يتعرض كوكب الأرض لخطرٍ ليس بالهين في عصرنا الحالي، لذلك نرى طرق تعاطي متشابهة تتبعها معظم حكومات العالم في سابقة لم تحدث من قبل. من هنا فإن المجتمعات الهادئة التي تحتكم للعقل وتحترم القوانين وتلتزم بالتعليمات الصحية هي التي ستتمكن من تجاوز الوباء بأقل الخسائر.. مجتمعات تؤمن بالتكافل الاجتماعي وتبتعد عن الجهلة وتترك الأمر لأصحاب الشأن ليتحدثوا عنه. هي جملة أمور وموضوعات قام بتفنيدها جراح العصبية السوري المقيم في فرنسا، الدكتور عفيف عفيف، في حديث بدأه بشرح مبسط عن ماهية الفيروسات باعتبارها كائنات دقيقة جداً لا ترى بالعين المجردة، وتحتوي على أحماض أمينية، ومن سماتها الأساسية التناسخ السريع عند توفر الظروف الملائمة ضمن الخلايا الحية وطفرات التحول، لذلك فإن أي فيروس نتعرض له يمكن للجهاز المناعي أن يتعرف عليه ويشكل له أضدادا، وفي حال دخل مرة أخرى يمكن أن يقتله الجسم ويدافع عن نفسه بفضل هذه الأضداد، لكن المشكلة إذا كان هناك طفرات يقوم بها الفيروس مختلفة عن الفيروس الأساسي، فهنا لا تتمكن الأضداد التي يشكلها الجسم من التعرف على الفيروس الجديد ولا من مقاومته، لذلك يحتاج الجسم لإنتاج أضداد جديدة.. وهكذا. وبالنسبة لفيروس كورونا الأمر مشابه، لكن الملاحظ انتشار الوباء في الكرة الأرضية بسرعة قياسية مع وجود بؤر بدأت في الصين وكوريا الجنوبية وإيران وإيطاليا ثم عممت بشكلٍ أكبر في العالم، وربما تكون هناك بؤر أخرى حتى في الولايات المتحدة الأمريكية.. إذاً، أولاً السرعة الكبيرة، وثانياً الوبائية التي أحدثها من خلال إصابة آلاف الناس في فترة زمنية قصيرة وخاصة في بداية وجوده، ومن ثم ازدياد أعادد الوفيات خاصة بين كبار السن.
إذا تحدثنا عن الإجراءات التي اتخذت – يتابع د, عفيف – سنلاحظ أنها كانت متأخرة نوعاً ما، ومردُّ ذلك أنه لم يكن بحسبان أحد أن الأمر سيتطور بهذا الشكل، ليتم لاحقاً تداركه خاصة في الصين التي قامت بعزل الناس والمدن المصابة عن بقية المدن، والطلب إليهم التزام البيوت، ليتم إيقاف الدوام وإغلاق المدارس والمؤسسات والشركات في الدوائر الحكومية وغير الحكومية، وبناء مستشفيات بسرعة كبيرة تتسع لآلاف المرضى خاصة في بلد كالصين عدد سكانه يزيد عن المليار ونصف.. كل هذه الإجراءات ساهمت بشكلٍ كبير في التصدي للوباء، وخلال الفترة الأولى تعامل بعض الدول مع الأمر بلامبالاة وصلت مع الأسف حد الشماتة بالصين وعدم مد يد العون لها. ولكن سرعان ما تغيرت الأمور وبدأت أوروبا وأمريكا باتخاذ إجراءاتها.. حتى فرنسا – التي تأخرت بدورها بالإجراءات وبرر البعض ذلك بأنها بلد ديمقراطي لا يمكنه إجبار الناس على التزام منازلهم مثلما فعلت الصين، “البلد الديكتاتوري”على حد قولهم، مدخلين السياسة بالعلم! – ما لبثت أن تداركت الأمر لتعترف بصوابية ما قامت به الصين. وهنا نسي الجميع قضية الديمقراطية والديكتاتورية المزعومة، وعملوا على تقليد التجربة الصينية التي اختصرت ووفرت جهداً صحياً كبيراً على الطاقم الطبي وعلى الناس والدولة وقللت من الوفيات وعدد الإصابات على الرغم من أن الأعداد كبيرة، خاصة مع وصول العدد اليوم إلى مليون و300 ألف مصاب معروف في العالم، منهم أكثر من 350 ألفا في أمريكا لوحدها.
