَسَ جنحُها الأعوادَ الصغيرةَ،
وهي تغيرُ لتلتقطَ ( الطُعْمَ ) القاتِل.. فتشهَقُ فرحاً، وتسارعُ للإمساكِ بها، بمنتهى الحَذر.. ترفعُ
باليُسرى طرفَ الحجر، ببطئٍ شديد.. وباليُمنى تغيرُ على جَسَدِ العصفورةِ المسكينة.. ونادراً ما
(تفلتُ ) من قبضتِك..
 كم مرةٍ، ضحكتم علي، أنتَ وإخوتي، وباقي الصبيان، وأنا أتوسلُ إليكم أن تطلِقوها، حَرةً في
فضائها الواسع..!!
تكادُ دموعي تسيلُ، عندما تتضاحكون.. فأغريكم بمالي :
– خذوا.. فرنك.. فرنكين.. واعطوني العصفورة..
وأطلِقُها، منشرحةَ الصدر.. وأنتم تلهون بلعبةٍ أخرى..
***
 عُدتُ بنفسِ الدربِ، أدفعُ عن ترابهِ بعضَ الحَصى الكبيرةَ والصغيرة، كي لا ( يتدعفر ) بها
أحدُ النازلينَ إلى حقولِهم..
 كم كنتُ سعيدةً، عندما حَضَرَتْ ذاتيَ الحقيقيةَ، التي كونَتها هذه التُربَةُ المُغمسةُ بعرقنا ودمائنا،
وعرق ودماء أسلافِنا..!!

64
هذه، التي منها وَلَدَتنا أمهاتُنا، وبها ستُدفَنُ أجسادُنا، كما دَفنتهم، نساءً، ورجالاً، شيوخاً،
وأطفالاً.. 
توقفتُ أكثر من مرة، وأنا أصعدُ الدربَ الأليف..
لستُ غريبة..
مهما كبرت بيَ السنون، ومهما أبعَدَتني الأماكنُ، والدروب…
أنا من هنا.. وإلى هنا..
بكم، ومنكم، وإليكم.. يا أهليَ الطيبين.. أيها البسطاء، العقلاء الكادحين..
تثقون بالناس، لأنكم ذوو ثقة.. لكن بعضَ الناس، ليسوا مثلكم.. وليسوا أهل ثقة..
 القريبُ، نعرفه، بسلبياته وإيجابياته.. أما الغريب، فالحذر منه مُضاعَف.. وغالباً ما ينظر إلينا
نظرةً دونية.. فنغضب، لكن، من الداخِل، وفي الداخلِ، مَقبرة الغضب.. ( والكاظمين الغيظ.
والعافين عن الناس )..
***
 وصلتُ إلى شرقِ بيتِنا، دخلتُ (الزاروبَ ) ثانيةً.. دفء حياتي.. جنتي.. بعد أن عبَرتُ
(الدوارة ).. شعرتُ بجيبِ بنطالي الجينز (من البالي ) يهتز قليلاً، وسمعتُ نجاة (إلا إنتَ..)..
أغلقتهُ، وطرَقتُ بابَ الدار :
– ها أنذا، يا أم عماد.. عرفتُ أنكِ أنتِ..
 شربنا المتة، فطرنا ( شنكليش ) من صُنعِها، طلبتُ بصلة يابسة صغيرة ( قزحة ).. وعلى
الطربيزة الخشبية، أمامنا، كان صحن ( الشنكليش) مع زيت الزيتون، يتجاوَرُ مع صحنٍ
بلاستيكي آخر، فيه بَصلة مقطعة، و إبريق ماءٍ ساخن، وكأسين من المتة، وربطةُ الخبز على
يمين أم عماد، تناولني منها ما أريد، وبين فترةٍ وأخرى، تضيف كمية من زيت الزيتون على
صحن ( الشنكليش ).. ويطرقُ (وائل ) باب الدار، يكلمها، ويدخل، مع طفلتهِ (سَلام ) :
– أسمَيتُها سلام، لأنها وُلِدَت في الخامس والعشرين من أيار..
– وماذا تسميها، إذاً..؟!
ونضحك.. وقلوبنا تغص قهراً وحنيناً، تترجمهُ عيوننا الرطبة، وجفوننا الحمراء..
– سامحيني، ياخالتو.. أتيتُ بثيابِ البيت..
– صدقني، ياخالتو، لا أعرف ماذا ترتدي، ولا يهمني..
– هل تعرف أنني حضرتُ (عرسَ ) أبويكَ، وكنتُ في الصف السابع..؟!
 داعَبتُ الصغيرةَ، وتوددتُ إليها.. ساعدها أبوها لتستأنسَ بي.. أجفِلتَ قليلاً، لأنها تراني للمرة
الأولى.. ثم ما لبثتْ أن بادلتني الفرح، وارتمَتْ في حضنِ أم عِماد، جارتهم، مَكسورة الأجنحة،
مرفوعة الرأس، كادحة، لاتعرف سوى الحَلال، والعيشَ البسيط، من تعبها، وتعب زوجها
الكادح، المرحوم (عبد الحميد العجي )، الذي غادَرها منذ عشرات السنين.. كان عماد، وناديا،
قد كبرا قليلاً.. أما أكرم، فكان بعمر سبعة أشهر.. ربتهم (كل شبر بندر )..
بعد قليل، حضرت ( مريم ) أم الشهيد الغالي ( شادي )..
شربنا معاً، المتة.. وشرب ( وائل ) القهوة..
هاه.. هاهي ( ليلى )..
 – يا مرحباً بليلى.. لم أزركِ بعد استشهاد عماد، لأن حماتكِ أخبرتني أن أبناءكِ يدرسون،
تحضيراً للإمتحانات..
بَرَقتْ عيناها بالدموع.. هيئتها مكسورة، تكابرُ على الزمان..
– لماذا ترتدين الأسود..؟! افرحي، لتُسعِدي (عِماد )..
وأنتِ، يا أم ( شادي )..
 أنا لم ألبس الأسود، يوماً.. لا على أخي، أو أمي، أو أبي.. ولا على أحد ممن سَبَقوني إلى روحِ
الأرض..
ولا أريدُ لأحدٍ أن يلبسَ الأسوَدَ بعد رحيلي..

