تخطى إلى المحتوى
آخر الأخبار
الرئيس الأسد يشارك في الاحتفال الديني بذكرى المولد النبوي الشريف في جامع سعد بن معاذ الرئيس الأسد يصدر مرسوماً يقضي بتكليف الدكتور محمد غازي الجلالي بتشكيل الوزارة في سورية.. الرئيس الأسد يهنئ الرئيس تبون بفوزه في الانتخابات الرئاسية الجزائرية الرئيس الأسد يصدر مرسوماً تشريعياً برفع نسبة تعيين الخريجين الأوائل من المعاهد التقانية في الجهات ال... روسيا تطالب بإنهاء الوجود العسكري الأجنبي الذي ينتهك السيادة السورية الرئيس الأسد يصدر مرسوماً بتعديل المواد المتعلقة بالعملية الانتخابية لغرف التجارة وغرف التجارة والصن... الرئيس الأسد يترأس اجتماعاً للقيادة المركزية.. وبحثٌ لدور كتلة الحزب داخل مجلس الشعب اللجنة العليا للاستيعاب الجامعي تقرر قبول الطلاب الناجحين بالشهادة الثانوية بفروعها كافة في الجامعات... الرئيس الأسد أمام مجلس الشعب: مجلسكم هو المؤسسة الأهم في مؤسسات الدولة وتأثيره لن يكون ملموساً إن لم... بحضور عرنوس وعدد من الوزراء.. ورشة عمل حوارية حول التغيرات المناخية وسبل مواجهتها

النص الكامل لرواية (مجنونة الخصيبة) للكاتبة والأديبة العربية السورية فاطمة صالح صالح “

الإهداء…………………….إلى جذوري
فاطمة
______________________________________________

استيقظت القرية على صوتِ ( حبّوب ).. تصرخ ، وتندب ، وتنتف شعرها ، وتحاول تمزيق ثيابها المهلهلة .. تسبّ وتشتم .. أشخاصا ً معروفين .. وآخرين لم يسمع بهم أحد .. بشتائم لم تكن تخطر على بال .. تدقّ على بطنها وتصرخ في وجه الجميع :
– أنا حامل يا رجال ( الخصيبة ) ..
أنا حامل .. حامل ..
حبّوب العاقر، ابنة الخامسة والأربعين ، حامل .. هل سمعتم أيها الأوغاد ..؟! أخيرا ً ، أنا حبلى .. ياذكور النحل ..
هُرع َ الجميع إلى ساحة القرية .. ليروا ( حبّوب ) تسقط مغشيا ًعليها ..
في نوباتها السابقة ، كانت تنتفض وتدور وهي مستلقية ٌ على ظهرها عدة دورات قبل أن تخمد وتركن ..
كثيرا ً ما كانوا يظنون أنها ماتت .. لكنها لا تلبث أن تقوم بعد مدة تطول أو تقصر ..
هذه المرة لم تدر إلا دورة واحدة .. ركنت بعدها وهي تحضن بطنها بكلتا يديها ..
– هل آلمكَ سقوط أمكَ يا ( حسام ) ..؟!
هل تتألم يا ماما ..؟!
العني ياحبيبي إن كنتُ آلمتك..
العن أمكَ .. العن ماما ..إن تسببت لك بأيّ أذى ..
لم تخلق الأمهات لتتسبب في ألم أطفالها ..الأم حنونة .. حنونة .. هكذا خلقها الله .. وأنا أمكَ يا ( حسام ) .. أنا ماما ( حبيبة ) .. إياكَ أن تناديني بغير اسمي ( ماما حبيبة ) .. هل سمعتَ يا صغيري ..؟!
كان الناس يتناقلون عبر أجيال – بكثير من الرهبة والجزع – .. أن تلك الصخور.. المصفوفة على تلة بين الحراج في سفح جبل مقابل القرية ليست سوى بشر .. كانوا يزفون عروسا ً.. من قرية إلى قرية ٍ أخرى .. في عصر ٍ لايمكن لأحد ٍتحديده .. أو مجرّد التكهّن بذلك .. وأن هؤلاء القوم .. كانوا منتشين بالفرح إلى درجة أن بعضهم كان يطلق النار في الهواء .. ويدّعي أنه / يقوّس / على الله تعالى ..
وما هي إلا لحظات .. حتى تحوّل الجميع .. إلى حجارة صمّاء .. ولا يزالون هكذا .. وسيبقون إلى ماشاء الله تعالى ..
_________________________


عندما يتكلم أحد المجانين بعقلانية.. يردد الناس :
( خذ الحِكمة ، من أفواه المجانين )
كنتُ أنشغل بمثل هذه الأقوال .. وأتساءل :
– هل من المعقول أن يتكلم فاقد العقل بالحِكمة ..؟!
أم أن لهؤلاء المساكين ظروفا ً أدّت بهم إلى أن يكونوا مختلفين عن السائد .. ولذلك يستسهل الناس إطلاق حكم الجنون عليهم ..؟!
غابت حبوب عن القرية عدة أيام ، في بداية جنونها ..
لاذ زوجها بالصمت مُدّعيا ً أنها لاتجرؤ على الابتعاد كثيرا ً ..
لم يعرف أحدٌ لماذا كانت تبدو بشكل هادئ ورزين ، بعدعودتها ..
________________________

كانت ( مجنونة الخصيبة ) تحكي حكايات غريبة.. فعقب إحدى نوباتها روت هذه الحادثة :
(- تناولني من يد أمي .. كنت كالملاك.. كان عليه أن يجاري التقاليد، فهمّ بوأدي .. لكن انبرى له رجل أسمر الوجه ، عريض المنكبين .. واسع العينين .. يحمل سيفا ً .. رفعه في وجهه ، دون أن يؤذيه .. وأنقذني ..
أعادني إلى أمي.. ثم ابتعد..
سالت دموع أمي غزيرة.. كانت تخبئها في صدرها الكئيب ..
ركضت نحوه ، لتقبل يديه معا ً..
لكنه اختفى بطرفة عين ..
انتظرت حتى طغى الليل.. ولاذت بالفرار..وهي تحضنني..راحت تبحث عن ذلك المُخَلص.. وتسأل عن دياره ..
كانت تنام في البوادي الموحشة، أثناء النهار، وهي تحضنني ..
لكن أحد قطاع الطرق ، اغتصبها.. وهمّ بقتلها.. لكن آخر ضرب عنقه .. واغتصبها هو الآخر..
ثم تركها تنزف على رمال الصحراء ..
رأيتُ ذلك بأم عيني ..
التجأنا إلى أقرب ديار مسكونة ..
لم يسألنا أحد عن حالنا الذي أوصلنا إليهم ..
أكرمونا .. بأكثر مما يُكرِمون أهليهم.. شعرنا بالألفة ..
لم تجرؤ على إجهاض نفسها .. كما لم تخف أن يسألها أحد مُضيفيها عن أبيه ..
حتى هي كانت تجهل ذلك ..
وُلد أخي.. دون أن يُعرَف أبوه ..
اكتشفتْ أمي ، أن أهل القبيلة التي التجأت إليها .. هم من أبناء عمومتها .. الذين تفرقوا في كل أنحاء الجزيرة الشاسعة..شعرنا بالألفة .. كأننا بين أهلنا..)
_____________________________


( – كنتُ أقبع في أحد الدهاليز ، عندما رأيته ..
لمحتُ طيف أنسيّ في الظلام .. تنحّيتُ جانبا ً .. لذتُ بالحائط أكثر ..ألصقتُ خدي فوق سطحه الأملس .. ألصقتُ راحتيّ .. أجفلتني البرودة .. وسهولة الانزلاق ..سمعتُ صوت ارتطام رأسي بالأرض ، طارت شرارات من عيني ، قبل أن أغيب عن الدنيا لأرى كابوسا ً مرعبا ً.. يختلف قليلا ً عن الكوابيس السابقة .. رأيتُ حَيّة ً رقطاء تتسلق جسدي ، وتلحس خدي .. شعرت ببرودة جلدها الأملس تنفذ داخل عظامي ..
وبسرعة البرق ، أمسكتها من عنقها.. وأخذت أضغط بكل ما أوتيت من قوة الرغبة في العيش .. لكن الحية الملساء كانت أقدر مني على استخدام مامنحتها إياه الطبيعة من أساليب الحفاظ على حياتها .. فالتفّ ذيلها الحُرّ، بسرعة وقوة ، حول عنقي ، عدة لفات .. وأخذت تعتصر أنفاسي ، حتى اختفى صراخي .. وتراخت أصابعي المنغرسة أظافرها في جلد الحية .. فأرخت هي بدورها عضلات ذيلها المتشنجة .. وانسلّتْ عابرة جسدي الذي كان يتلوّى من ألم الاختناق ..
وما إن فتحتُ عيني ، حتى رأيتُ / سعدو الأعرج/ يسحبني خارج الظلمة ..
كان قد رمى عصاه جانبا ً .. وأخذ يجرني ..
تأكدتُ أنه كان يرى مالا أراه من خطر ، عندما سقطت صخرة ٌ كانت معلقة في سقف الدهليز ، يسندها حجر ٌ صغير ..هو وحده الباقي في تلك التجاويف ..
جرّني سعدو .. لكنه سقط هو الآخر بعد خطوة واحدة .. بعد أن تخلخلتْ قدمه الصناعية .. كانت الخطوة كفيلة بأن تدفع عني الموت المحقق .. سمعتُ صوت ارتطام الصخرة بالأرض .. نسيتُ آلامي ، وأنا أرى شظاياها تتبعثر بأحجام متباينة .. ملساء ، ومدبّبة ، ومحرشفة ..
– الحمد لله ..
قالها .. والعرق يبلل قميصه المعفر ، شبه المهترئ ..الذي كنا نميزه بواسطته..أوعند سماع نقرات عصاه على إسفلت الشارع ..
صحيح ، يا أمي .. أنني كنتُ أشعر بثقل المسؤوليات وقسوة الحياة .. وبالتالي قسوة العيش معكم .. لكنني – بالمقابل – كنت أشعر بينكم بدفء العائلة ، الذي افتقدته .. بل حُرِمتُ منه قسرا ً.. وقهرا ً.. بعد زواجي..)
__________________________________

عبر مئات السنين ، لم تعرف ( الخصيبة ) حاكما ً عادلا ً ..
فقد عانت من الحكم العثماني ، ما لا تستطيع ذاكرة ٌ- مهما اتسعتْ- أن تسجله .. أغرقت خلاله بالفقر والجهل والقتل والتعذيب والتهجير ومحاولة الإلغاء وتمزيق الهوية .. لوحِقَ أهلها في محاولة تصفية ٍ عِرقية .. إلى درجة أن المثل الشعبيّ ( مثل قتل أهل الخصيبة في السوق ) لازال يُرَدّد على لسان أهلها ، بشكل ٍآليّ ،عندما يقوم إنسانٌ بعمل ما ، مُسرعا ً ، وبشكل متلاحق ..
كانت الجدة ، تقول لحفيدها الذي يتناول صحن(المتبلة) بسرعة ٍ بالغة، ليعود إلى اللعب مع رفاقه :
– لماذا تنزل بالصحن ، مثل قتل أهل الخصيبة في السوق ..؟!
فيضحك .. ويتابع طعامه .. دون أن يُدرك عمقَ مَدلول قولها ..
وكثيرا ًماكانت ( فاطمة ) تحرص على تحفيظ أحفادها تسلسلَ نسبهم .. الذي يصل إلى أعمق أعماق هذه الأمة ..
وتحذرهم من الغريب .. صار يعني لهم ، المعتدي ، الذي يستبيح دماءهم وأعراضهم ، وحُرماتهم كلها .. إما بالاستسهال .. أو القوة المادية ، والعنف بكل أشكاله ..
___________________