المجتمعات الهادئة
تحدث الدكتور عفيف عن طريقة تعاطي الإعلام العالمي مع الأمر، موضحاً أنه قدم الجائحة بطريقة قاسية جداً ومباشرة، فأصيبت المجتمعات بالهلع، وهذا بالتأكيد يؤدي إلى خسائر كبيرة، لنصل في النهاية إلى نتيجة مفادها أنَّ المجتمعات الهادئة، في مثل هذه الحالات، هي التي ستتجاوز الوباء بأقل الخسائر، أي تلك المجتمعات الهادئة المتسامحة التي تحكم العقل بوجود تكافل اجتماعي مع احترام التعليمات الطبية؛ وما ينطبق على بقية البلدان ينطبق على بلدنا، لذلك المطلوب بدايةً هو الالتزام للسيطرة على الوباء أو تقليل خسائره من خلال اتباع التعليمات الصحية للوزارات أو المنظمات الأخرى، سواء بتقليل الاحتكاك وعدم الخروج من المنزل إلا للضرورة، والتباعد بين الناس، لأن اتباع التعليمات الصحية بحد ذاته حضارة وهدوء وتعقل، فلا نستطيع أن نطلب من غير العاقل الالتزام؛ وهذا ما لاحظناه، فالمجتمعات التي التزمت أكثر كانت نتائجها أفضل، والصين أكبر مثال، حيث يعرف عن الشعب الصيني الهدوء والالتزام والتعقل؛ ونلاحظ منذ سنوات استخدامهم للكمامات في الشوارع في حال المرض من دون خجل لحماية أنفسهم وحماية الآخرين.. إذاً، الهدوء والالتزام أعطيا النتيجة التي رأيناها، وبات الأمر أكثر استقراراً مع وجود بعض الوفيات وعدد أقل من الإصابات، بالتزامن مع ارتفاع العدد في دولٍ أخرى. وإذا أسقطنا التجربة الصينية على مجتمعنا، سنتجاوز الوباء بأقل الخسائر، وبقدر ما نلتزم ويتحلى مجتمعنا بالتعقل والهدوء واحترام التعليمات والتكافل الاجتماعي بقدر ما نصل إلى نتائج مهمة.
أصحاب الشأن
من وجهة نظر الدكتور عفيف: لا بد من البعد عن العنجهية وعدم خرق التعليمات والقوانين، وعدم تصديق من يدعي أننا قد لا نصاب بالمرض من مبدأ “يلي كاتبو الله بدو يصير”، وبغض النظر عن عدم معرفة من أين أتى هذا الفيروس، وهل هو زرع زرعاً، أم هو من تأثيرات الطبيعة، ومهما كان سبب وجوده، لا بد من الابتعاد عن المناكفات والجهلة ومدعي العلم.. يتوجب علينا أن نعترف بوجود الأخصائيين أصحاب الشأن، والموضوع لا يقتصر على كورونا فقط، بل لا بد من الابتعاد عن الجهلة حتى لو ارتدوا لباسا سياسيا أو دينيا أو اجتماعيا.. إلخ.
التكافل الاجتماعي
وهنا يشدد الدكتور عفيف على أهمية التكافل الاجتماعي كقضية مهمة جداً، فبقدر ما نكون متعاونين بقدر ما سنتمكن من تخفيف الآثار الضارة، خاصةً وأننا عانينا من حربٍ إرهابية ظالمة هدمت الحجر والإنسان، ما يجعل التكافل ضرورة ملحة، ناهيك عن القيم الأخلاقية والدينية والنفسية والحضارية التي تحض على التكافل الاجتماعي الذي لولا وجوده تنهار المجتمعات.
