وأجزمُ أنها ماتزالُ مبتسمة..
بعد قليل، سيدفنونَ الترابَ، في التراب..
لكنّ ابتسامتكِ باقية..
مطبوعةً على صفحات الكون، تحكي شقاءَ عمرٍ، واصطبار..
بدأ اصطبارُكِ، منذ أوّلِ جَدٍّ، وجَدّةٍ، في قريتنا الغالية..
قريبتي، أنتِ يا وفاء.. قريبة الروح، والنسَب، والمبادئِ، والشقاءِ، ومتعةِ العطاء..
لكنكِ أكثرُ صبراً مني، ربما..
هل كافأكِ المَولى، وأنهى آلامَكِ التالية، قبل أن تبدأ..؟! ربما.. وهذا أملُنا بالله، أيتها الطيبة..
الدقائقُ المُتبقيةُ، فوقَ هذه السمراءِ الحارقةِ، والخصيبةِ، والخضيبةِ، تنقصُ بالتدريج..
هذا العام، سبَقكِ إلى حضنِ أمنا الأرض، جَسَدُ أخيكِ الأكبر، علي.. تلاهُ جَسَدُ أمّكما البائسة أم علي، والتي قالت لبِكْرِها، عندما أخبَروها بارتِقائه : سبقتني، ياعلي..؟!
عشتم أيتامَ الأبِ، وشبهَ أيتامِ الأمِ، منذ الثاني والعشرين من حزيران عام ألف وتسعمئة وسبعين ميلادية، عندما ابتسَمَ أبوكِ ابتسامَتهُ الأخيرة، والتي بقيَت مصلوبةً على صَدرِ السماءِ، وماتزال..
غارَةٌ صهيونيةٌ، استهدَفت ( مستودَعَ الأسلحةِ ) الذي كان يحرسهُ، مع رفاقهِ في الجيشِ العربيّ السوريّ..
كانَ (أبو علي ) للتوّ أنهى تجهيزَ إبريق الشايِ الغامِقِ، والمُحَلّى بالسّكّر، وللتوِّ، بدأ، ورفاقُهُ بارتشافِ أولِ كأس..
ارتقى مُضرّجاً، ومُخضِّباً أرضَ الجَنوبِ، قربَ العاصِمة..
قيلَ، أنه ظلَّ مبتسِماً، وهو يرقدُ في مشفى (601 )، مُثلّجاً، قبلَ أن تنقلَهُ سيّارةُ إسعافٍ، إلى قريتنا، ويُدفنَ قربَ مقامِ (الشيخ علي سلمان )، وقربَ أجدادكم، وأجدادِنا، في ظلالِ السنديانِ المُعَمَّر..
أبي يرقدُ، منذ التاسع عشر من كانون الثاني عام ألفين وتسعة ميلادية، قريباً من رفيقِ صِباه، وقريباً من عمي، وأبيهِما، جَدّي البطل، المُجاهد (الشيخ سليم صالح ) وإخوته..
أخي، يبعد عنهم عدة أمتارٍ، جنوباً.. فوقَ بعضِ مَراقِدِهم صندوقٌ حجَريّ مَطليّ بالإسمنت، وبعضها يكسوها رخامٌ أبيض..
أخوكِ، أقرب إلى الطريق العام، الواصِلِ بين شمال الوطنِ وغربه، شرقه، وجنوبه..
كنا في عمرَينِ متقاربَين، وكانَ يشكو من تعالي أبناء خالته، الذين يدرسون الطبّ، ويستأجرون بيتكم في دمشق، بعد أن خَلا مِن أهلِه.. وكنتُ أشاركهُ الشكوى منهم.. نجلسُ في غرفتهِ الصغيرة، نشربُ الشايَ، ونتبادَلُ الشكوى..
(علي ) كان طيباً جداً، مثلكِ، يا وفاء.. جميلاً، خجولاً، مكسوراً..
كان في الصفّ التاسع.. نزلَ إلى القريةِ من بيتكم الطينيّ – بيت جدّك، أو بيت خالتي.. معكم، ومع باقي إخوتك، وأخواتك، وهوَ يحجبُ وجهَهُ، بكفّيهِ الحارقتين، ويضغطُ على عينيه المُغمَضتين، لا يُبالي بحَصى الطريقِ المُنحدِرةِ على (الصّفحَة ) هائماً، مُتلاشياً، يحاولُ ألاّ يرى حقيقةَ ما سَمِع.. لكن….
مازلتَ تحرقني، يا أخي علي.. وستبقى..
