جاك وهبه
في بلد يطارد فيه المواطن أبسط حقوقه، يبدو أن مازوت التدفئة قد تحول إلى كائن أسطوري، يطفو على سطح التصريحات الحكومية مع أول نفحات الشتاء، لكن سرعان ما يتبخر عند أول موجة برد، الكل يسمع عن “خطة توزيع المازوت المدعوم”، وكأنها خطة لإنقاذ البشرية من عصر جليدي قادم، إلا أن النتائج على الأرض غالباً ما تكون أكثر شبهاً بمشاهد أفلام الخيال العلمي، حيث ينتظر المواطن دفء ليترات لم تصل أبداً.
الحكاية تتكرر كل عام، بحبكة جديدة ونهايات معروفة، تبدأ المشاهد الأولى بتصريحات لامعة عن “البدء بتوزيع المازوت… تدريجياً!”، يتخللها مشاهد مبتسمة للمسؤولين، وكأن الجميع سيعيش هذا الشتاء بأمان ودفء، ولكن في الواقع، يبدو أن “توزيع المازوت تدريجياً” يعني أن المازوت يتخذ جولة سياحية عبر المدن والأحياء، بسرعات تنافس سرعة السلحفاة، وعندما تلمح السلحفاة طيف الربيع من بعيد، نكتشف أن مازوت الشتاء قد أصبح ذكرى مضحكة نتداولها في جلسات السمر.
المواطن المسكين يقف في الصفوف، يصارع البرد ببطانيات متواضعة، وينتظر رسالة المعجزة التي تخبره بوصول دفعة المازوت، وبعد شهور من الانتظار، يجد نفسه متسائلاً: “هل فاتتني الدفعة؟ أم أننا نتحدث عن دفعة جديدة ستأتي في الشتاء القادم؟” وهنا يبدأ موسم الأسئلة الساخرة التي لا تجد لها جواباً سوى ابتسامة خافتة من موظف شاحب يخبرك: “الصهريج سيأتي قريباً… اصبروا قليلاً!”
والأكثر إثارة للدهشة أن رحلة المازوت من ‘الخطة إلى الواقع’ تشبه سباقاً مع الزمن، حيث يتنافس المواطنون على معرفة من سيحصل على “التنكة” أولاً، نعم، تلك التنكة التي تصل وكأنها غنيمة نادرة! المحظوظون يحصلون على نصيبهم، ليكتشفوا أن الكمية بالكاد تكفي لتدفئة أصابع أقدامهم ليوم واحد، وأمام هذا المشهد، يتساءل المواطن بمرارة: هل نحن نتحدث عن توزيع المازوت أم أننا في حلقة من برنامج كوميدي ساخر؟
وفيما يتابع المواطنون الأخبار وهم متحصنون بمعاطفهم الثقيلة، يطل المسؤولون مجدداً ليعلنوا بكل فخر عن نجاح الخطة الوطنية لتوزيع المازوت، و هنا، يبدو أن الانفصال بين التصريحات الرسمية والواقع بلغ حد الكوميديا السوداء، فكيف يمكن لحصة ضئيلة من المازوت أن تُترجم إلى دفء وطني شامل؟ هل نحن بحاجة إلى دراسة فن التصريحات الحكومية لتعلم كيف يمكن لليترات القليلة أن تتحول إلى إنجاز وطني؟
في النهاية، استمرار هذه المسرحية الشتوية ليس إلا انعكاساً لعجز دائم في تقديم حلول فعلية، فالوعود المكررة والليترات القليلة لن تكون كافية لمواجهة برد الشتاء القاسي، ما لم تُترجم إلى خطوات عملية تعيد للمواطن حقه في العيش بكرامة وأمان، ومع كل شتاء جديد، تزداد المسافة بين التصريحات والواقع، ليبقى الدفء مطلباً بعيد المنال إلا بإصلاحات حقيقية تأخذ بعين الاعتبار مصلحة المواطن قبل أي شيء آخر.