( – فتحتُ جيّابة الذاكرة .. تناولتُ عود ثقاب.. أشعلتُ دروب أيام خلتْ.. سَرَيْتُ على طرقاتها الموحشة ، والمعشِبة..
صادفتُ أمي آتية ً من بعيد.. حيّيتها.. وقبّلتها ..
ضمّتني إلى صدرها .. بكتْ..
– أمي.. ماهذا الحنان..؟!! لأنكِ لم تنجبي غيري ..؟!!
لم تنطق .. إنما حدّثتني بأجمل من الكلام .. أكثر حميميّة ً وألفة..
كان خالي عادل جالسا ًفي غرفته الشرقية ، ذات البابين..الشرقي ، والجنوبي.. يحدّث مُجالسيه ، بصوتٍ مرتفع ٍقليلا ً.. لكنه واثق ..هادف..
تناهى إلى سمعي صوتُ جدّتي الحنون الحزين:
– ” إلهي .. لاتخيّبني .. فإني ُمقِرّ ٌ بالذي قد كان مني
فإن عذبتني .. فالذنبُ مني وإن سامحتني .. لك الفضالة ”
-” قصَدتُ بابَكْ.. فأرجوكْ .. لا تخيبني ..”..” أنا داخيل للعدرة وإبنها….المسيح اللي برى الأكمه .. وطااااب .. خ .. آخ ..”.. آخ.. ” كتر البعد.. بيولّد جفاااا.. خ .. آخ ..”
قفزتُ نحو نافذة الأحلام.. وقبل أن أصل إليها..لا أدري ما الذي دفعني لأنظر إلى الأسفل ..
– ياه..!! ياللهوّة السحيقة، المظلمة..!!!
تساءلتُ:
– هل كنتُ- حقا ً- هناك..؟!
لكنني عدتُ وتساءلتُ:
– هل – فعلا ً- أنا هنا..؟!
وعندما استقرّتْ قدماي على تلك الشرفة.. أخذتُ أنظر، نظرة ًإلى الخارج .. وأخرى إلى الداخل .. أو العكس..لأقدّر مدى قدرتي على التحليق .. استنادا ًإلى معطيات الواقع ..
و.. بدَوْتَ .. على ذلك الشفق البعيد ..
ناديتني :
– هِيْ .. !! يا أنتِ .. أيتها الموشاة بالأحلام ..
رمَقتكَ ، بعينين تنبّهَتا للتوّ.. رفعتُ لكَ يدي بالتحية..
ابتسَمتَ أنتَ أيضا ً..
أطرقتُ .. ثم رفعتُ ناظريّ بحنان .. وابتسامةٍ رقيقة ..
كم أخجلني أن عينيّ التقتا بعينيك..!!
ضحكتَ ..
لكنني أخفيتُ ضحكتي .. وبقيتُ أرمقكَ .. وأنا مُطرقة.. أراقب انفعالاتك.. أمحو.. وأرسم .. حتى اكتملتْ ملامحكَ ..
عندها.. رفعتُ وجهي ، لتلتقي عينايَ الحالمتان .. الصاحيتان ، بعينيك ..
وضمّتنا غيمة ٌ مَطيرة ..
– تعال .. يا توأم المطر ..
فأنا جالسة ٌعلى بساطه الأخضر..
من قال أنني وحيدة ..؟!
وضفائره تلفني ..
وأنا فراشة ٌ في أحضان زهرة ..!!!؟ )
كانت الجدة ( أم عادل ) تدعو في صلاتها الله ( الحاكم العادل ) أن يرأف بها وبأسرتها وبكل الناس الصالحين والمستضعَفين في الأرض .. ولأنها كانت على ثقة تامة أن ( الحاكم العادل ) غير موجود على الأرض .. كانت توجّه وجهها نحو السماء ، فاتحة ً صدرها المتعَب، الذي يعلو ويهبط مع كل شهقة ٍ منها .. وهي ترجو ذلك( الحاكم العادل)الذي يسكن الغيب .. ويحتجب في السماء .. أن يتنازل قليلا ً.. وينظر نحوها ونحو المظلومين في هذه الدنيا الفانية.. ليمنحهم بعض عطفه ورأفته ونصرته وعدله وقوّته .. وأن يردّ كيد الظالمين ..
وإذا سافر أحد أفراد الأسرة .. كانت تزوّده بدعائها المعروف :
– ألله يحميك من شرّ الظالمين ..
_______________________


وُلِدَتْ / فاطمة / في بداية القرن العشرين ويستطيع أخوها / الشيخ عباس / أن يقدر أن ذلك حصل عام / 1900م / ..
– حملني أبي .. وقبّلني .. سألني :
– أين أمك ..؟!
– في ( الخمّونة ) ..
رآها تمسك ظهرها ، وتئنّ ، وهي تعبّئ (عِدلا ً) من التبن ، لتحمله إلى البقرات المربوطات بأوتاد من خشب الشجر اليابس ، تحت ( مضَلّة ) مسقوفة بالأغصان الجافة .. سألها :
– أين المنجل ..؟! .. لكنه تنبه إلى أن وجهها ممتقعٌ .. وأنها جلستْ فوق العدل ، وهي تئنّ أنّة ً طويلة ..
فأسرع إلى الداية أم محمد :
– أسرعي ، يا أختي .. ( قنوع ) في المخاض ..
جلستُ بقربها ، وأنا أبكي .. مسحت على رأسي ، وطمأنتني ..
حضرت الداية .. ناولها أبي زجاجة َ ماء ٍ مقروءة ٌ عليها آيات من القرآن وبعض الأدعية .. وأعطاها ( خلعة ً ) من المزار .. وغاب مدة ً طويلة ..
أخرجتني الداية .. وبقيتْ مع أمي خلف ستارة القماش الممزق .. ظلت البقرات تعجّ .. حتى فلتت العجول .. وراحت ترضع حتى الشبع .. كنتُ أراقبها وهي تلعب حول أمهاتها ، قبل أن تعود وترضع ماتبقى من حليب .. كنتُ جائعا ً جدا ً.. لكن أحدا ً لم يطعمني .. حتى الذبابُ شبعَ من عينيّ .. ومن الحبوب المتقيّحة في رأسي وحول فمي ، وساعدي ، وساقيّ .. لكنني بقيت جائعا ً .. ولا أزال ..
جلستُ في الخارج على حجر أبيض .. التقطتُ عودا ً .. ورحتُ أنبش في التراب .. أخرجتُ ( سِلا ً) .. فرحتُ .. حاولتُ أن أتسلى باللعب به وهو يتلوى كحية صغيرة .. لكن الدجاجة الحمراء اللعينة ، أسرعتْ واختطفته من أمامي .. التقطتُ حجرا ًصغيرا ً وضربتها به .. أصابت الحجر أحد صغارها .. فهجمتْ عليّ نافشة ً ريشها .. نقرتني بين عينيّ .. صرختُ .. لكن أحدا ً لم يلتفت إليّ .. قمتُ ، لأمشي ، لا أعرف إلى أين .. فأم محمد لاتسمح لي بالدخول .. وأنا أسمع أنين أمي .. أعطتني قطعة من التين ( المُهَبّل ) التهمتها بسرعة .. مسحتُ مخاطي بكمّ قميصي الطويل .. ومسحتُ دموعي بأسفل القميص تحت الركبة .. جلستُ لأبول قرب الحائط الحجريّ .. لم أكن ألبس سروالا ً .. فقط قميصي الأبيض القذر الممزق .. تغوّطتُ أيضا ً .. إسهالا ً حادا ً مخلوطا ً بالدماء .. بطني يؤلمني كثيرا ً.. وكنتُ أبكي .. ولا أحد يسمعني ..
حضرت جارتنا الأخرى .. كانت تحمل حملة سنديان ، وتسوق حمارة محملة بالحشيش .. سألتني عن أمي .. فبكيتُ أكثر .. وضعتْ حِملها أمام بيتها المجاور .. وأنزلت حِمل الحمارة ، وربطتها في الوتد .. نفضت ( القبّوع ) من أوراق السنديان الشائكة ، وأسرعتْ نحوي ماسحة ً عرقها ب ( شورايتها ) البيضاء .. سقطت ( البوشيّة )السوداء.. فأعادتها إلى رأسها ، وربطت ( الشوراية ) فوقها..
– مابكَ ياعباس ..؟! لماذا تبكي ..؟!
– بطني يؤلمني .. وكذلك عيناي ..
– لازال ( الرّمَدُ ) يعميكَ ياصغيري ..؟!
بلّلتْ طرف منديلها بريقها ، ومسحت عينيّ من ( القطع) الأصفر .. صِرتُ أرى أكثرقليلا ً.. جلستُ مكاني لأتبرّز ثانية ً .. سائلا ً مدمّى مرة ً أخرى ..
– داهمكَ الزحار ياصغيري ..؟!
أمسكتْ حجرا ً صغيرا ً مُتربا ً ، مسحتْ به مؤخرتي .. ثم سحبتْ قطعة قماش ملتصقة بالأرض .. بللتها ببعض الماء من جرن الدجاج .. ونظفت قفايَ أكثر ..
– سأغلي لكَ بعض ( الزّوْبَع ) ..
في هذه اللحظة سمعتُ زغردة الداية .. وصراخ أختي :
– كنتِ نحيلة ً جدا ً .. لكنكِ كنتِ جميلة ً يا / فاطمة / ..
التصقتُ بأمي التي كان يبللها العرق .. كان وجهها شاحبا ً جدا ً .. وكنتِ تصرخين ..
تكفلتْ أم محمد بتخليصها من بقايا الولادة.. لفّتْ أطرافَ /العِدْل ِ/ فوق /الصّفوة/ الرمادية.. التي تعلوها الدماء وبقايا الخلاص .. حملتها إلى أسفل القرية .. بعيدا ً عن ( دَروَة الشيخ ) .. ربما وضعتها في ( رجمة ) تحت الدولاب .. بينما بقيت / صَلوح / قربنا .. نظفتكِ من بقايا / الصفوة / والتبن .. ولفتك بخرقة بالية .. والتفتت إلى أمي ، تمسح عرقها .. وتساعدها على الاسترخاء فوق فرشة من الخروق ، على أرض / السيباط / الرطبة.. راحت تغلي لها قدرا ًمن الزوفا .. لكن / أم محمد / كانت قد أمسكت / شلوفا ً / أحمر.. وأخذته إلى الشيخ / محمود / ليذبحه .. هنأها بولادة قنوع .. ذبحه .. وأحضرته هي .. كان الماء يغلي في طنجرة نحاسية صغيرة ، على نار الموقد الحجري .. غطست / الشلوف / بالماء المغلي .. رفعته من ساقيه ، وأخذت تنتف الريش ، وأنا أتفرج عليها .. كانت تطلب مني أن أكشّ الذباب .. لكنه كان يصرّعلى الدخول في عيني أكثر من أي شيء آخر.. شقت بطنه.. وأخرجت أمعاءه ، وقطعت ساقيه .. رمتها أمام بقية الدجاج الذي تراكض نحوها .. وتجمّعتْ القطط لتتصارع معه ، في معركة أضحكتني كثيرا ً.. وقلعتْ عيون بعض القطط .. ونهشت ريش بعض الدجاجات ..
نظفت الداية/ الشلوف / المجوّف .. قصّتْ منقاره ، وطرف عُرْفه الأحمر .. ثم رمته في وعاء نحاسي آخر ، يغلي فيه الماء .. أتبعته ( بجَوْزيّة ) من الذرة الصفراء ، والقمح المقشور .. وعندما نضج ، صارت تسقي / زومه / لأمي ، التي استيقظت للتوّ مرتاحة قليلا ً ..
وضعوكِ على صدرها.. شعرتُ بالغيرة .. أنا وحدي من يجلس في حضن أمي .. لكنهم أبعدوني .. فبكيت .. أجلستني / صلوح / في حضنها وراحت / تفليني / ..
كنت ِ قد أصبحت ِ تضحكين عندما أداعبك .. وتناغين .. عندما حضر أبي من الحصاد .. كان معفرا ً جدا ً.. سحنته ازدادت سوادا ً .. ذقنه طويلة ولزجة .. وكوفيته عفِنه إلى درجة الاحمرار .. / شرواله / الأسود صار رماديا ً .. دِكّته محشوّة بالبراغيث .. عظامه الطويلة كانت مائلة ..
سخنت له أمي ماء ًعلى الحطب في / الدست / وناولته الطاسة ، والثياب النظيفة .. استحمّ في / المَدْوَر / في غرفة الدواب .. كانت تنظر إليه وتعجّ .. نام ليلة ، أو ليلتين .. ثم نهض ليأكل من مقلي البندورة والبصل و/ الشوّاف /.. قبّلنا جميعا ً .. وهو جالس على الطراريح المهترئة .. حلق ذقنه بالموسى .. صلّى .. وقرأ القرآن الكريم .. حمد الله كثيرا ً على نِعَمِه .. أخبر أمي أن / محيمود / قد / سَنْبَل / ومات .. وكذلك ابنته / هاجر / .. دفنوهما هناك .. لكن البقية عادوا .. سألها عن المطر .. أجابت أنه لم يهطل بعد ..
– الحمد لله .. نستريح قليلا ً قبل بدء موسم الفلاحة ..
______________________