65
مَن يحبني، يُسعِدني وأنا حَية.. أما بعدَ مَوتي، فليبكِ قليلاً، وليفرحْ قدرَ إمكانِه.. وبهذا يُسعِدُني..
تواعَدنا أن أزورهن، إن أحيانا الله، عندما تسمح لي الظروف..
فأنا لا أتصالَحُ مع ذاتي، إلا إذا تماهَيتُ معكِ، يا قريتي الغالية..
فأنا منكِ، وإليكِ..
 و……………… لستُ غريبة..
– قبل أن تذهبَ، يا حبيبي، أريد أن أحَملكَ أمانة:
– تفضلي، خالتي..
–  كتُبي، هي أبنائي.. وأنا أهديتُها للكثيرين والكثيرات، وأهديتُها لمكتبة ابتدائية ( المريقب
)..أرجو أن تقرؤوها، وتحتفظوا بها.. إن كنتم تحبونني..
– لنا الفخر بها، وبكِ، ياخالتو.. وسنحفظ الأمانة..
***
 كانت أصُصُ الوردِ الصغيرة، تعطرُ جلستنا، أمام بيت أم عماد، فوق أرضها الإسمنتية، التي لا
تهمنا حفرُها.. تتربعُ على عرش بعضِ حجارة ( الخفان ) التي تفصلها عن حوضِ ترابٍ مسمدٍ،
بعرضِ مترٍ، تظللهُ، شجرةُ رمانٍ مثمرة، وبعضُ النباتاتِ والأشجارِ البلدية، الأصيلة..
ساعدتني حبة ( الفاليوم 55) على صعودِ الطريقِ الإسفلتية المحفرة، فوصلتُ بقليلٍ من التعبِ،
إلى بيتنا الآخرِ، البعيد.. فتحتُ البابَ الحديدي، ودخلتُ.. فتحتُ ( النت ) كتبتُ بعضَ الكلمات،
واسترحتُ..
 تحدثنا عن مجزرة (دير الزور ) وأن الشهداء والجرحى، من مختلف ألوان الطيف السورية،
يجسدون وحدةَ الوطنِ المستهدَفِ – وطننا بكل مكوناتهِ، ونحن أقوى باتحادنا.. ومَن يكفرنا،
ويستبيحُ دماءنا ( أن تبوءَ بإثمي ) لأننا لسنا آلهةً، لنعرفَ مافي الصدور.. نتآخى مع الجميعِ، إلا
المُعتدي، والمُستكبِر، فهوَ عدونا، من أول الخلقِ، إلى يوم الدين..
 ____________________________________________________
فاطمة

