منذ عقود عدة والمصارف الرسمية العاملة في سورية كثيرة ومتنوعة ومنتشرة على مساحة القطر، ضمن أبنية عادية وأثاث بعيد عن الترف، وعاملين متميزين برتابتهم لا برواتبهم التي هي عادية جدا، على غرار رواتب الكثير من العاملين في الجهات الحكومية الأخرى، والمتميزين جدا بأدائهم المكثف المتتابع والدقيق طوال النهار ومساء عند الاقتضاء، ويشهد بذلك جميع من تعاملوا مع هذه المصارف، وإن حدث أن شكا بعضهم من تأخير معاملته بسبب كثافة العمل، فلقد كانوا قلة أولئك الذين شكوا من سوء المعاملة، وقد أدت هذه المصارف أدوارا اقتصادية كبيرة في الميادين الإنتاجية والخدمية، إذ منحت القروض الزراعية والتجارية والحرفية والصناعية والسكنية والخدمية بأنواعها، ما أسس لنهوض اقتصادي كبير، كاد يلامس الطموح الرسمي والشعبي.
تحت عنوان ضرورة تحقيق المزيد من النهوض الاقتصادي المنشود، شهدت السنوات الأخيرة دخولا متتابعا ومكثفا للمصارف الخاصة الممولة داخليا وخارجيا، والمتميزة بأبنيتها المزركشة وأثاثها الفاخر، وأناقة عامليها ورواتبهم المميزة، بل والمتميزة جدا للوظائف العليا، التي تفوق عشرات أمثالها في المصارف العامة، وكان المأمول أن تساهم هذه المصارف في نهضة اقتصادية كبيرة، وخاصة في الميادين الإنتاجية، ولكن العمل لم يقارب الأمل، إذ انكبَّت هذه المصارف باتجاه القروض الخدمية والاستهلاكية والترويج لها، والتركيز على خدمة زبائنها إيداعا وسحبا، مع المزيد من الشروط وطلب الضمانات للقروض الإنتاجية، ويندر أن برز لهذه المصارف نشاطا متميزا في قطاع إنتاجي كبير.
الملفت للانتباه أن بعض المصارف – بنوعيها العام والخاص – وقع ضحية محتالين اقترضوا قروضا كبيرة بمئات الملايين وبعضها بالمليارات وهربوا، أكثر مما وقع ضحية مستثمرين فعليين، اقترضوا بالملايين ولكن استثماراتهم تعثرت أو تضررت أو تدمرت، ما اضطرهم إلى تأخر تسديد الأقساط المستحقة، ما دفع الكثير من المصارف للتريث والتردد في منح الكثير من القروض بحجة ضعف أو عدم توفر ضمانات التسديد، وأصبحت تشكو من ضعف الحركة المصرفية، علما أن العديد من قروض المحتالين أو المتعثرين قد عولجت جزئيا، أو قيد المتابعة المأمولة لدرجة ما، فالخسارة المصرفية غير معهودة في بلادنا، وما زالت أرباح المصارف كبيرة جدا وفقا لاعترافات إداراتها، ولكن يبدو أنها أقل من المنشود، وتحديدا فيما يخص المصارف الخاصة الطامحة بل الطامعة بالمزيد، ما دفع هذه المصارف باتجاه المطالبة بوجود جهات ضامنة لتأمين سداد القروض، دون أن يغيب عن بالها ما سيترتب على ذلك من أعباء مالية لا يستهان بها، غير آخذين بعين الاعتبار أن المقترضين سيتحملون القسم الأكبر منها.
قد يكون من غير المستغرب أن لا يرغب الكثير من أصحاب الأموال – أو ليس بمقدورهم – استثمار أموالهم في منشات متعددة، ما يدفعهم لإيداعها في المصارف ، ولكن المستغرب في الأمر ألا يكون بمقدور الإدارات المصرفية الخبيرة اقتصاديا وماليا، أن تعمد وتعمل على استثمار قسم من رصيدها المصرفي المجمد في منشآت إنتاجية ذات صفة ربحية، تؤسسها هي، بدلا من إيداعها خارجا ؟. ،وما أكثر المجالات المفتوحة أمامها في كل الميادين، وخاصة في الميدان الزراعي، وتحديدا من تلك المشاريع الاستثمارية الحكومية العديدة والمتنوعة التي تم عرضها للاستثمار عبر أكثر من ملتقى استثماري، أو تعمل للاستثمار التشاركي مع ما هو قائم منها، تماشيا مع النهج التشاركي المطروح اقتصاديا، وعندها سنرى مدى قدرة إدارات هذه المصارف على تحقيق المزيد من الأرباح في الاستثمار الإنتاجي، على غرار ما تحققه في الاستثمار الإقراضي، وسيتبين لها عندئذ جواز تأخر بعض المقترضين لظروف قاهرة، وسنرى حينئذ مدى قدرة المصارف الخاصة على تشييد مباني المنشآت الإنتاجية المزركشة وبالأثاث الفاخر، ومدى رغبتها وقدرتها على دفع رواتب عالية للعاملين في هذه المنشآت على غرار ما تدفعه لعامليها في إداراتها المصرفية وتحديدا لكبار الموظفين.
نرى من المناسب وربما الجائز إصدار تشريع رسمي يلزم كل فرع مصرفي – خاص وعام – باستثمار قسم من رصيده المصرفي في مشاريع إنتاجيه تعود له ملكيتها وأرباحها، ضمن منطقة وجوده لضمان صدقية نهجه في رفع المستوى الاقتصادي للبلد.
عبد اللطيف عباس شعبان / عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية
هذه المادة منشورة في صفحة اقتصاد من صحيفة البعث ليوم الجمعة 9 / 12 / 2016