كان عباس ، من ضمن الشباب الذين رُبطوا على أشجار التوت في ساحة القرية .. وجُلِدوا بالسياط ، وهم عُراة ً إلا من مبادئهم .. كانت عظامهم مغطاة ً بجلود ٍ رقيقة ، لكنها ثخينة.. إلا أن قسوة السياط استطاعت تمزيقها ، وإسالة الدماء المتبقية في العروق .. أمام أعين أهل القرية العُزّل ..
صرخت ( قنوعُ ) عندما رأت جسد ابنها يخور ويسقط كخرقة مربوطة من وسطها ، ليشكل رقم ثمانية .. لكن الجنديّ التركيّ أخذ يبرطم بكلمات التهديد والوعيد .. ويلكزه .. ثم يرشقه بسطل من الماء ، حتى استعاد بعض وعيه ..
عذبوهم أيضا ً ( بالخوازيق ).. وبكل أشكال العنف الذي لايُصَدّق ..
لم تصدق قنوع أن عباس سيعيش بعد كل ماذاقه من عذاب .. لكنه عاش ، وتزوّج بعد عدة أعوام ، من ( حسنا ) ابنة الأرملة ( خديجة ) .. كانا يحبان بعضهما كثيرا ً ، وبقيا عاشقين ، لم يفارق أحدهما فراش زوجه حتى وفاتهما في الربع الأخير من القرن العشرين ..
أنجبا خلالها أربعة أبناء ، وابنة واحدة .. كانوا قد تزوجوا جميعا ً، وأطفلوا ..

__________________


توفي / ماجد / ابن / الشيخ عباس / في منتصف الخمسينات من القرن العشرين ، تاركا ًزوجته ، وابنة عمته / سكينة / حاملا ً بطفلهما الأول .. جُنت سكينة التي كانت تعبده ..
_________________


( – فتحتُ أدراجه .. قلّبتُ أوراقا ً بيضاءَ .. وصفراء .. خضراء .. وحمراء ..
التهمَتْ عينايَ كل التفاصيل .. الصغيرة والكبيرة ..
و.. صدفة ً .. ومن غير ميعاد .. حدّقتْ بي .. كأنها تعرّيني .. في مشهد ٍ له طقسه الخاص جدا ً..
عاشقة ٌ .. تبحث في أدراج حبيبها .. وفي كل تفاصيل حياته .. عن امرأة ٍ أخرى ..
– أحبه ../ نطقتِ الصورة /..
– وأنا أكثر .. / أجابت العاشقة / ..
– لكنني متّ من أجله .. فهل يمكنكِ أن تفعلي ..؟!
– وما المانع ..؟! فحبيبي ليس شخصا ً عاديا ً .. هو محيط ٌ من الحب .. ونبعٌ من النقاء .. وشلال عذوبة .. وأنتِ أدرى ..
– احمليني إليه ..
– بشرط ٍ وحيد ..
أن أتأكد أنكِ ميتة ٌ فعلا ً ..
– المهمّ أن أراه ..
– لستِ وحدكِ في هذه الأمنية ..
وعلى قبره الذي ظلت تزوره كل صباح دون انقطاع .. إلى حين وفاتها بعد تسعة عشر عاما ً.. كانت تردد :
– كم كنتُ حمقاء يا ماجد..!
أو لنقلْ :
كم كنتُ حريصة ً على أن تبقى لي .. ولي وحدي يا حبيبي..!!
عندما كنتُ تلك المرأة التي تبحث في أدراج حبيبها .. وبين طيات حقائبه ..عن صورة أنثى .. ربما تقبع في ركن قصيّ من أنحاء ذلك القلب الحبيب ..
– مجنونة .. حمقاء أنتِ يا سكينة ..
أقسمتُ لكِ عند لقائنا الأول .. أنكِ الأنثى الوحيدة في حياتي ..
لم أكذب عليكِ .. قلتُ لكِ أنها عبَرَتْ ..
تلك التي كانت زهرة أيامي في شبابي الباكر ..
اختطفها الموت .. في غفلة ٍ، أو تغافل ٍ مني .. حين احتضنها ذلك الذي أجبرَتْ على الارتباط الأبديّ به .. لكن روحها وقلبها بقيا معلقين بي .. حتى بعد رحيلها .. واغترابها المركّب ..
أقسمتُ – بعدها – ألا ألمس أنثى ..
إلى أن أتيتِ أنتِ يا سكينة ..
أتيتِ من بين قضبان سجني .. حمامة ً بيضاء.. تهدلُ في حنايا روحيَ البائسة..
زنبقة ً تمدّ أصابعها لي من خلال السور .. بشفافية امرأة ٍ عاشقة ..
فتربّعتِ على عرش روحي – كالقدَر – كسرتِ يميني ..
لونتِ أيامي بما لم أكن أحلم به من جماليات الحياة الحقيقية ..
لكنكِ غِرتِ عليّ من نساء ٍ مالهنّ وجود إلا في خيال أنثى عاشقة .. تريد ألا تذيق أية أنثى من حلاوة ريق حبيبها الوحيد ..
– ستجفّ دموعي دون أصابعكَ ياماجد ..
ستتيبّس شفتاي ..ويسيل الدمُ من شقوقها في الصيف والشتاء ..
ستتحوّل إلى خِرقة ٍ بالية .. بعد أن كانت في حضوركَ شفتي أنثى عاشقة .. تستسلم بطواعية ٍ وتطلب المزيد .. حتى الثمالة ..
سأفتقدكَ ياماجد ..
سأفتقد حضوركَ ياحبيبي ..
وسأحتضنك من خلال احتضاني لبعض ٍ منك.. هذا الذي في بطني ..
لن تغيب عني لحظة ً .. أيها المكتمل الحضور حتى في غيابه ..
ستبقى حاضرا ً حتى بعد رحيلي ..
سأراك ياماجد .. سنعيش معا ً في الجنة .. حيث لاحرب ولا هزائم ولا أي شيء يعكّر صفو حبيبين حالمين ..
أين ذلك الغائب الحاضر ..الذي سيدخل الآن .. ليحضن أوجاعي .. ويعانق لهفتي ..؟!
أين تلك اليد الحبيبة التي طالما مسحتْ دموعي ..؟!
وذلك الشارب العابث الذي أحلم أن أتحد معه بقبلة ٍ تجعلني أنثى بعد شقاء عمر ٍ من الغربة ..؟!
سأتوغل بين أعشابه .. غير عابئة ٍ بالأشواك التي قد تخدش شفتيّ .. لأبحث بينها عن نبع رقراق .. أنهل منه بقية عمري .. مايجعلني أحيا .. أنثى من رحيق ..
أراكَ الآن تقول لي :
– لازلتِ تغارين عليّ يا سكينة ..؟!
بعد هذا العمر وهذا العهد الذي تعاهدنا به – صادقين – على أن نكون لبعضنا حتى الموت..؟!
هل جُنِنتِ بحبي لدرجة أنك صرت تخافين عليّ إن غِبْتُ عن ناظريكِ – ولو مُرغما ً – أن أعشق .. أو أن تعجَبَ بي أخرى ..؟!
ها أنا أغادركِ دون أخرى ..
ها أنا أغادركِ ..ولم تستطع أية امرأة ٍ أن تحظى مني حتى بالتفاتة ذات معنى .. إلا امرأة واحدة .. هي أنتِ يا سكينة ..
فلماذا أضعتِ الوقتَ القصير بالغيرة عليّ .. وجعلتني أنفر قليلا ً من أسركِ .. فسرقنا العمرُ دون أن ندري .. وحرمنا أنفسنا من المزيد من المتع .. التي تبرّد أرواحنا من لهيب الحرب والقهر والحرمان والشقاء ..؟! جاهلين .. أو متجاهلين أن العمر مهما طال .. فسيمضي .. / الحياة ُ أقصر من أن نختصرها / ..
يحرموا الرجال عليّ بعدَكَ يا ماجد ..
قالت لأخيها / عادل / وزوجته الطيبة / مريم / :
– يكفيني أنكما بجانبي .. تحميني يا أخي من كلام الناس .. وإن احتجتُ شيئا ً.. سوف لن أطلبه إلا منكما ..
_______________________