من سيرةِ (مَحجوبة )
لم تكن قادرة على إخفاء آرائها بالمواضيع التي تطرح أمامها.. خصوصاً
إذا توجه المتحدثون إليها بالكلام ..عند ذلك كانت تطرح آراءها الخاصة .. دون
النظر إن كانت هذه الآراء تنسجم أو لا تنسجم مع آرائهم.. تدافع عن رأيها ..
ولا تغيره إلا إذا اقتنعت..
مما كان يغضب زوجها مُعتز .. كما يغضب الكثيرين.. فتضطر أن تصمت ..إن
كان زوجها موجوداً ..أوعمها ..أو أي إنسان مقرّب تخاف أن يؤذيها نتيجة
طرحها لآراء مخالفة لآراء الأكثرية.. وتأخذ حريتها التامة في التعبير عن آرائها
الخاصة .. في غيابهم ..

66
تتوافق آراؤها مع البعض.. وتختلف مع البعض .. وعندما يحتج أحدهم ..أو
إحداهن على رأيها المخالف.. ويحاول .. أو تحاول .. أن تدحض رأي مَحجوبة
بصوتٍ مرتفع ..
تواجهها محجوبة بهدوء ظاهريّ.. وثقة بالنفس :
– رأيي غير ملزِم لكِ .. أو لغيرِكِ .. هذه قناعاتي .. كما أن رأيكِ غير
ملزِم لي .. وتلك قناعاتكِ .. فلاتحاولي ، أو تحاول .. فرضها على الآخرين
بالقوة .. قوة الصوت .. أو قوة أية سلطة أخرى ..
– اختلافي معك بالرأي لا يمنعني من أن أحترمكِ.. وأن تبقين صديقتي
..أو صديقي .. ما ينفرني من الآخرين ، هو الاستئثار ومحاولة فرض آرائهم
بالقوة.. هذا تسلط .. وغرور..
أما إذا اختلفنا في الآراء.. وكانت آراء كل منا آتية عن تفكير.. وتجربة .. واقتناع
حقيقي ..
فهذا ما يغني جلساتنا .. ويزيدها متعة .. ويبعدنا عن الملل والركود ..
والمراوحة ..
كانت تردد دائماً عبارة ( التنوّع غنى..) .. والأفكار تأخذ من بعضها .. وتعطي
بعضها أيضاً.. وقد كتبت من أعوام هذه العبارة – كمحاولة شعرية- ( أفكارنا
ورود .. وعمرنا حديقة..).. وتعتبر أن فقدان وردة من الحديقة..هو فقدان لبعض
هذا التنوّع .. ونقصانٌ في جمال تلك الحديقة.. ليس الفل أجمل من
القرنفل.. وليس الجوريّ أجمل من الشقيق أو البنفسج .. بل تكون الحديقة
أكثر جمالاً وغنى بحضور الجميع .. كل لون أو نوع هو محط إعجاب أحد ما ..
أكثر من اللون أو النوع الآخر.. ولكل إنسان ذوق .. على الآخرين احترامه..
وجمال الحياة – بشكل عام .. في ذلك التنوّع البديع .. إذ لاأحد يشبه الآخر
تماماً.. لكن لابدّ أن يكون في الجميع أشياء متشابهة .. وأشياء متكاملة..
وهذا التنوع من أجمل ما في الوجود ..
كانت أيضاً مؤمنة بعنوان مقالة للدكتور( أحمد زكي ) .. ( وحدة الوجود.. من
وحدة الخالق ..).. لكن أحد المحاضرين سخر منها مرة عندما حضرت محاضرته
في المركز الثقافي في بلدتها ، عندما كان زوجها مسافراً خارج البلد..
لفت نظرها اسمُ ذلك المحاضر لأنه دكتور .. وتعجبها مقالاته.. وتتابع اللقاءات
معه في التلفزيون المحليّ.. والعربي.. فاستغلت غياب زوجها.. وحضرت
المحاضرة .. وشاركت في النقاش حوله ..