إجراءات الصحة
يوضح الدكتور عفيف أن ما قامت به وزارة الصحة يُسجل لها أو لنقل يُسجل لأصحاب القرار في الدولة السورية اعتماد إجراءات سبقت الظهور المعلن للوباء مقارنة مع دول متطورة تأخرت في القيام بها، خاصة في أوروبا، لأن الجهات المعنية في بلدنا لجأت للعزل وإيقاف المدارس قبل أن يستشري الوباء، لذلك لا بد من أن نساعد ونثني على الإجراء الصحيح ونضيء عليه، ومهما كان لدينا من مآخذ على تجاوزات وزارة ما أو إدارة ما، أو فساد هنا أو هناك، لا بد من تركه جانباً الآن، لأننا أمام وباء يجتاح العالم، والتقصير موجود في كل الدول، مع حرصنا على التخلص منه سواء لدينا أو لدى غيرنا.
الإعلام
للإعلام دور كبير يتمثل بتسليط الضوء على نقاط التقصير.. هذا ما أكد عليه الدكتور عفيف، خاصة عندما أشار الإعلام إلى مركز حجر لم يراع الشروط المطلوبة، وتم تدارك الأمر لاحقاً، وهذا أمر طبيعي وجيد، متابعاً: بالنسبة للاتهامات الموجهة للوزارة، سواء في بلدنا أو في أي بلد آخر، من حيث إخفاء أو التكتم على العدد الحقيقي، هذا أمر من غير الضروري البحث فيه من قبل الناس، لأن الرقم المعلن، وهو الرقم المعروف فقط، وصل حالياً في العالم إلى مليون و300 ألف مصاب؛ والرقم المعلن عنه في فرنسا مثلاً يصل إلى 91 ألف مصاب وقد يكون الضعف بسبب عدم مراجعة الأشخاص للمشفى أو المركز الصحي، والأمر نفسه ينطبق على أمريكا.. لذلك، وفي مثل هذه الظروف، ليقم كل منا بتنفيذ الإجراء المناسب له والمطلوب منه وترك الأعداد، لأننا، وفي كل مكان في العالم، لسنا متأكدين من الأعداد الحقيقية.. الأعداد المعلنة هي الرسمية المعروفة من قبل المستشفيات.. لنكتف إذاً بتطبيق التعليمات والتحلي بالهدوء..!! نحن كشعب نمتلك الكثير من المقومات الأخلاقية والاجتماعية والإنسانية التي تمكننا من أن نكون هادئين بعيدين عن الغوغائية والفوضى، ومن صبر تسع سنوات بالتأكيد يستطيع أن يصبر عدة أسابيع، وهذا من ضمن الهدوء والعقلنة التي تساعدنا على اجتياز هذه الفترة الصعبة.
الجانب النفسي
ولدى سؤاله عن الجانب النفسي، شدد الدكتور عفيف على أن الهلع يفقدنا القدرة على استخدام العقل والتسامح، مضيفاً: من الناحية المناعية فالجهاز المناعي هو أكثر من يتأثر بالوضع النفسي السيء، فالجراثيم أو الأورام السرطانية أو الفيروسات تستطيع أن تفتك بالجسم عندما يكون الوضع النفسي سيئاً بسبب تأثيره على إضعاف الجهاز المناعي، مع التأكيد على أن الطاقة الإيجابية والوضع النفسي الجيد يمكناننا من تجاوز الكثير من الحالات المرضية وقبول التحدي، بمعنى الالتزام بالتعليمات دون خوف، وهذا ما يبرر تأثير الأمراض أكثر على كبار السن، وهو ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية عندما دب الهلع وتوجه الناس إلى المتاجر لشراء المحارم الورقية والمعقمات والطعام لتخزينها، وقام الكثير منهم بمخالفة القوانين وتكسير المتاجر، ووصل الأمر لشراء السلاح.. فالخوف – قولاً واحداً – يذهب العقل، ومجتمعنا بالتأكيد لن يصل إلى ذلك.
وفي النهاية، الأرقام التي تصلنا صادرة عن مراكز صحية ومستشفيات، وربما العدد قد يكون أكثر، ولكن علينا بالمحصلة ألا نصاب بالهلع والخوف لأن الوباء سيتراجع مع الوقت، وكلما اتبعنا التعليمات الصحية بدقة أكثر، كلما قللنا من الإصابة، وهذا لا علاقة له بغنى المجتمع أو فقره.. له علاقة بالوعي والتعقل والهدوء والتكافل الاجتماعي والتسامح.
البعث