كانت سكينة تتمنى أن تلد صبيا ً .. لتسميه باسم أبيه .. لكن المولودة كانت أنثى ..
أحضر عادل مجمَعين من السكاكر ، للضيافة ..
– أريدها أن تكون مثلكِ ياسكينة .. فأنتِ زينة النساء يا أختي ..
ومن يومها ، وعادل يحضر إلى البيت مجمَعين من السكاكر كلما وُلِدَتْ له أنثى .. ومجمَعٌ واحد ، إذا وُلِد له ذكر ..
لكن ابن الشيخ مجيد ، الذي كان بحاجة ماسة إلى إثبات رجولته .. مهما حاول أن يكون عادلا ً .. كما تمناه أبوه .. فلن يستطيع مخالفة التقاليد إلى درجة مُطلقة ، في مجتمع ذكوريّ يعتقد أن من متممات الرجولة ، عدم الرضوخ إلى مطالب النساء .. بل ، والنظرة الدونية إليها .. مع أن أغلب العائلات كانت مليئة بالأطفال .. لكن .. قد لايكون السبب في ذلك حب الرجال للنساء .. بل قد يكون الأطفال جاؤوا من الغيب .. أو من الداية .. أو ( الرّيّسة ) التي كانت تعبر القرية مع بقية ( الرياس )، في موسم الحبوب .. أو من مصادر أخرى .. ألله أعلم ..
منذ ولادة حبيبة ، كانت تبدو مختلفة ..
وبعد أن كبرت قليلا ً .. صارت تشبه أباها إلى حدّ بعيد ..
تقول أمها.. أنها كانت تبدي حساسية مفرطة منذ نعومة أظفارها..
كم كانت الأسرة سعيدة عندما لثغت الطفلة بأول كلمة ..
صاحت / سكينة/ :
– تعالوا اسمعوا .. حبيبة تتكلم .. ابنة العشرة أشهر تتكلم .. !! آه ٍ ياماجد .. لماذا رحلتَ وتركتنا غريبتين ..
لكن الطفلة امتنعت عن الكلام لعدة أشهر ، عندما ضربتها أمها لأنها بالت في ثيابها ..
وأنها لم تكن تحبو .. ككل الأطفال في سنها .. إنما أرخت نفسها مرة ً واحدة من يد أمها .. وركضت في ( الدّوارة ) بعد أن بلغت سنة ونصف من عمرها ، أمام دهشة الجميع ..
كبُرت حبيبة ، وظلت أفكارها الغريبة تشعِر الناس أنها مختلفة ..
كانت تتأخر عن رفاقها في العودة من المدرسة ..
وكانت كثيرة الصمت والتأمّل ..
وتحكي لزملائها أحاديث غريبة .. وتبتكر لهم حلولا ً لمشاكلهم لم تكن تخطر لهم على بال ..
كانت شغوفة ً بالمعرفة .. تفوّقت في مدرستها ..
لكن أحوالها تغيرت منذ وفاة مربيتها العجوز أم سليم ..
لم تكن الطفلة قد تجاوزت العاشرة .. كانت تحبّ مربيتها أكثر من أمها .. ومن كل أفراد الأسرة ..
وتتذكر :
( البنت ، يا ابنتي .. مثل ثوب البستونة .. أصغر نقطة ، تظهر عليه ..} ..
لأول مرة ، عرفت حبيبة أنها مختلفة عن الذكور .. وأن عليها أن تتصرف بما يناسبها كأنثى .. وتمتنع عن بعض التصرفات غير المسوح بها للإناث ..
كانت في العاشرة .. تنطّ فوق أرض الغرفة الترابية .. مبللة بالعرق .. تتابع لعبة النط على الحَبلة ، بعد أن لفت طرفيها حول أصابعها الأربع .. وتفرّقت البنات كل واحدة إلى بيتها قبل غروب الشمس بقليل ..
بعدها بأقل من ثلاثة أعوام .. تركت اللعب ، بعد إلحاح مثانتها المضغوطة ، التي سبب لها امتلاؤها المغص .. دخلت الدار التي تحيط بها أربعة أسوار عالية .. لها باب واحد مفتوح باستمرار .. رفعت ثوبها الأحمر الواسع المزموم من الخصر.. ومن تحته الشلحة الزهرية .. أنزلت سروالها البوبلين الزهري الذي خاطته لها أمها منذ عدة أشهر .. جلست القرفصاء واضعة كل قدم على حجر ، لتتفادى الغوص في ذلك المستنقع .. وسمحت لمثانتها بأن تقذف البول بقوة .. أخفضت رأسها لتراقب البول .. وتمنع تلويث ثيابها .. اقشعرّ بدنها .. واستبدّ بها الرعب عندما لاحظت بعض قطرات دم حمراء على سروالها .. ظنته زحار .. لكن .. لكن .. لا .. لا .. إنها هي .. هي تلك التي حدثتها عنها أمها باقتضاب منذ مدة ..
– ويلك يا حبيبة ..!! صِرتِ امرأة ً ناضجة .. مثل أمكِ .. ومثل جاراتك المترهلات .. القابعات في البيوت والدوارة .. الثرثارات باستمرار .. أو الميّتات من العمل في الحقول ، والبيوت .. وتلبية مطالب الأزواج .. والسهر على راحة الأطفال ..
ستُمنعُ عنكِ منذ هذه اللحظة ، كل الأشياء التي تحبينها .. اللهو .. والضحك بصوت عال .. وحتى السير كما ترغبين .. سيمنعون عنك اللقاء العفويّ بزملائك الصبيان .. سيُطلب منك أن تكوني متزنة من الآن فصاعدا ً .. لكن دماءكِ لاهبة .. وروحكِ عطشى إلى الحرية .. كيف انتهت طفولتكِ قبل أن تبدأ ..؟! ولماذا يمنعونني من اللعب ..؟! لماذا لا أبقى حُرة ..؟! ماالذي طرأ كي أفطَمَ عن حريتي منذ هذه اللحظة ..؟!
شعرت حبيبة بألم الفطام عن أجمل مرحلة في حياتها ..
صاحت بأعلى صوتها .. لكن أمها هدّ أتها :
– ألم أخبركِ أن هذا شيء طبيعي يحدث لكل فتاة في مثل عمركِ ..؟!
علمتها كيف تقطع الثياب القديمة وتعمل منها حفاضا ً تثبته من الأمام والخلف بشنكلين من المعدن .. وأن تتقن ذلك كي لا تلوّث ثيابها .. وأن تحرص في مشيتها على الاتزان .. وألا تخالط الذكور في مكان منعزل.. وحتى أن تمتنع عن زيارة عمها محمود اليومية ..
إذا ً .. بدأت مسيرة التقييد ياحبيبة .. مسيرة الأسر الطويلة المريرة ..
لا عليه .. فوضعك لا يختلف كثيرا ً عن وضع بقية بنات ( الخصيبة ) إن لم يكن أفضل .. فكثير من البنات لا يعلمن ماذا يحدث لهن .. فيتملك الخوف قلوبهن الصغيرة .. وقد تمضي عدة أعوام حتى تعرف أمهاتهن أن بناتهن بلغن سن النضوج ..
لم تكن الطفلة تعي لماذا تلحّ عليها أمها بالسؤال : هل عادت دورتها الشهرية ، أم لا ..؟! ولم تستطع تفسير رعبها وحنقها وتقريعها لها عندما تجيب بالنفي .. ولا حتى فرحها البالغ .. وتغيّر معاملتها التي صارت لطيفة بعض الشيء عندما جاءت الدماء بعد شهر وعشرين يوما ً ..
كم أخجلها طلب أمها أن ترى ذلك بعينيها ..!! لكنها أذعنت .. وأثلجت صدر أمها الخائفة ..
تعلمت حبيبة جيدا ً كيف تنظف الخِرق بالماء والصابون .. بعيدا ً عن عيون الجميع .. وأن تنشرها على عيدان السنديان التي تحيط بمربط الدواب .. من جهة الداخل .. وأن تحرص على تنظيف يديها جيدا ً بالماء والصابون ثلاث مرات بعد الانتهاء من عملية الغسل .. وألا تصلي .. أو تقرأ القرآن ، إلا بعد نظافتها التامة منها .. وحمّامها مرتين بعدها ..
أدركت أنها دماء القذارة .. أو ربما الأكثر قذارة من أي شيء .. فكانت تنظفها بتقزز تكاد تقذف الطعام من معدتها من شدته ..
تعلم الأطفال أن يناونها ( أختي ) وتعلمت أن تناديهم بأخي أو أختي .. كما تعلموا أن ينادوا كل قريب لهم ، أو صديق ( عمي ) أو ( عمتي ) .. ( خالي ) أو ( خالتي ) ..
صحيحٌ أن خالها عادل الشيخ مجيد كان يميّزها عن أبنائه .. لكن الأمر لم يكن يخلومن بعض التهكمات التي تنالها منه..مثل مناداتها ( حبّوب ) .. في بعض الأحيان .. لم يكن يدرك مدى شعورها بالدونية والخجل من ذلك .. وصحيح أن ابنه البكر صالح ، لم يكن يجرؤ على طلب شيئ منه مباشرة ً .. فيرسلها لتطلب من أبيه كل مايحتاجونه من دفاتر وأقلام .. أو الموافقة على ذهابهم في رحلة ستقوم بها المدرسة .. كان صالح يدرك تماما ً أن أباه لن يرفض لها طلبا ً .. لكن الصحيح أيضا ً أن خالها كان يضربها أو يوبخها في بعض الأحيان ، كما يضرب أو يوبخ أبناءه وبناته إذا اشتكى منهم أحد الجيران ، أو الأصدقاء .. كان يضربهم الضرب المبرّح أمام المُدّعي عليهم ، قبل أن يتبيّن صِدق هذا المُدّعي أو كذبه .. فهو عادل .. وسليل أسرة عادلة .. فكيف يسمح لنفسه أو لأي فرد من أفراد أسرته إلا أن يكونوا قدوة .. فيشعر الأبناء بالخجل والإحراج والغبن والظلم .. حين يعاقبون ظلما ً وعدوانا ً على ذنوب لم يقترفوها .. وإن فعلوا شيئا ً ، لم يكن يستحق إلا كلمة لوم صغيرة .. كانت كافية لتردع الصغير .. لأن العدل في أرواحهم كالوشم .. وليسوا بحاجة إلى عقوبات رادعة ليعدلوا .. فيحقدون على أبيهم .. وعلى أمهم التي لم تكن تجد لها متنفسا ً إلا بالدعاء عليهم وتخويفهم من عقاب الأب .. وعقاب الله .. وغضبه عليهم ، إن لم يطيعوها .. كما يحقدون على جيرانهم أو معارفهم الذين لا يكلفون أنفسهم مشقة التأكد من صحة شكوى أبنائهم .. ويستغلون حبّ أبيهم للعدل .. وإنصافه للآخرين .. ناسيا ً حقوقه .. وحقوق أبنائه من هذا العدل .. مما كان يزيد طمع الآخرين بهم ..
_____________________


أغرقتْ سكينة نفسها بالعمل الشاق ، مع أخيها وعائلته .. لتعيش مع ابنتها بكرامة .. ولتخفف من تأثير فقدانها لزوجها الغالي .. الذي لم تعش معه أكثر من عامين .. لكنها لم تستطع التفكير برجل سواه ، حتى نهاية حياتها .. ولم يجرؤ أخوها بالتلميح لها بحقها بالزواج .. وأن الحبّ الكبير ، لايُبعِد سلطته ، إلا حبّ أكبر .. كان يخشي من أن تفسّر ذلك عكس ما يريد ..
كانت تراه في أحلامها ، شابا ً متوسط القامة ، أسمر ، واسع العينين .. جميل الملامح .. لطيف المعشر .. طيّب القلب .. حنونا ً .. يضمها .. وتضمه .. ويغيبا معا ً في عالم ساحر ..
– آه .. لو تدري كم أحبكَ ياماجد ..!!
– وآه ٍ عليكِ من بعدي يا سكينة ..!!
يمسح دموعها .. يقبلها من فمها ، وعينيها .. وخديها .. وحتى كتفيها وراحتيها ..
ومرّة ً رأته يقبل رجليها .. فسحبتهما وهي تضحك ، واضعة ً كفها على شعره الأسود :
– اهدأ ياماجد .. قد تموت ..
– الحبّ يُحيي .. ولايميتُ ياسكينة ..
– أتمنى أن أنجبَ منكَ عشرة أبناء ..
– ليتكِ تفعلين ..
فتستيقظ ، وتصرخ :
– لماذا رحلتَ ياماجد ..؟!
لماذا رحلتَ ياحبيبي ..؟!لماذا توأدُ أحلامنا دائما ً .. ؟!
____________________


