من المجمع عليه أن الفساد ظاهرة متتابعة الظهور على مرّ العصور، مع بعض التباين الملحوظ في حجمها ومخاطرها زماناً ومكاناً، ويندر أن تقف السلطات الرسمية موقف المتفرّج على ما هو قائم من فساد أياً كانت أشكاله وأنواعه، بل كثيراً ما أعلنت عن مناهضتها له عبر إصدار بعض التشريعات واتخاذ مجمل الإجراءات، ومع ذلك جاءت حصيلة مكافحة الفساد أقل مما هو متوخَّى رسمياً، أو مأمول شعبياً، نتيجة ضعف بعض ما هو معمول به من تشريعات أو قصور العديد مما تم اتخاذه من إجراءات، ما أضعف من معالجة العديد من حالات الفساد، وكرَّس تمترس العديد مما هو مزمن منها، ومهَّد لظهور حالات أخرى جديدة، نتيجة مجمل تراكمات نجم بعضها عن تهاون أو ضعف أو قصور أو تقصير هذا الطرف أو ذاك من الجهات الرسمية المعنية بالرقابة على اختلاف تسمياتها، ونجم بعضها الآخر عن استمرارية شريحة غير قليلة من متمرِّسي الفساد في تبوّؤ المهام التي كانوا وما زالوا يمارسون فسادهم فيها أو في مهام أخرى تبوّؤوها مجدداً، وخاصة أولئك الذين اعتادوا استهجان قرارات التفتيش ووضعها على الرف، أو اعتمدوا المماطلة في تنفيذها عبر المزيد من الأخذ والرد، أو الاستعانة بالقضاء لإلغاء الكثير منها.
لسنوات خلت تم الترويج لتشكيل هيئة مكافحة الفساد التي لم ترَ النور حتى تاريخه، هذه الهيئة التي كان يجب أن يسبقها بشكل أولي تفعيل وتكثيف دور الهيئات القائمة، وخاصة الهيئات الرسمية الممثلة بالإدارات العامة والأجهزة الرقابية -على اختلاف تسمياتها ومهامها- والقضاء، باتجاه الإعداد التشريعي التنفيذي للخلاص من حالات الخلل التي تعاني منها بعض قرارات الأجهزة الرقابية، وأيضاً حالات الإخلال التي تصدر عن القضاء بشأن العديد من هذه القرارات، وضرورة إلزام الإدارات العامة بتنفيذ القرارات الصادرة عن كلتا الجهتين، دون أي تلكؤ، وأيضاً تفعيل وتكثيف دور الجهات الرقابية الأخرى، المتمثلة بمجلس الشعب والإعلام والرقابة المنظماتية والشعبية، فلمجلس الشعب دور رئيس في مكافحة الفساد عملاً بمهمّتيه الأساسيتين -التشريع المحكم والرقابة الصارمة- وأيضاً للإعلام الرسمي والخاص -وخاصة المرخّص له- دور رئيس انطلاقاً من كونه السلطة الرابعة، وأيضاً للمنظمات بأنواعها دورها الرقابي، وكذا الأمر لكل مواطن دور، عملاً بحقه وواجبه في ممارسة الرقابة الشعبية، ما يستدعي الحاجة إلى إصدار واعتماد تشريع يوجب عدم الحدّ من نشاط أية جهة من هذه الجهات، بل اعتماد ما يشجّع كلاً منها على المزيد من أداء دورها الموضوعي الصادق والجريء، بعيداً عن الخضوع لأي إحباط أو تثبيط، شريطة أن تجتنب أية جهة رقابية إطلاق التهم جزافاً دون تحقيق وتوثيق.
يظهر واقع الحال أن العديد من حالات الرقابة الشعبية مكبوحة من المفسدين في الإدارات التي تتعمّد مفاصلها إحالة موضوع الفساد المشار إليه من مفصل إلى آخر، كي ترهق الشاكي الذي دلّ عليه، وتتناوب الافتراءات التي تقدّمها للمسؤول الأعلى بغية تضليل قراره خلافاً لصدقية الشكوى، ولضمان تغطية الفساد المشكوّ منه، بدلاً من كشف ومحاسبة مرتكبيه، وبعض الأجهزة الرقابية لا تولي الفساد المثار أمامها الأهمية المطلوبة، وقد تُجيَّر التحقيقات بما يغطي الفساد ومرتكبيه، تبعاً لثقل الشاكي والمشكوّ عليه.
إن الحدّ من استشراء الفساد يستدعي تفعيل دور تكاملي بين جميع الجهات المعنية القائمة عبر مزيد من التشريعات المحكمة والرقابة الصارمة، وأن تكون الجهات الرسمية جادة وأمينة في معالجة كل حالة فساد، ومعنية وملزمة بمتابعة حالات الفساد التي تثيرها بقية الجهات الرقابية، وتعتبرها بمنزلة معلومة -شكوى- واجبة المتابعة، وتعمل الجهة الرسمية على توثيق ما أمكن للمعلومات المتعلقة بها بالتعاون مع الجهة التي أثارتها، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة قيام الجهات الرسمية بإيلاء أهمية لبعض الشكاوى الملحّة التي لا يملك مثيروها وثائق كافية بشأنها، ولكن ظواهر عديدة توجب أن تقوم الجهات الرسمية التحقيق بها، ما قد يكشف صحة الكثير منها، فالمزيد من تفعيل الإدارات القائمة المعنية بمكافحة الفساد، يؤسّس للدور المنوط بهيئة مكافحة الفساد الموعودة.
عبد اللطيف عباس شعبان
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية
هذا المقال منشور في صحيفة البعث ليوم الأربعاء 30 / 3 / 2016
ص / 3 / العدد / 15534