لسنين خلت كان الباب مفتوحا على مصراعيه أمام القطاع الخاص الذي تم تصنيفه قطاعا وطنيا واعتباره جناحا من جناحي الاقتصاد الوطني، وعُلَّقت عليه آمال الكثيرين رسميا وشعبيا، أكان من جهة حل مشكلة البطالة أم من جهة مساهمته في رفع معدل النمو، وإذا كان من الإجحاف عدم الاعتراف ببعض دوره في ذلك، يبقى من الإنصاف الإقرار بان ما تحقق من دوره المنشود كان اقل مما هو موعود ومأمول، نظرا لانصراف القطاع الخاص باتجاه الاستثمار في القطاع الخدمي / قطاع النقل – قطاع المصارف والصيرفة – القطاع السياحي – التجارة الداخلية والخارجية – التعليم الخاص بجمبع مراحله – المراكز والمشافي الصحية ……/ ، والمأساة الكبرى تجلت من خلال خروج بعضه خارج القطر، حتى أن دخول القطاع الخاص بكثافة في مجال السكن والإسكان لم يخفف من الأزمة، بل تسببت طموحاته الربحية في زيادة أسعار المساكن بشكل كبير، بل رفع أسعار القارات المناسبة للبناء.
قليل من رجالات القطاع الخاص اتجه إلى الميدان الاستثماري الإنتاجي للسلع، ومعظمهم كثَّف نشاطه باتجاه استيراد المزيد من السلع الإنتاجية والاستهلاكية، بدلا من الاتجاه إلى المزيد من إنتاجها، والمؤسف أنه كثيرا ما صدَّروا بعض من نحن بحاجته واستوردوا ما نحن بغنى عنه، أو هو ذو نوعية غير مدروسة، فسوقنا التجارية الداخلية شهدت وما زالت تشهد آلاف السلع المستوردة، بما في ذلك السلع النسيجية والسلع ذات المنشأ الزراعي، وخاصة ما كان منها معلَّبا أو مصَّنعأ، وأحيانا ما هو طبيعي، رغم المساحات المزروعة بالحبوب والخضار والأشجار، إذ لم تحظى الزراعة ولا الثروة الحيوانية، باهتمام القطاع الخاص الاستثماري، لا بل انخفض الإنتاج الزراعي الأهلي بسبب هجر الكثير من الحائزين لحيازاتهم، وكذا كان حال الثروة الحيوانية التي تعاني من انقراض التربية المنزلية، ما جعلنا نشهد ارتفاع غير مسبوق في تاريخه لجميع المنتجات الزراعية والحيوانية، وبعض المنتجات الزراعية انقرضت أوفي طريقها إلى الانقراض، ومثال ذلك الحرير الطبيعي الذي كان مصدر دخل موسمي لعشرات آلاف الأسر، وانخفض إنتاج مادة الفستق السوداني بشكل كبير، كما أن تربية الماشية انخفضت وانخفض الإنتاج الحيواني بشكل عام، وارتفعت أسعار المنتجات اللبنية بشكل كبير، وأصبحت مادة لحم الماشية من المنسيات لدى الكثير من الأسر حتى في المناسبات ، واقتصر استهلاكهم على الفروج الذي أصبح سعر الكيلو غرام الواحد منه، أعلى من سعر ثور البقر في ستينات القرن الماضي0
إن حضور القطاع الخاص في السوق الاقتصادية الوطنية حاجة وطنية ماسة، ومن حقه أن يجد بعض الإغراءات الإنتاجية، ولكن ليس من حقه المزيد من الطموحات الربحية، بحيث يكون هذا الحضور مدروسا ومنظما وموجها، بما يضمن مصلحة رأس المال الوطني ومصلحة الوطن معا، وبما يحقق عائدا مقبولا للمستثمر، ومنفعة مفيدة للمستهلك، بعيدا عن المزيد من أرباح المستثمرين، والمزيد من معاناة المستهلكين، والمزيد من تهرُّب القطاع الخاص من دفع المستحقات عليه لصالح التأمينات الاجتماعية، ووزارة المالية والجهات الرسمية الأخرى، وأن يكون هذا الحضور متميزا في القطاعات الإنتاجية، ولو اقتضى ذلك منح القطاع الخاص بعض الإغراءات، على أن يترافق ذلك بالحد المتتابع من حضوره في القطاعات الخدمية، ولو اقتضى ذلك فرض الكثير من القيود، ومن المفيد جدا اعتماد هذه الإغراءات والقيود في التشاركية المنشودة مع القطاع الخاص الذي ليس من حقه ولا من مصلحة الدولة أن يكون حرا في اختيار ما يراه مناسبا له، ما لم يكن ذلك مناسبا لشريحة العاملين وللمصلحة الوطنية العامة، وإذا كان من واجب الإدارات العامة استبعاد جميع منغصات استثمارات القطاع الخاص، فإنه يبقى من واجب الأخير التقيُّد بالترتيبات الواجبة الإجراء، وألا يتهرب من الالتزام بما تمليه المصلحة الوطنية العامة، وألا يتردد في الاستثمار داخل القطر نظرا لأن أمنه وامن ماله أكثر توفرا مما هو عليه الحال في كثير من بلدان العالم، رغم الظروف الآنية العرضية التي يمر فيها بلدنا الحبيب.
إن جناحي القطاع الوطني الاقتصادي الخاص والعام ( وعبر الحضور الكبير للدولة ) معنيان معا بتكثيف نشاطهما في الاتجاه الإنتاجي كتصنيع الفوسفات بدلا من تصديره خاما ، واستخراج وتصنيع النفط والغاز من الأراضي السورية، وباتجاه تنشيط الزراعة، حيث يعتبر تنشيط الثروة الحيوانية مدخلا أساسا لتنشيطها، نظرا لأهمية الثروة الحيوانية في إنتاج الألبان واللحوم، وإنتاج السماد العضوي، الذي يساهم في تحقيق الإنتاج العضوي الذي تعمل له وزارة الزراعة، عبر مديرية الإنتاج العضوي المحدثة لديها، والعمل باتجاه تصنيع المنتجات الحيوانية لتغطية السوق المحلية بدلا من المعلبات المستوردة من الخارج، وتصدير الفائض.
عبد اللطيف عباس شعبان / عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية
هذا المقال منشور في صحيفة البعث ليوم الجمعة 15 / 1 / 2016 ص / 3 / العدد / 15483 /