انتسب ماجد إلى الجيش ، في أوائل الخمسينات من القرن العشرين .. لم يكن قد مضى على زواجه أكثر من شهرين .. لكنه لم يصرّح بذلك أمام رؤسائه .. فلم تكن الدولة تسمح للمتزوجين بالدخول إلى الجيش إلا إذا كانوا عازبين ..
وعدَ زوجته أنه سيصطحبها معه إلى مكان خدمته في الجنوب ، بعد انتهاء فترة التدريب القاسية .. غاب عدة أشهر ، قبل أن يأتي أول إجازة .. قضى في القرية عدة أيام .. عاد بعدها إلى عمله ..
وظل يغيب فترات متفاوتة .. ولا يمكث في القرية إلا عدة أيام .. يعود بعدها .. وهكذا ..
ظنت سكينة أنها لن تحبل إذا بقي الأمر كذلك .. لكنها طارت من الفرح عندما شعرت بأعراض الوحام .. بدأت تأكل حجر ( الحفحاف ) الأبيض بشهية لا تقاوَم .. دللتها حماتها .. طبخت لها كل ماتشتهي من أطعمة .. منعتها من القيام بالأعمال الحقلية القاسية .. وأوكلت المهمة إلى نفسها ..
طار ماجد من الفرح :
– أخيرا ً .. ستنجبين مني عشرة أبناء ياسكينة .. سأبني لكِ بيتا ً في الخصيبة ، يليق بكِ يا حبيبتي .. سنقضي فيه إجازاتي .. عشا ً لايحلم به أحد غيرنا .. صغيرا ً .. لكنه يتسع بالمحبة .. فقيرا ً.. لكننا سنغنيه بأحلامنا ..
لكن ماجد ، توفي أثناء رحلة عودته من إحدى الإجازات .. وماتت الأحلام الطفلة ..
___________________


– اليوم ياسعدو.. وبعد أكثر من ربع قرن.. اليوم .. فقط .. حققتُ أهم شرط سعيتُ له في حياتي .. وهو الحرية ..
لا أكتمك سرا ً ياحبيبي.. أنني لا أزال في شكّ من أمري .. ولا أزال أتساءل:
– هل فعلا ً أنني قد حصلتُ على حريتي ..؟!
أم أنني ضعتُ مجددا ً في إحدى الدروب التي تشبه تلك التي كنت أظنها ستوصلني إلى مبتغاي ..؟!
– اسنديني ثانية ً.. ألا ترين غزارة المياه في الأسفل ..؟!
– لو أننا عبرنا من المكان الآخر..!! ما أغبانا..!!
– لاعليكِ .. نحن هنا.. فلنعبُر..
– المكان الآخر مزدحم.. لو انتظرنا ً دورنا لتأخرنا كثيرا ً..
– تضحِكينني أحيانا ً..هل هناك تنظيم للأدوار عندهم..؟!لو كان ذلك لما وجدتهم على ماهم عليه..
– معك حق.. لم أتخلص من التسرع في إطلاق الأحكام..
– انتبهي.. لقد وصلنا..
وبشكل ٍ آليّ ، وضع يده اليمنى على كتفها الأيمن .. وأحاطتْ بيدها اليسرى خصره ..
– انتبهْ جيدا ً.. ثبّتْ عصاك في ذلك الثقب فوق هذه الصخرة.. واقفز معي حال أن ألفظ الرقم ثلاثة..
– الحمد لله .. فلنجلس قليلا ً.. يكاد يُغمى عليّ ..
– آخ .. ظهري انكسر
– .. وتؤلمني قدماي ..
– ظهرك .. أم ظهري ..؟!
– قدماي .. أم قدماك ..؟!
– أتساءل ياسعدو .. إن كنتُ أستطيع أن أقابل الله يوم القيامة .. وأنا أفعل هذا ..
– سأقابله معكِ ..
– نعم .. أستطيع أن أقابله.. وسأقول له ..
بل لا أقول له شيئا ً .. فهو العليم الخبير .. وهو الحاكم العادل ..

______________________


أيقظته في أول ليلة يقضيانها معا ً على فرشة من العشب الأخضر ، دون أن يمسهما أذى من حيوان أو إنسان .. في تلك الغابة الخضراء البعيدة :
حرّكت أصابعها بنعومة ٍ تتلمّس جسده ، لتصدّق نفسها أنها غير حالمة ..
– شعرتِ بالغربة ..؟!
– أبدا ً .. إنما أحاول ألا تفوتني لحظة ٌ واحدة ..
– كنتُ مُتعَبا ً ..
– وأنا غير مُصَدّقة ..
_____________________


– لا أدري إن كان ذلك حلما ً، أم شيئا ًآخر..!!
كنتُ أعوم في تلك الزرقة .. حين رأيتُ وجهكَ.. ذاتَ حُلم ..
رأيته طافيا ًفوق الماء ..
سبحتُ حتى كدتُ ألامس جسدكَ العاري .. في ذلك البحر الهادئ ..
كنتَ في حالة استرخاء ..
وحده رأسكَ ، كان ثابتا ً، وأنفك يطفو ، وبعض عينيك ..
وأحيانا ً ، كان الموج الهادئ يؤرجحه قليلا ً، فيغمره .. ولا يستريح ..
فيميل قليلا ً.. ثم يعود ويعتلي صفحة الماء ..
ظننتك مصلوبا ً.. من انفراج ساقيك ، وساعديك.. واستسلام ٍتام ٍ، أخافني :
– هل أنت حقا ً ميت ..؟!
تابعتُ السباحة باتجاهكَ ..
أمسكتك من ساعدك .. فالتفتَّ نحوي ، خائفا ً، هلعا ً.. كأنك كنت في عالم آخر..
كان شعري مبللا ً، مسترسلا ًفوق جسدي ، ووجهي ..
فاستويت َعلى الماء ، كأنك تدوس فوق أرض ٍصلبة ..
تأملتني قليلا ً..
أزحتَ خصلات شعري المبلل عن وجهي الغارق بالقطرات ..
لامستَ بأصابعك ، فمي الذي كنتُ أخرِجُ منه الماء ..
شددتني نحوك .. عصرتَ جسدي .. قبّلتَ شفتيّ ..
أزحتك قليلا ً.. أبعدتك – مستغربة ً..
– مَنْ أنت ..؟!
ولم تجِبْ ..
وعندما اقتربتَ ثانية ً ، تأملتُ شاربيك المبللين ، وفمك الشهيّ ، وعينيك الساحرتين .. البعيدتين .. تردّدتُ قليلا ً.. ثم ضممتُ رأسك إلى صدري العاري .. فاستسلمتَ ، كطفلٍ ..
عدتُ ، وضممتك إلى قلبي .. ومسحتُ شعرك المبلل .. قبّلتُ خدّيك .. وتلمّستُ عنقك .. ثمّ شعر صدرك الذي كان يتموّج فوق الماء ، وتحته ، كعشبٍ أخضرفي بداية الربيع ..
صرتَ تجدّل شعري ، ثم ترخيه.. وتتأمّل جريانه مع الماء ..
ثم تأخذه،خصلة ً، خصلة.. تجمعه، وتقبّله.. وتشرب من عصيره المنعش .. ترخيه فوق صدرك .. وأنا أتأمّل ..
أسحبه قليلا ً.. وأعود به من جانب رأسي الآخر ..
أستلقي برأسي ، فوق صدرك ..
تداعبني .. أنتَ..؟! أم الماء ..؟!من الذي كان يحضنني ..؟!
ونسبح .. نسبح متحدين ..
كانت أسماك القرش تمرّ بنا ، وهي خائفة..
كنتُ متأكدة ً، أنها كانت ستفترسنا ، لو أننا كنا منفصلين..
لكنها كانت تهرب مذعورة ً، من ذلك الكائن الجميل ، العملاق .. الذي يفوق كل الكائنات قدرة ً، وجمالا ً..
وكانت الأعشاب البحرية ، تفسح لنا الطريق ، فتميل برؤوسها عنا، كي لا تعكر صفو حبيبين حالمين..
والأسماك الصغيرة ، تتهامس ، وتضحك.. تتجمّع في عرس ٍمهرجانيّ بديع..ثم تأخذ تسبح بعيدا ًعنا ..وكنا نلاحظ أنها تتجمّع زوجين، زوجين.. بين المرجان .. وتحت أجنحة العشب ..
كانت الحيوانات البحرية الصغيرة الدقيقة، تستوطن الطحالب الخضراء ، والملونة.. فوق صخور البحرفي الأعماق.. تتكاثر بهدوء ، وانسجام بدائيين ..
كانت الطبيعة ساحرة .. في ذلك الخضم العاري ..
ونحن نسبح متحدين ..
رأسي فوق صدرك .. وشعري يسبح فوق جسدك.. ويستطيل ، حتى يغمر كامل جسدك ..
أتراه البحرغذاه،فنما بهذه السرعة.. فزاده طفولة ً، ونعومة..؟!
كنتَ مستسلما وبديعا ً..
وجهك كالملاك ..
تخترق الحواجز بأجنحة ٍمن نور..

________________

ومرة ً.. صعدنا جرفا ً صخريا ً..
أمسكتني من ذراعي ..
واعتلينا القمة ، تلو القمة ..
كنا نجلس متجاورين .. يدلي كل منا ساقيه إلى الأسفل .. ونلوّح بهما .. بتناظر ٍبديع ..
كنا طفلين ..
وكانت أرجلنا تتشابك أحيانا ً، عن قصدٍ .. أو دون قصد ..
وكنا – عندها – نضحك ملء قلوبنا .. ونفرح بالصدى ..
تشرق الشمس .. وتغرب .. وننسى أنفسنا ..
ولا نخاف الظلام ..
كنا نتآلف مع الطبيعة .. روحا ً، وجسدا ً..
نعشق طهارة بدائيتها ، ونقاءها..
كنتَ تناديني باسمي .. وأناديكَ باسمك َ..
فيتعانق الصدى .. وننتشي ..
________________


– هل كان ذلك حلما ً..؟!
أم هذا هو الحلم ..؟!
هل هذه هي حبيبة ..؟!
أم تلك ..؟!
أم ..؟!( الحياة حلم ..والموت يقظة ..)!!
ياألله ..!!ماهذا ..؟!
وهل علينا أن نصدّق كل ما نقرأ.. أو ما نسمع .. أو حتى ما نرى ..؟!
لكن .. لماذا أشغل نفسي الآن، وفي هذه اللحظة بالذات،بمثل هذه الأسئلة ..؟!
أنتِ الآن بين أحضاني .. فمالي أشغل نفسي بأمور قد تكون حقيقة ، وقد لاتكون ..!!
أكون مغفلا ً، أو غافلا ً، إن تابعتُ التفكير بهذه الطريقة ..
أنت ِ الآن ، الحقيقة الوحيدة التي بين يديّ .. وهذا يكفي ..
فلأبحر معك ِفي تلك العوالم الساحرة ، التي طالما دغدغتْ خيالي ، وأنا أعبر تلك الغابة الموحشة.. فلا تتركيني ..
سمعت ِ..؟!
هل سمعت ِصوتي يا حبيبة ..؟!
لاحظ أن صوته لم يخرج من صدره .. ويبدوأن ذلك قد حصل معه منذ مدة طويلة .. والدليل على ذلك ، أن فمه كان قد تيبّس ، لولا بعض قطرات ٍ من ريقها ، أشعلتْ فيه الحياة النائمة..لكنه ، بالمقابل ، لاحظ أنها تسمعه .. والدليل على ذلك أيضا ً،أن جسدها كان يزداد طراوة ً، وليونة .. ودفئا ً.. ورطوبة ً منعشة.. ومن مداعبات كفّها السحريّة ، التي تسبح فوق ظهره ..
تساءل أيضا ً:
– هل هذه ، فعلا ً يدُها ..؟! وهل ….؟!
لكنه قطع تساؤلاته .. وأنب نفسه ثانية ً:
– عُدتُ إلى الهذيان .. لماذا أشغل نفسي بعدّة احتمالات .. قد تكون واقعة حقيقية .. وقد لا تكون ..؟!
وسمعها تقول له :
– كيف أدخِلكَ إلى قلبي ..؟!
– إنني في قلبِكِ ..
________________________