(كوكَب ) كانت صامتةً، من هَولِ الصّدمة، لم تفرجْ عن مشاعرها سوى عندما بدَت جنازةُ أبيها الشهيدِ، نائحةً، قادمةً من دمشق، إلى طرطوس، ثم إلى (المْرَيْقِب ) مسقط رأس الشهيد.. ودّعته القرى المتناثرةَ على جانبيّ الطريق..
أمكِ، التي كانت دائمةَ المرضِ، خصوصاً أثناءَ حَملِها بكِ، وبأختكِ الأصغر، أحضرَها الأقاربُ والمَعارِف، من دمشق، وبالكادِ، استطاعوا التخفيفَ من صُراخِها، ونَدبِها، وانتِفاضِها، وهي ترى الترابَ الأبيضَ يغمرُ جسَدَ حبيبها، ورفيق دربها البائسة.. أبي كان يهدّؤها، بقوله : وَحِّدي ألله، وطوِّلي بالكِ، يا ابنةَ عمي.. وهي لاتسمع ولا ترى ولا تهدأ..
دقائقُ عِدّة، ويُدفَنُ الترابُ بالترابِ، في قريةِ زوجكِ الطيب، قريتِك.. وسيودّعُكِ زوجُكِ، وابنتك، وابناكِ، وأخوكِ، وأخواتك، وبعضُ العائلة، وبعض المعارف.. أختكِ (أمَل ) لا أظنّ أن باستطاعتها حضور الجنازة، فالطريقُ بين الحسَكة، وطرطوس، يقطعُها المجرمونَ، أعداءُ الحياة..
أخوكِ الثاني، أشكّ أن بمقدورهِ توديعَك.. تطوّعَ في الجيش، منذ أول هذا العدوانِ الغاشِم، ربما، ليكفِّرَ عن ذنبٍ اقترَفهُ في لحظةِ طَيش، وربما، لينتقمَ لأبيه الشهيد، أو ليُحارِبَ الفقرَ والمَرَض، أو لكلِّ ذلك.. عدّةُ نوباتٍ قلبيةٍ داهَمَتهُ، وأجرَتْ لهُ (جَمعيّةُ البستان ) الخيرية، عمليّةَ قلبٍ مَفتوح، لكنه لم يستطعِ التقيّدَ بنصائحِ الأطباء، وراح يُجهِدُ نفسه بالعمل بالأرض، وأدخلَ المشفى لأكثر من مرة، عادَ بعدَها لينضمّ إلى الجيش، ويخدمَ في أكثر من منطقةٍ خطرة، في فرعِ المُداهَمة، في الصفوفِ الأولى، ويُبلي بلاءً حسناً، أصيبَ أكثر من مرة، وأسعفه رفاقهُ، دون أن يهتمّ كثيراً، هو الآن في الرقّةِ المُشتعِلة، مع رفاقهِ الأبطال، يقتحمون مواقعَ العدوّ، وأجنادَهُ الشرِسينَ الجُبناء المخمورينَ بنشوةِ القتلِ، أو بنشوةِ حشيشةِ (الكيف )..
الساعةُ الآن، تشيرُ إلى الحاديةَ عشرة..
أظنّ أنهم يُصَلّونَ على جثمانكِ الضئيل، ويتحَلّقُ عشَراتُ المُشيّعين، يردّدون الصلاةَ والدعاءَ خلفَ الشيخِ الذي يؤمّ صلاةَ الجنازة، وترابُكِ الغالي يرقدُ بسلامٍ، فوقَ سريرٍ خشبيّ، تغطّيهِ ملاءةٌ قطنيةٌ ناصعةَ البياض، بنصاعةِ قلبكِ الذي لم يحتمل التخدير، وبنقاءِ روحِكِ التي ترفُّ فوق الجميعِ، غيرَ عابئةٍ ببكاءِ النادِبين والنادِبات..
(يا أيتها النفسُ المُطمئنة، ارجعي إلى ربّكِ راضيةً مَرضيّة، وادخلي في عِبادي، وادخلي جَنتي. )
رحمةُ اللهِ تعالى على روحِكِ الطاهرة، يا وفاء..
أختك، وجارتك، وقريبتك
فاطمة
الثلاثاء 5/ 7 / 2016م
__________________________________________________
- الرئيسية
- ثقافة
- وفاء…- الأديبة فاطمة صالح صالح
وفاء…- الأديبة فاطمة صالح صالح
- نشرت بتاريخ :
- 2016-07-05
- 9:28 م
Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
Print
تابعونا على فيس بوك