رغم فارق العمر بيننا, ربطتني به علاقة احترام ومودة وصلت لحد الثقة والبوح لي في أغلب الأحيان رغم البعد الإنطوائي بشخصيته وطبيعته الحذرة التي جعلته يحافظ على مسافة بينه وبين الآخرين كل ذلك مردّه إلى الخوف وهو سمة مراحل عمره كلها وهذا شيء مخطط له بدقة لتستمر عملية “النهش” واضطهاد المعذبون. في كل مرة أجلس معه كنت أكسب المزيد من ثقته وألتمس ارتياح لمجالستي ربما لأنه وجد فيّ “أهل” ومطرح يمكّنه أن يتكلم ويسرد ما بداخله وبالأخص قصص الظلم والعذاب التي تعرض لها هو وأهله بسبب قساوة الواقع الذي ينتمي إليه.
بالأمس القريب وفي إحدى السهرات برفقة المشروب الأشهر “المتة” تحدثنا بالأوضاع التي وصلنا إليها فتشعب الحديث وصولا لبعض محطات الماضي المؤلم قائلا لي: في أواخر الستينيات أرسلني والدي وهو يعلم على ما أظن أن إهانتي واقعة لا محالة إلى بيت أحد المتنفذين -بحكم موقعه الرسمي ولا مناص لنا من اللجوء إليه- للحصول على توقيعه وموافقته على أمر ضروري وملّح.
كان المغرور من النوع الذي لا يقيم وزنا ولا أهمية لأحد من أهل بلدته فالجميع كما يقال في الشائع “من ركبته وتحت” وهذا كله يعود للمنبت ونشأة التعالي التي ورثها “أبا عن جد” فهو أبن (العائلة) التي لا يجوز لها الإنخراط والنزول إلى مقام أهل العوز والحاجة لأنه منقصة وتهمة, فالإنسان في عرف هذا وأمثاله هو من حيث ينبت لا من حيث يثبت خلافا لحكمة أهل الهدى المعروفة وهو سليل الإقطاع الذي يعتبر أن كل شيء مباح لا حواجز ولا خطوط من أي لون يمكن أن تردعه!!. ما إن وصلت إلى أمام دارته حتى بدأ الإرتباك والقلق الذي لامس حدود الخوف ينال مني شيئا فشيئا فالخشية منه تمكنت في نفوس معظم “القرويين” وربما هذا ما كان يدفع الآباء و والدي منهم إلى عدم امتلاك الجرأة لمقابلته لأنه لن يتوانى عن مخاطبتهم بأحقر العبارات وأكثرها بذاءة ظنا منه أنها الطريقة (المثلى) للإستمرار بضبعهم (إذلالهم). بتردد وصوت خافت ألقيت التحية والسلام كما أوصاني أبي, طبعا لم يرد التحية فليس هذا من شيمه وهو غير وارد في قاموسه المفتقر أصلا للأخلاق والقيم.
باشرني “أبن مين أنت” قلت ابن أبو سلمان, شعرت بسخريته قائلا أنت ابن فلان الفلاني لقد استكثر على والدي أسمه الحقيقي فنعته بلقب له للتقليل من قيمته وقدره. قلت له: نعم.
تابع صديقي لا أخفي عليك في هذه اللحظات ما شدّني هو منظر الطبق (المائدة) الممدودة أمامه ففيها كل ما تشتهيه في الوقت الذي كانت الناس لاتجد ما تسدّ به الرمق من الجوع الذي كان حالة شبه عامة يومها.
أخذ تلك الورقة التي كانت بحوذتي ورماها أمامي قائلا: “يلّا من هون ولاك”! لن أنسى هذه الحادثة ما حييت فكيف ينسى الإنسان الآلام التي رافقت مراحل العمر الأولى والتي بها يتشكل وعيه.
هذه من قصص الزمن الجميل لا تظنوا أن الحاضر أجمل فهو مليء بمثل هذه الشخصيات “المنحطة” ولكن بلون مختلف…………