عندما رأى / الشيخ مجيد / أن صحته تتدهور.. وأن الأطباء في سورية ولبنان ، عجزوا عن إيجاد دواء يشفيه من العلل الكثيرة التي انتابته منذ سنوات طويلة .. بدأتْ منذ أن اضطرّ إلى تسليم سلاحه ، مع رفاقه المجاهدين..لانقطاع الإمدادات.. وإنهاك الثوار .. الفلاحين الذين تفوق طاقاتهم الروحية إمكانياتهم الجسدية والمادية بكثير ..
شجّع ابنه البكر عادل ابن السبعة عشر عاما ً .. أن يذهب إلى المدينة ، ويتزوّج ابنة خاله / مريم / .. التي يكاد يخطفها من هم ليسوا جديرين بها – كما كان يقول –
ترك عادل المدرسة ، غير آسف.. بل رآها فرصة مناسبة للتخلص من سلطة ذلك الأستاذ القاسي .. وتلك المناهج الجافة التي لم تكن تغريه بالمعرفة التي كان ينشدها .. لم تكن به رغبة إلا لتعلم اللغة العربية والشعر.. وفضول لمعرفة اللغة الفرنسية .. لكن قسوة الأستاذ الوحيد، الذي يدرّس كل الصفوف، كانت تنفره ..
أما القرآن الكريم ، فقد كان يحفظ الكثير من آياته غيبا ً.. عندما كان يقرأ مع مجموعة من الأطفال عند / الخطيب / .. قبل دخوله المدرسة .. تحت إحدى شجرات التين الأكثر تظليلا ً.. يتنقلون تحتها حسب ميلان الظل ..
__________________


/ مريم /.. تلك الشابة الفارعة الطول .. الجميلة الملامح .. التي تسابق على استمالة قلبها جميع الأقارب .. منهم من أرسل أهله ليطلبوها.. ومنهم من كلمها مباشرة بهذا الخصوص ..
لم يستطع أحد أن ينال قبولا ًمنها .. ولم يقبل أبوها أن يزوّج ابنته الوحيدة ممن لاترغبه ..
خاصمه الأقارب .. واتهموه أنه لايحبهم .. لأنه لم يستطع إقناع / مريم / الجميلة الطموحة .. الذكية .. الحالمة .. التي أدخلها أبوها المدرسة في زمن كانت المدارس فيه للذكور فقط .. لكنها خرجت من المدرسة بعد أربع سنوات قضتها فيها .. بحجة أنها لا تستطيع أن تكون البنت الوحيدة بين الذكور.. تصطف معهم وتحيّ العلم .. وتجلس على مقعد وحيد في غرفة متهالكة كانت يوما ًما ثكنة عسكرية للفرنسيين ..لتتلقى تعليمها كما الذكور تماما ً ..
ولم يجد / أبو مريم / الشيخ الجليل بدا ً من الاقتناع بما حاولت ابنته إقناعه به .. لكنه اشترط عليها أن تتابع التعليم في البيت .. فكان له ما أراد .. وتابعت مريم القراءة والكتابة .. والاطلاع على العلوم الأخرى .. خصوصا ً التراثية منها .. واستطاعت أن تحفظ أغلب آيات القرآن الكريم .. غيبا ً.. وبعض الأحاديث النبوية .. وأقوال الإمام عليّ .. والكثير من الحكم والأمثال الشعبية المتوارثة عبر أجيال .. والكثير أيضا ً من الحكايات الشعبية.. التي ظلت ترويها لأبنائها.. وابنة سكينة اليتيمة /حبيبة / ..
ضاق أبوها ذرعا ً بكثرة الخطـّاب .. مما جعله يحسم الأمر بإلزام مريم على الاختيار.. وكم كان سعيدا ً عندما اختارت ابن عمتها / عادل/ ابن /الشيخ مجيد/ رغم أنها لم تكن تراه إلا نادرا ً.. فأسرع عادل .. بتشجيع من كل أفراد العائلة إلى الزواج بابنة خاله .. محققا ً أول حلم ٍ .. لم يكن يتوقع أن يحصل عليه ..
حيث سكن مع زوجته في بيت أبيها / الشيخ اسماعيل / إلى أن صار عمر ابنهما البكر/ صالح / أكثر من عام بقليل .. وكانت / أم صالح / قد حملت بمولودتها الثانية / بتول / ..
وقد عقدا العزم على أن يبقيا مع العائلة في المدينة .. وأن يساعده خاله /الشيخ اسماعيل / في تأمين عمل.. في نفس الشركة التي يديرها .. إذ أن الثقة بينهما كانت مطلقة .. وعند ذلك ، يستقلّ /عادل / مع زوجته وأبنائهما في بيت مستقلّ .. كاد يشعر بالاستقرار.. لكن ..
لم يطل الوقت على فرحته ..
حتى جاءه خبر وفاة أبيه كالصاعقة ..
_____________________


كانت جنازة أبيه المجاهد ، واحتفالات تأبينه التي اجتمع فيها الناس من عدة مناطق ، ومحافظات سورية ، ومن لبنان أيضا ً..أنشدوا الأشعار.. وألقوا الخطب الوطنية ، والقومية ، والإنسانية.. مشيدين بشخصية الشيخ الجليل ، وبطولاته .. وتعامله الإنساني وسعة معرفته.. وعدله..
ترك ( الشيخ مجيد) وراءه أسرة مؤلفة من عدة أبناء.. وبنات..أكبرهم / سكينة / وثانيهم/ عادل/ ..
____________________


انضمت أخته سكينة وطفلتها إلى العائلة الكبيرة .. لتصبحا أمانة إضافية من الأمانات الكثيرة التي يحملها عادل ابن التاسعة عشرة .. بعد وفاة أبيه ..
كان يدرك ثقل الأمانة .. لكنه بالمقابل .. كان واثقا ً من نفسه ، ومبادئه .. إلى درجة كبيرة .. ويصرّ على تحقيق أحلامه .. التي هي في الحقيقة ، امتداد لطموحات أبيه التي لم تتحقق .. فعاهدَ نفسه على أن يكمل الطريق التي سلكها أبوه .. ويقوم بكل الواجبات التي ألقيتْ على عاتقه على أكمل وجه .. بشكل يرضي ضميره .. ويرضي أيضا ً روح أبيه الذي كان يشعر بالذنب تجاهه .. خصوصا ً عندما يضطرّه عناده ، وجرأته المبالغ فيها .. إلى اقتراف الكثير من المخالفات .. فيضطرّ / الشيخ مجيد / إلى التوسط لدى هذه الجهة أو تلك .. كي تعفو عن ابنه المندفع .. بحجة أنه لم يبلغ سنّ الرشد .. ولايمكن محاسبة قاصر .. لكنه يوبّخه في البيت ويهدّده ويتوعّده ..
فمثلا ً .. مرّة اضطر أن يتدخل لإخراجه من السجن ولم يتجاوز العاشرة .. لأنه سبّ أحد رجال / الدرك / .. عندما خاطبه هذا الآخر .. بكلام ناب ٍ – دون وجه حق – مما أهان كرامة ذلك الغِرّ الأبيّ ..
ولولا نفوذ الشيخ مجيد .. ومكانته الجهادية والأخلاقية ، والاجتماعية .. لما استطاع إطلاق سراح ابنه ..
__________________


كان/ أبوصالح / .. دائما ً يطلب المزيد من العطاء.. والتفوّق.. ونكران الذات .. من نفسه.. ومن عائلته .. كان طموحه لا يحد.. في أن يكونوا قدوة في كل شيء.. فيصرّ على أن يُشعِرَ أبناءه أنهم مقصرون في واجباتهم الدراسية ، وغيرها ..
أراد أن يحفزهم ليستنفر طاقاتهم الكامنة.. لكنه لم ينتبه إلى أنه كان يرهقهم بالواجبات.. فيزدادوا شعورا ً بالذنب والإحباط إذا قصّروا .. في أي واجب.. وحتى دون أن يقصّروا ..
__________________


كان أهل القرية يتحدثون بكل إجلال وتقدير عن / الشيخ محمد / ذلك المجاهد الذي شارك في المعارك ضد العثمانيين .. ومن بعدهم الفرنسيين .. بالإضافة إلى أن بيته كان مِحَجّة ً لكل طالب حق..وكل مظلوم ..هو وإخوته..
فقد توارثوا أيضا ً.. مايشبه سلك القضاء..لكن دون رخصة أحد .. إنما الرخصة كانت قد جاءت من الثقة بهؤلاء الرموز المنصفين الشجعان ..
هؤلاء الفلاحين الملاكين المجاهدين الشعراء الصوفيين..الذين لا يزهدون من الدنيا.. إنما يسعون بجد ونشاط ليعيشوا ماكتب لهم .. طامحين نحو الأفضل.. لهم ولغيرهم.. ومتقبّلين – بكل إيمان – /القدَر/ الذي يأتي دون إرادتهم..أو لا يستطيعون أن يغيّروا منه شيئا ً.. كالموت – مثلا ً- .. أو ولادة طفل مشوّه.. ولم تُغرِهِم النعَم التي بين أيديهم أو التي يحصلون عليها.. إذ أنهم كانوا يقتنعون أن كل شيء ماديّ زائل..لامحالة.. وأن النعم كلها.. من صحة ومال وبنين وشجاعة وثقة من قِبَل الآخرين ..أو أي رزق يأتيهم..كل ذلك كانوا متأكدين أنه أمانة بين أيديهم..عليهم أن يخدموا من خلالها الآخرين..ويدافعوا عن الحق .. أينما وجدوا اعتداء ً عليه ..
كانوا يطمحون فقط إلى الاكتفاء الذاتي.. ويفهمون الغنى على أنه غنى العلم والمعرفة.. والقدرة على الاستغناء عن الحاجة المُذِلة إلى الآخرين.. مع إيمانهم الراسخ بالتعاون بين البشر.. وأن الناس كلهم بحاجة إلى تكامل الحاجات.. بالتعارف.. والتعاون ..على ماهو خير الجميع ..
كانوا يعاملون الفلاحين الذين يعملون معهم في أرضهم .. كما يعاملون أفراد أسرهم .. يعيشون بينهم .. ويأكلون من نفس ما تأكل أسرهم .. يلعب أبناؤهم مع أبنائهم بندّية .. تخلو من التمييز الطبقيّ الذي كان يسود في زمانهم .. يسكنونهم في بيوت خاصة .. ملاصقة لبيوتهم .. طينية مثلها ..
كانت الميزة الوحيدة .. التي تتمتع بها عائلة بيت / الشيخ مجيد / .. عن أولئك القوم .. أنهم يملكون الأراضي .. والماعز والأغنام .. والحمير .. والبقر .. بينما أولئكَ لايملكون إلا القليل .. جاؤوا من قرى بعيدة .. هرباً من الفقر والقمع والقهر والموت .. وظلم الملاكين الكبار .. الإقطاع الذي انقسم في ذلك العصر إلى نوعين .. نوع فضل مصالحه الخاصة على المصلحة العامة .. وتعامل مع الاستعمارالفرنسي .. ومن قبله العثماني الذي رزحت تحت نيره البلاد قرونا ً عديدة .. مريرة .. ذاقت فيها البلاد والعباد .. شتى أنواع القمع والقهر والتجهيل والتفريق والتمزيق بين أعضاء الوطن الواحد .. مالا يمكن أن يعرفه إلا من ذاقه .. أو من عايشه من أبناء تلك المنطقة من العالم الغنية بثرواتها الفكرية والمادية والمعنوية .. والتي لايزال يطمع بخيراتها كل مستعمِر.. ولا تزال تتكالب عليها أطماع الدول الاستعمارية .. وتتسابق على استثمار خيراتها الشركات العالمية الاستعمارية العنصرية .. على مبدأ / الغاية تبرر الواسطة / .. وكان ولا يزال الشعار الأهمّ لهذا الاستعمار بكل أشكاله وألوانه مبدأ / فرّقْ .. تسُد ../ .. مما أتاح لذوي المصالح الخاصة .. والشركات الاستعمارية .. أن يثبتوا أقدامهم في هذه البلاد .. قرونا ً طويلة .. متخفين أو منكشفين ..
لم يقدر الجهلاء..أو الاستعمار العثماني..أو الفرنسي..والمتعاملين معه على أن يزعزعوا إيمان هؤلاء النخبة ..بالحق..وأن أي نصرة لحق أي إنسان في العيش ..بحرية..وكرامة..على هذه البسيطة..هو نصرة ٌ للحق الأعلى ..الحق الأكمل..وأن أي ظلم ..أو تقاعس عن نصرة الحق..هو خيانة..تستوجب المسؤولية..على مبدأ../العين بالعين..والسن بالسن..والبادئ أظلم../..وكان مبدأ القصاص عندهم ..يأتي على مبدأمعاقبة الفاعل شخصيا ً..وليس أحدا ًدونه..وكانت العقوبة عندهم أيضا ً عادلة..فلايعاقبون الظالم إلا بمقدار ظلمه..فإن تاب ورجع عن ظلمه.. سامحوه .. لكنهم ينظرون إليه بحذر.. ودون ثقة كافية..لأن من يتوب نتيجة العقوبة.. يكون قد تاب خوفا ًمن العقاب..وليس حبا ً بالعدل.. والخير.. والإنصاف.. وفي هذه الحالة يكون التائب – غالبا ً- ينتظر أن تزول سلطة القضاء حتى يعود إلى طبعه../ والطبع يغلب التطبّع / فيفسد في الأرض كما كان.. بل ربما أكثر..
لأن/ الخوف.. قد يصنع طاعة ً.. لكنه – أبدا ً- لن يصنع حبا ً/..
______________________