67
لم تسمح لها سخرية ذلك الضيف المحاضر .. أن تعبّر عن إيمانها بأن هذا
الكون موجود بقوّة خالق .. واحد.. هوالكمال في كل خير .. وجمال ومحبة
وقدرة وعدل .. وأن إيمان الإنسان يُعرَف بمقدار ما يملك من صفاتٍ جزئية
من صفات الخالق الكامل ..
فمن يعدل بين الناس .. يملك جزءاً من صفات / العادل /..
ومن يرحم .. يملك جزءاً من صفات / الرحمن /..
ومن يكون كريماً.. يملك جزءاً من صفات / الكريم /..
ومن يصدق في كلامه وفعله .. يتمتع بجزء من صفات / الصادق / ..
ومن يوَدّ .. يملك جزءاً من صفات / الودود / ..
ومن يكون حليماً .. فهو يملك جزءاً من صفات / الحليم / ..
إلخ ..
___________________________________________________

من شرفةِ منزلي.. العالية
هزّتِ الجبالَ أصواتُ انفجاراتٍ بعيدةٍ، كما هَزّتْ روحي نشوة.
من أقصى الشرفةِ من الغربِ، إلى أقصاها من الشمالِ، تمَشّيتُ على بلاطِها الذي مَحتْ لمَعانَهُ
عواملُ الطقسِ، على مدى حوالي أربعةِ عقودٍ، ثمانيةَ أمتارٍ جيئةً وذهاباً، عشرات المرّاتِ.
الشمسُ تجمَعُ سنابلَها الذهبيةَ من قِمَمِ الجبالِ والتلالِ، الظلالُ تتمطّى في طَيّاتِها الخضراء،
نسماتٌ لطيفةٌ، تتحوّلُ إلى رياحَ غضّةٍ، تداعِبُ حنطةً وَجهي، وتفرقُ خصلاتِ شعري، فتكشفُ
عن جذورِهِ البيضاءِ، التي حاوَلتُ إخفاءَها بصِباغٍ بُنيٍّ فاتحٍ، يماثلُ خرنوبَ شعريَ الطفوليّ
الذي ضاعَ مني منذ ما يُقلرِبُ نصفَ قرنٍ عنيد. ألمُّ بعضَ الخصلاتِ عن وجهي، وعينيّ،
وأستنشِقُ الهواءَ القادِمَ عبرَ البحرِ الأبيضِ المتوسطِ، مُحاوِلةً أقناعَ روحي أنها تستنشِقُ
الأوكسجين الذي يتكفّلُ بإنعاشِها.
"محمود " غادَرَ هذهِ الأرضَ المُخضّبةَ، منذ عدّةِ أيامٍ، تارِكاً خلفهُ عَهداً من الأصدقاءِ والأحبةِ
بمواصَلةِ طريقِ الخلاصِ، المُعَمَّدِ بعرَقهِ ودِمائهِ، وعرَقِ ودماءِ أهلِهِ ومَن شابَهَهم من الكادِحينَ،
المُتشبّثينَ بأرضِهم، وترابها الأسمر.
كم محمودٍ ذهبَ، ولم يذهب.؟!

