أكثر من خمس سنوات مضت، وما زلنا نعيش وقائع ومنعكسات الحرب العسكرية الشرسة التي تشنّها علينا قوى محلية وإقليمية ودولية، والتي نجم وينجم عنها المزيد من التخريب والتدمير والتشنيع والقتل. ولعل ما يدعو إلى الاعتزاز أن معظم الرسميين وعامة الشعب، منشغلون بمواجهة المخاطر المترتبة يومياً على هذه الحرب، متحسّسين ضرورة التصدّي الآني والمتتابع لها. ولكن كثيرين منهم أقل انشغالاً أو أقل نجاحاً في مواجهة مخاطر الحرب الاقتصادية، ما كان منها ذا منشأ داخلي أو خارجي، حيث لم يعِ الكثيرون وقائعها ونتائجها، التي سبقت ومهّدت لهذه الحرب العسكرية منذ سنوات، وما زالت مترافقة معها، وبِدورٍ يزداد سوءاً وأثراً في إطالة أمد الحرب العسكرية.
لقد بدأت الحرب الاقتصادية عبر ما شهدته الإدارات العامة من خلل إداري وقصور في الأداء الفردي والمؤسساتي والمنظماتي، والتباين الكبير بين ما تنصّ عليه بعض التشريعات وبين ما هو قائم في العديد من الممارسات، وما رافق ذلك من أشكال متعدّدة من الفساد في الوسطين الشعبي والرسمي، واعتماد شعار الحدّ من الدور الأبوي للدولة، وشرعنة تخلّيها عن مئات المنشآت العامة ذات الطابع الإنتاجي والإنشائي، ومنشآت التجارة الخارجية والداخلية ومنشآت النقل الداخلي والخارجي، تحت غطاء خسارة وتخسير الكثير منها، ما أدّى إلى توقف بعضها كلياً أو جزئياً أو خروجها نهائياً من العمل، ما حدَّ كثيراً من حضور الدولة الذي كان له ثقله الاقتصادي والاجتماعي الكبيران قبل عقود، وتكرَّس ذلك تباعاً نتيجة عدم إقرار واعتماد السلطات الرسمية للبرامج الموعودة والمنشودة في الإصلاح الإداري وإصلاح القطاع العام ومكافحة الفساد، رغم التنظير الكبير –أكاديمياً ورسمياً وإعلامياً– الذي تم بهذا الشأن، بل تبيَّن وجود مساعٍ إيذائية متعمّدة من بعضهم لتكريس ما هو قائم من خلل وقصور وفساد، بل رفع وتيرة ذلك، إثر التهجير الذي شمل مزارعي الجزيرة نتيجة عدم استيعاب مشكلة الجفاف التي عانوا منها، وتراجع الثروة الحيوانية بجميع أنواعها في كل المحافظات -عدداً وإنتاجاً- نتيجة التصدير غير المدروس ونتيجة غلاء الأعلاف وخلل توفرها، أيضاً تراجع الإنتاج الصناعي والحرفي الخاص نتيجة غزو كميات وأنواع من المستوردات للسوق المحلية، تحت غطاء اتفاقات تجارية إقليمية ودولية، وتم ترويج وتسهيل الاقتراض المصرفي لغايات استهلاكية، ما تسبّب في ازدياد النزعة الاستهلاكية الأسرية.
كل ذلك تفاقم وما زال يتفاقم، وما نشهده من حرب اقتصادية بلبوس جديد أخطر بكثير، هذا اللبوس الذي تجلى بندرة توفر فرص العمل في القطاعين العام والخاص، ما دفع القوى العاملة باتجاه الهجرة، وأدّى إلى حالات من التشتّت الأسري، وأفقد البلد المزيد من القوى العاملة المتخصصة والخبيرة، ولا يغيب عن بال أحد خطورة الارتفاع المتتابع في أسعار مواد البناء، ما سيضعف حلم أغلبية الشباب في تأمين مسكن ما سيؤدّي إلى الحد من الزواج، والأخطر من ذلك الارتفاع الجنوني المتتابع في أسعار حاجات ومستلزمات الأطفال من سن الولادة حتى دخول الابتدائي، ما سيحدّ كثيراً من الإنجاب.
وأخيراً وليس آخراً تجارة الدولار التي أضعفت القوة الشرائية للعملة المحلية، هذه العملة التي كان لها ثقلها الشرائي الكبير قبل سنوات خلت، وكل ذلك ترافق مع إطلاق العنان للقطاع الخاص تحت عنوان أنه أحد جناحي الاقتصاد الوطني، ولكن واقع الحال أثبت أنه لم يكن عند الثقة الموعودة منه والآمال المعلّقة عليه، فربح ليرة زائدة في استيراد سلعة دفع الكثير من رجال الأعمال إلى استيرادها بدلاً من إنتاجها، ومع ذلك ما زلنا نشهد تتالي الدعوات إلى مزيد من حضور القطاع الخاص، تحت أكثر من عنوان، بما في ذلك الميدانان الأكثر حساسية “الصحة والتعليم”، وتباطؤ الخطوات بخصوص استنهاض حضور القطاع العام، وقانون التشاركية مع القطاع الخاص هو أحد العناوين المطروحة.
قراءة عاجلة في واقعنا الاقتصادي قبل سنوات، وما نحن عليه الآن، وما تقتضيه المصلحة الوطنية في القادم من السنين، تستوجب الأخذ بعين الاعتبار ضرورة المزيد من الحضور الرسمي والشعبي في مواجهة الحرب الاقتصادية، وذلك لا يقل أهمية عن الحضور المشهود في الحرب العسكرية، فالنصر الاقتصادي مدخل أساس ورديف مهم للنصر العسكري.
عبد اللطيف عباس شعبان
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية
هذا المقال منشور في صحيفة البعث العدد / 15576 / -ليوم
2016-5-31-