كان الشيخ محمد أيضا ً طيب المعشر..عذب الصوت.. يغني في المناسبات..كما يجاهد مع المجاهدين.. يميّزه عن إخوته شيء واحد..هو أنه كان شاعرا ً..فلم يذهب إلى العمل في الأرض يوما ً..إلا اصطحب معه دفترا ً.. وقلم / كوبيا / .. يستخدمهما عندما تأتيه فكرة جديدة..أو بيت شِعر..أوعندما يتذكر أنه في غمرة أعماله..وانشغاله الدائم.. ربما نسي حق أحد.. فيسجل ذلك حتى يأتي الوقت المناسب لتفعيل أفكاره .. واستخدامها في خدمة الحق.. والخير.. والجمال..
كانت لديه كتبٌ تراثية .. يعتمد عليها كثيرا ً في مداواة الأمراض .. بالرقى والأعشاب .. والبحث عن الأشياء الضائعة .. والتنبؤ بالكوارث الطبيعية .. والحروب .. ويستطيع تخمين مدلول خسوف القمر ، حسب لونه وشكله .. أو كسوف الشمس .. أو بسقوط المطر .. أو انقطاعه .. تأخر ( الرّيات ) التي تعتمد عليها الخصيبة في زراعتها .. أو قدومها المُبكر .. و تفسير الأحلام .. كما في التنبؤ بالمستقبل .. لكنه يقول دائما ً :
– هذا ما ورثناه من علوم .. أما الحقيقة المطلقة ، فهي في علم الله تعالى / العليم الخبير / ..
ومن ضمن ما تناقله الناس عن لسانه .. أنه كان يتنبأ أن / الحديد.. سيطير يوما ً ما .. في السماء ../ .. وتأكد الناس من هذه النبوءة .. عندما رأوا الطائرات المصنوعة من الحديد ، تعتلي الأجواء ..
ومن أنه / سيأتي يومٌ تقلد فيه المرأة ُ الرجل .. ويقلد فيه الرجل المرأة .. في اللباس والأفعال .. وتختلط الأدوار ../ .. وهذا ما حصل في العصر الراهن ..
كان أخوه/الشيخ مجيد/ يحبه ككل إخوته.. لكنه يأخذ عليه في أنه يضعف أحيانا ًويتنازل عن حقه ..إذا استعطفه المعتدي على حقه.. فيرق قلبه الحنون.. ويطلق ذلك الغاصب.. ليعود ويعتدي مرة أخرى على حقه بشكل أكبر.. وأكثر ثقة أنه لن يُردَع.. ثم يدعي أنه تاب..وأنه اقتنع أن له حدودا ً في ممارسة حريته.. وفي أطماعه.. وسوف لن يعتدي على حق أحد بعد الآن..فيصدقه /الشيخ محمد/أو ربما يعطف عليه.. ويطلق سراحه.. ويعفو عنه مرة أخرى.. ليعود ذلك الماكر.. المراوغ.. ويطمع أكثر بطيبة قلب/الشيخ محمد/ وعفوه عمّن ظلمه.. دون أن يأخذ حذره من ذلك الظالم..كان ينظر إليه بمنظار روحه النقية..روح الشاعر الإنسان..الذي يرى من الدنيا ما يحلم أن يكون حقيقة..
أما / الشيخ مجيد/.. فقد كان يختلف عن الجميع..بجرأته البالغة على اقتحام الصعاب..وتذليل كل العقبات للحصول على حقه..وحق كل مظلوم ومستضعَف..دون تمييز بين قريب أو بعيد..بين طائفة أو أخرى ..أو بين مذهب وآخر..
كان يُدركُ أن الحق..لا يُجَزّ أ..وأن عليه أن ينصر الحق في كل مكان وزمان..ابتداء ًمن نفسه..التي كان يعاقبها بالحرمان من حقوقها الطبيعية..إذا لاحظ أن هذه النفس /الأمّارة بالسوء/ تفكر بأي سوء..
وكان أيضا ًيعاقب أفراد أسرته إذا أساؤوا..بل ويشدّد عليهم العقوبة..لأنهم – في نظره- أبناء مناضلين..وقضاة..ورموز..وعليهم أن يكونوا قدوة للجميع..فكيف سيطبقون العدل بين الناس إذا لم يكونوا قدوة في العمل الصالح..؟! كان يُدركُ خطورة خطأ الرمز..ويرى أن المسؤول في أي مجال،أخطر من الإنسان العادي..
كان يوصيهم بما يوصي نفسه به..ويحثهم على إتمام المَهَمّة التي عاش من أجلها كل حياته..وأوصاهم ألا يحزنوا عليه عند وفاته..إذ أنه لم يترك حقا ًرآه ..دون أن ينصره ..أو يحاول ما استطاع..وما كان بإمكانه أن يفعله في سبيل نصرة ذلك الحق..أما ما لايستطيع تحقيقه..وكان فوق طاقته المحدودة كفرد..فهي مَهَمّة الأجيال التي تأتي بعده..وهي أمانة في أعناقهم..عجزت عن حملها الجبال..
( – عادل ..
إياكَ والأحزاب ..
إياكَ والتعصّب الطائفيّ ..
إياكَ ……… !!! )
____________________


/ حليمة/ الابنة الوحيدة للشيخ محمد.. شابة جميلة.. يتيمة الأبوين.. تزوجت ابن عمها الوحيد على ابنتين.. استبشرت خيرا ًعندما أنجبت من/ سليم/الضعيف البنية،ابنة ً.. لكن انكسار حلمها لم يكن ليعوّض عندما توفيت طفلتها.. ذات الأشهر السبع.. فكانت تترك زوجها في فراشه.. وتذهب في الليل.. إلى قبر حلمها.. تذرف أنهارا ًمن الدموع.. وتغني –بصوتها الحنون- الذي أورثها إياه أبوها.. غناء ثكلى.. وتحدث ابنتها بحنان الأم المفجوعة عن آلامها وآمالها ..وتروي لها أحاديث..عن حياة أهلها.. جدّيّ الطفلة، وأقاربهم والجيران.. وعن كل ماكانت تحلم أن تحدثها به عندما تكبر..وكان حلمها أن تسقي ابنتها من نفس المعين الذي شربت هي منه.. لكنه مصفى أكثر وأكثر.. لتنقل تلك الطفلة..الابنة.. بدورها ..هذه الأحاديث لأبنائها الذين كانت /عمتي حليمة/ تراهم امتدادا ًلها.. وامتدادا ًلسلالتها النقية.. وعندما تتذكر المفجوعة أن من تكلمها ليست سوى جثة طفلة عمرها سبعة أشهر فقط..وأن ماتسقيها إياه ..إنما تسقيه إلى روح الطفلة الأمل .. فقط .. وأنه فقط كلام قد تسمعه روح الطفلة.. وقد لاتسمعه.. فتزداد أكوام التراب سماكة فوق قبر حلمها بالامتداد والخلود.. لكنها لا تريد أن تصدق نفسها.. فتشعر بالحاجة إلى الإغماء.. لتهرب من أقسى شعور مرّ عليها.. وما أكثر ما مرّعليها من مآسي..!!وتتساءل :
– هل انتهى أهلي..؟!
هل ستنقرض سلالتي..؟!
وبهذه البساطة ينتهي كل شيء..؟!
وفجأة ًتتنبه الأم الثكلى إلى أن طفلتها جائعة..
– الجوع..؟! الجوع يا / ضوّ عيني/..؟! لن أدعه يفتك بكِ .. كما فتك بأجدادكِ وأبيك يا/ حورية/..؟!
وتتذكر قول الإمام /عليّ/عليه السلام :
/ لوكان الفقر رجلا ًلقتلته/..
فتفتح أزرار فستانها القطني الواسع والمشجّر.. وتخرج منه صدرها.. وتحلبه فوق القبر .. لترضع الصغيرة.. وتظل تحلب.. وتحلب ..وتصرّ على أن تُخرِجَ آخر قطرة من الحليب الشحيح .. لتسكبه في فم الصغيرة .. المفترَض.. ولا تنسى أن تهدهدها.. وتغني لها أغنيات المهد ..
/ نيّمتا بالمرجوحة.. وجحتا جَوحة عْلى جَوْحَة.. وبالله عليكي صلّوحة .. هزّي للغالي تينام /
/ نيّمتا بالعلّية…………وبالله عليكي يا بنية..هزّي للغالي تينام../
وعندما يقترب الصباح.. وتهلّ بشائرالفجرالحزين..تدغدغ كفّ ُالطبيعة .. وجه حليمة.. وكأنها أمها الكبيرة الحانية ..التي تمسح دموعها ، بأصابع من نور.. لتخفف من آلامها..وتعِدها ببزوغ فجر جديد..
فتلملم أشلاءها.. وتعود أدراجها إلى البيت..فتسمع من بعيد،صوت زوجها المريض.. يرندح لحنا ًصوفيّا ًحنونا ً..وهو يبكي عجزه..وانطفاء حلمه الأرضي..فيطلب رحمة السماء..برجاء..وتبتّل وإيمان صادق لا يتزعزع..أنه سيلاقي في جنة السماء..ما حُرِمَ منه على الأرض ..أضعافا ًمضاعَفة..نتيجة ًلتمسّكه بالصبرعلى الابتلاءات المتواصلة..
لم يطل الأمر على سليم .. فقد لحق بطفلته بعد أقل من شهر .. تاركا ً زوجته الثكلى .. التي لم تبلغ العشرين .. والتي أقنعها عمها الشيخ مجيد بالزواج من ذلك الأرمل الآتي من الجرد ليطلبها بعد ترمله هو الآخر .. ويتبرّك بأصلها .. تزوجت حليمة بعد ترملها بسبع سنوات ..