68
كفرتُ، منذُ وَعيتُ على الواقعِ، بتلكَ الرُّقُمِ المسماريةِ، التي تحضُّ السوريَّ على تركِ سلاحِه.
وكيف لا أكفرُ بها، وأحفادُ قابيلَ يحاصِروننا من كلِّ جهاتِ الأرضِ، وقد تغلغلَ الكثيرُ من
قطعانهم في الأعماقِ، ليقتلوا فيها الحياة..؟! كيفَ لا أكفرُ بتلكَ الدعوةِ العمياءِ، وقد نهَشتِ
الغِربانُ أجسادَنا، واستباحَ الغريبُ دِماءَنا وأعراضَنا، وانتهَكَ حُرُماتنا، بأعتى أنواعِ الأسلحةِ
التي تقذفُ حِمَمَها عبرَ شاشاتِ التلفزةِ، وبوّاباتِ مَواقِعِ التواصُلِ، وعيونِ الأقمارِ الصناعيةِ التي
توجِّهُ الغزاةَ والطغاةَ، والغافلينَ المَغسولةِ أدمغتهم، والمدموغةِ بكالِحٍ من ظلاميّةٍ قاتِلة..؟!
تترَقرَقُ أصابعُ الشمسِ بينَ أوراقِ شجرةِ الكينا، يؤرجحُ النسيمُ أغصانَها الغضّةَ، التي نمَتْ
حديثاً، بعدَ أن غذّتْ أمها الأرضَ أمطارُ الشتاءِ التي لم ترحل سوى منذ أيامٍ مَعدودة، مُفسِحةً
المجالَ لرَديفِها الصيفِ، على أملٍ التجدّدِ باستمرارِ الفصول.
القرى الموجوعةُ الكادِحةُ تستعِدُّ لحكاياتٍ الليلِ، وأوجاعِهِ، ودموعِهِ الحارِقةِ، على "محمود "
راحَ، و "محمود " فُقِدَ، و "محمود " جُرِحَ، وخوفٍ، وقلقٍ على باقي المَحمودين، يحدوها أملٌ
بولادةِ الفجرِ القادِمِ، حامِلاً معهُ راياتِ انتصاراتِ حُماةِ الوطنِ، وتضحياتِ أبنائهِ البرَرَة.
"عَكّارُ " يلوِّحُ بقامَتهِ العاليةِ منَ الجنوبِ، تزنّرُ خصرَهُ لفائفُ الضبابِ الرقيقةِ الناعِمة، وتعلو
قِمَمَهُ ثلوجٌ مُقيمةٌ، تصمدُ رغمَ حرارةِ الصيفِ الحارِقة، يذوبُ معظمُها في طبقاتِ الأرضِ، ليعيد
تشكُّلَ الحياةِ فيها، كما تفعلُ دماءُ الشهداءِ الطاهرة. حتى الأبخِرةُ المُتصاعِدةُ نحوَ السماءِ، تعودُ
في فصلٍ جديدٍ، على شكلٍ خيوطٍ من بشائر، كذا هيَ أرواحُ أبناء هذهِ الأرضِ الطيبة.
في الرأسِ ملايينُ الخلايا تعملُ بأقصى طاقتِها، صورةٌ تروحُ، وصوَرٌ تحضرُ، حتى تتشكّلَ
لوحةٌ ملوّنةٌ لوطنٍ جميلٍ، مُخضّبٍ بالعرَقِ والدماء، هو جزءٌ من هذهِ الكُرةِ التي يعيشُ فوقها
ويموتُ، قابيلُ وهابيلُ، منذُ مئاتِ الملايينِ منَ السنين، وربما أكثر.
أما آنَ لقابيلَ أن يُدركَ أنهُ لن يفوزَ برحمةِ الأرضِ والسماءِ، إن لم يقبلْ حقيقةَ أنّ قتلَ أخيهِ
غيرَةً، وطمعاً، لم، ولن تمنعَ عنهُ النهايةَ المَشينة..؟! أما آنَ لهُ أن يجدَ طريقةً أكثرَ نجاعةً،
ليحظى بمثلِ ماحظيَ بهِ أخوه..؟!
ثِبْ إلى رُشدِكَ، يا قابيلَ العصر.. واقبَلْ أن تتقاسَمَ الخيرات مع أخيكَ، دونَ قتلٍ، ودونَ إراقةِ
دِماء.. واحذرْ دَعوَةَ المظلوم.. فهيَ مُستَجابة.
طنينٌ مُمَيّزٌ يُعلِنُ استلامي رسالةً عبرَ جهازيَ الخلوي :
(سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى في صوفِ "داعش " بينهم قيادي ميداني، ومحاولات
فاشلة من قبل المسلحين لسحب جثث قتلاهم من مناطق الإشتباكات الخلفية شرق جرود رأس
بعلبك في منطقة السمرمر وقرنة المذبحة، فيما تمكنت المقاومة من أسر عدد آخر من الجثث،
وقد انفجرت عبوات ناسفة بمسلحي التنظيم كانت المقاومة زرعتها في وقت سابق. )
أتنفسُ بعمق.. وأحمد الله.. وأبتهِل…………
_____________________________________________________

69

فاطمة صالح صالح
المريقب/ السابعة إلاّ ثلاث دقائق، عصر الثلاثاء التاسع من حزيران 2015م
_____________________________________________________

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
Print

إقرأ أيضامقالات مشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

تابعونا على فيس بوك

مقالات