يتعرّض المال العام لمزيد من الهدر والتبذير، ما يؤدّي إلى كثير من الأضرار بالاقتصاد الوطني والمصلحة الاجتماعية العامة، إذ ما زال العديد من المنشآت الصناعية العائدة للقطاع العام متوقفاً عن العمل أو يعمل بخسارة أو بأرباح قليلة، ما يجعل عائدية رأس مالها الثابت والسيولة النقدية المرافقة له شبه معدومة أو أقل بكثير مما يجب أن تكون عليه، فضلاً عمّا قد يرافق ذلك من خسارة أكبر نتيجة المزيد من الاهتلاك والاهتراء في الأبنية والمعدات، ما يتطلب حصول تكاتف رسمي شعبي سريع ومتتابع للنهوض بها، بالتوازي مع إنشاء الجديد في ضوء الحاجة والإمكانات والمتطلبات.
اللافت في هذا السياق هو أن التأخر ما زال قائماً في إنجاز العديد من المشاريع الحكومية المهمة (أبنية وإنشاءات) التي امتدّ إنجازها لسنوات عديدة، تزيد كثيراً على المدة العقدية لوضعها في الخدمة، ما جعل المال الكبير الذي تم صرفه مجمّداً وغير مجدٍ، ما يوجب العمل باتجاه البدء بكل مشروع، وتكثيف العمل لإنجازه ووضعه في الاستثمار ضمن المدة العقدية، بدلاً من العمل في عدة مشاريع دون استكمال أحد منها، إلى جانب أن العديد من المشاريع القانونية والمخططات التنظيمية، التي شكلت لها لجان عديدة لدراستها وإقرارها قيد النظر، ولم يتم اعتمادها، بل كثيراً ما تمت العودة إلى الصفر في كثير من التشريعات والمخططات، ما تسبّب في حصول إنفاق مادي كبير غير ذي جدوى.
للأسف يظهر واقع الحال أن العديد من الأبنية والإنشاءات التي تم تشييدها تحتاج إلى مزيد من الصيانة (ما كان منها وهمياً أو حقيقياً)، وبعضها آيل إلى السقوط، وبعضها الآخر تم إخلاؤه أو إسقاطه، وينطبق الحال على كثير من الأثاث والتجهيزات والآليات…الخ، فبعض السدود –على سبيل المثال- خرجت من الخدمة لسبب أو لآخر، بدليل أنه سبق أن انهار أحد السدود القديمة بعد سنوات من تشييده، وآخر حديث احتاج إلى إعادة النظر في إنشائه منذ العام الأول لإملائه، كما أن أغلب السدود يعاني من تلوث بمياه الصرف الصحي، والعديد من الآبار التي تم حفرها لغاية الشرب وتم تجهيزها بأبنية ومعدات كلفت عشرات الملايين لا يعطي إلا كمية قليلة من المياه، وبعضها غير صالح للشرب، كما أظهرت الحرب العدائية أن كثيراً من قنوات الصرف الصحي /التي كلفت مليارات الليرات السورية/ في المدن الكبيرة، كانت صالحة كممرات للإرهابيين، وكأنها أعدَّت لهذه الغاية، والعديد من قنوات التصريف المطري في الشوارع وعلى جوانب الطرق العامة معطلة جزئياً أو كلياً نظراً لعدم تنظيفها بين فترة وأخرى، ما يوجب ضرورة الحرص على ضمان تحقيق عائدية أي إنفاق استثماري في ضوء الغاية التي أنشئ من أجلها.
كما أنه لا يزال الكثير من الأراضي -في أكثر من محافظة- محجوزاً لمصلحة جهات عديدة رهن تسوية أوضاعها المالية والإدارية، ما أعاق استثمارها من مالكيها الأصليين وأوقف استثمارها للغاية الموعودة من أجلها ومنع تحقيق المنفعة العامة المتوخاة والعائدية المتوجبة لميزانية الدولة في حال تم إنجاز الاستملاك والاستثمار، ما يوجب إيلاء ذلك الأهمية المطلوبة، وأيضاً ما زال العديد من الدوائر المالية والتأمينية والمصرفية يعاني من قصور في تحصيل الكثير من مستحقاتها، ما يوجب المعالجة.
كما أنه لا يزال كثير من الدعم موجّهاً لمن لا يحتاجون إليه أو لا يستحقونه، سواء الموجّه منه للمواطنين أم للمقيمين، ما يوجب الإعداد لاعتماد الدعم النقدي لمن يحتاج ويستحق بدلاً من الدعم العيني، ولا حرج في القول: إن الهدر الأخطر هو الذي يتم عبر صرف رواتب وتعويضات وحوافز ومكافآت ومهمّات وامتيازات لا يقابلها أعمال منجزة ينجم عنها إنتاج يغطيها.
ليس من الصواب الاحتجاج بالظروف الحالية، فالهدر قائم قبل هذه الظروف، ومن المتوجب خفض نسبته، فالمصلحة الوطنية تقتضي بناء الاقتصاد الوطني بالتوازي مع مكافحة الإرهاب، عبر الترافق الدائم بين إصلاح ما تم تخريبه وبناء الجديد، وليس الانتظار، فوقف الهدر واجب وممكن لدرجة كبيرة حتى في ظل الحرب، فالجيش الذي يقاتل الأعداء يتطلب وجود جيش من العاملين يوقف الهدر ويعيد بناء ما تهدّم ويبني الجديد، وليس الانتظار.
عبد اللطيف عباس شعبان
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية
هذا المقال منشور في صحيفة البعث ليوم الاربعاء 2015-10-28- العدد-15429