____________________

ظلت / عمتي حليمة / تحتفظ بجمالها الروحي والجسدي .. وعينيها الخضراوين الساحرتين .. وطولها الفارع .. الذي كانت تزيده طولا ً وجمالا ً .. تلك الفساتين الواسعة الطويلة .. التي كانت تخيطها بنفسها.. حتى أن كشاكشها كانت تصل حتى الكعبين .. وتلك المناديل الحريرية التي كانت ترتديها عندما كانت تأتي إلى بيتنا .، بصحبة زوجها الذي كان يدللها كأنها ابنته ..
عندما كانت / عمتي حليمة / تسمع بأن ابنه المرحوم ماجد مريضة .. كانت تأتيها بحرز – مغلف ٍ ب / خلاع ٌ / مقصوصة من أقمشة خضراء كانت مقامات الأولياء .. كانت تبكي وتقول:
– علقيها قرب رأسك يا ابنتي .. ياحبيبة .. قد تساعدك على الشفاء .. فقد ساعدتني قبلك كثيرا ً ..
كما كانت تواسيها قائلة ً :
– لا تزعلي ياحبيبة .. / وتزداد غزارة دموعها وهي تتذكر / وتتابع :
– أن لا يكون لديكِ أبناء ، أفضل من أن تنجبي ويموتوا .. أنتِ لم تذوقي حرقة كبدي ياحبيبة ..
وتدعو الله ألا تذوقها أمّ في العالم ..
وظلت حتى وفاتها مخلصة لبيت أهلها في ( الخصيبة ) .. كما ظلت مخلصة لأبناء زوجها السبعة .. الذين كانوا يعتزون بها وبنسبها .. ولا يستغربون معاملتها لهم بحنان أمّ حقيقية .. فهي / تعمل بأصلها / .. لذلك تستحق حبّ زوجها الحنون .. المؤمن الصادق / الشيخ علي / .. وتحمله لطباعها القاسية .. ودلالها عليه .. ويقول :
– / المحقيني دائما ً خلاقو صعبة / ../ والله حْليّمي – كما كان يدلعها – مليحة كتير وحنونة .. بس طبعها صعب ../
وبعد أكثر من عشرين عاما ً على وفاتها ووفاة زوجها ، الذي لحق بها بعد أقل من عام .. لايزال أبناء وأحفاد زوجها يتواصلون مع أهلها في الخصيبة .. وأهلها يتواصلون معهم .. ويستفسرون عن أحوالهم .. وربما يرسل لهم عادل .. الكثير من المساعدات المادية والمعنوية .. قد لايصرّح بذلك .. فقد اعتاد على أن يعطي في الخفاء أضعاف مايعطيه في العلن ..
كانت أكياس البطاطا الطردية ذات اللون الفاتح ، والتي تتمتع بصلابة ذلك الجرد .. وسحاحير البندورة الجردية .. ذات الأقراص الكبيرة .. العملاقة .. واللون الزهريّ الجميل .. التي كانت تأتي إلى بيت / أبو صالح / .. في المواسم .. تلك الثمار الصحيحة .. التي لم ترَش بالمبيدات الحشرية أو الفطرية – أبدا ً- ولم تدعم تربتها الخصبة – يوما ً- بالأسمدة الكيماوية .. كانت تبقى في البيت – دون ثلاجة – أشهرا ً عديدة .. دون أن تتعرض للتلف ..
حين يبدأ أحدهم بقصم حبة البندورة .. بيديه دون سكين . تنبثق على سطحها الداخليّ حبات كأنها الندى .. تغريك بتناولها بمنتهى الشهية .. و تنبعث منها رائحة البندورة الجبلية الحقيقية ..
أين نحن منها الآن .. في زمن / العولمة / وتحكم الشركات التجارية بالعالم .. واعتمادها على الربح السريع .. دون النظر إلى صحة المواطن أو أمنه .. ؟!
هذا الزمان .. الذي صارت فيه مهنة / التجارة / رمزا ً للخداع والقذارة .. لأنها تحولت من مهنة ككل المهن .. تعتمد على تلبية حاجات التاجر والمشتري .. المستهلك .. لصالح الاثنين معا ً دون غش ودون خداع .. دون احتكار ودون شك بنزاهة التاجر ..
لم تكن / الغاية تبرر الوسيلة / .. لم تكن ثقافة / أنا .. ومن بعدي الطوفان / قد عُرفتْ في هذا الوطن ..
وكان عادل.. يسارع إلى ردّ الجميل بأحسن منه .. فيعطي أسرة ابنة عمه كل ماينقصها من مواد تموينية .. كزيت الزيتون ، الذي كان عادل يحتفظ كل موسم .. بحصة بيت / أختي حليمة / وحقها في إرث أهلها .. من كل ما تنتجه الأرض .. في مجتمع ٍ ذكوريّ نادرا ً مايعترف بحق المرأة في الميراث ..
_________________


ربّتْ الجدة / أم سليم/ أبناء وبنات عادل.. الذين وُلِدوا خلال حياتها.. وابنة عمتهم حبيبة.. وأخلصت لهم كأنهم أحفادها.. كما كان عادل مخلصا ًلزوجة عمه الأرملة ، والثكلى.. وكان حريصا ًعلى مشاعرها أكثر من حرصه على نفسه..أو أي فرد من أفراد عائلته.. لدرجة أن أمه/ فاطمة/ كانت تغار.. وتشعر بالغبن.. كيف يعطي ابنها الذي تعبت عليه وربته عندما كان أبوه يتابع مع الثوار مسيرة النضال المريرضد المستعمر الفرنسي.. ويترك لها مهمة تربية أبنائهما.. بالإضافة إلى العمل في الأرض.. واستقبال الضيوف.. وغير ذلك من المسؤوليات التي ترتبت على عاتقها كزوجة مجاهد.. ورمز وطني..يؤم بيته الناس من سائر الجهات.. من دمشق.. وحلب.. طرطوس.. واللاذقية.. ومن طرابلس،وبيروت.. وإدلب.. وجبل العرب ..
فتبكي عندما ترى ابنها البكريحترم زوجة عمه أكثر منها.. ويقول لها ولزوجته ..عندما يلمح شيئا ًمن التأثر على وجه زوجة عمه:
– من منكما اقتربت من مشاعر زوجة عمي..؟!
فتحلف كل منهما أغلظ الأيمان أنها لم تفعل..ولايمكن أن تهينها أو تقصّربحقها..أبدا ً..
لكنه يشك في صدق ماتقولان.. فيحلف :
– والله..الذي لا إله إلا هو.. إن رأيتُ الدمعة في عينها مرة أخرى../سأجعل ألله ماخلقكم/..
لكن العجوز الحزينة ، كانت تضطرّ بعد ذلك أكثر من كل مرة..لأن تخفي مشاعر الحزن النبيل الجليل الذي كان له من المبررات الشيء الكثير..أكثر مما يتوقعه ابن سلفتها عادل.. والذي اختصره- في زحمة مشاغله- إلى كلمة نابية من أمه أو زوجته ..
فحوّلتْ بكاءها إلى أغاني عذبة حنونة.. كانت تهدهد الصغار بها .. وهي تؤرجحهم بين ساقيها.. وهي تجلس على كرسيّ صغير.. قوائمه الأربع من خشب.. وقاعدته من قش مجدول ..
كم كانت العجوز تستمتع وهي تروي بسعادة غامرة .. سعادة الإنسانة المؤمنة التي تتعالى على جراحها الخاصة.. لتجعلها بلسما ً لجراحات الآخرين .. بصوتها الدافئ .. وضحكتها الخفيضة .. كهبّة ريحان ٍ عبرت ذلك الوادي وتخللت الجبال لتنثر شذاها في رحاب المكان :
– كانوا يحبون زيارة / ختيارة بيت علي /.. كانت حبيبة تحضر لي / صرمايتي / .. عندما تملّ .. لم تكن تعرف الكلام بعد .. لتفصح عن رغبتها بالعودة إلى البيت .. ما أذكاها ..!!
– رحمكِ الله يا / مرت عمي أم سليم / .. لم أعرف أن اسمكِ / خديجة / .. إلا عندما كبرت .. وربما بعدما تزوجت .. كنتُ أناديكِ .. كما كانت أمي وكبار العائلة ينادونك ِ.. بخلاف كل الأطفال الذين ربّيتِهم .. والذين كانوا ينادونكِ / جدّتي / ..
رحمكِ الله .. لقد ملأتِ طفولتنا دفئا ً .. وحنانا ً .. لم يذق مثله طفلٌ في القرية .. وربما في كل القرى المجاورة ..
كنتِ تحيطيننا بهالة ٍ من الحنان .. والأمومة .. والقدسية ..
كنا ننظرإليكِ كهويّة نعتزّ بها .. تركتْ بصمة ً من حنين .. لاتزال أرواحنا تعبق بطيبها .. مادمنا أحياء ً.. سنورثها لأبنائنا من بعدنا .. أيتها الطاهرة ..
لم أكن أصدّق أن أحدا ً من عائلتنا يمكن أن يموت .. كنتُ أسمع أن فلانا ً أو فلانة قد ماتوا .. وكنتُ أظن أن هذا الزائر البغيض لايجرؤ على الاقتراب من بيت / الشيخ مجيد / .. ومن هو حتى يقربه ..؟! وقد هزموه في كل المعارك التي دارت بينهم فوق هذه الأرض الطاهرة ..؟!
هم عشاق الحياة .. عبّاد الحيّ القيوم .. فكيف يجرؤ الموت على الاقتراب من بيوتهم العامرة بالحياة ..
لكنه غدرنا واختطفكِ من بيننا ذات يوم ٍ كئيب .. أذاقني فيه أول مذاق ٍ لحنظل الفقد .. ومن يومها .. وأنا أكره الموت يا / مرت عمي / .. إذ لايزال يختطف من أمام عينيّ .. ومن بين أحضاني .. حلما ً وراء حلم .. لكن أقساها كان فقد/ أخي صالح / ..
____________________


– لو أحرقوا الذاكرة .. والتراث المكتوب على الورق .. فلن يستطيعوا محو الهوية الحضارية .. من جينات أهل هذه الأرض الطاهرة .. على اختلاف انتماءاتهم الفرعية .. التي تشكل ألوانا ً متناغمة مع بعضها .. لتثري ذاتها .. كما تساهم في إثراء الحضارة الإنسانية ..
__________________


كان ( الشيخ حامد ) فلاحا ً، وعاملا ً نشيطا ًفي الأرض .. ومسحوقا ً، يستغل ربّ العمل إخلاصه في عمله ، وتفانيه فيه.. دون أن يعطيه أجرا ًكافيا ً.. مستغِلا ًحاجته الملحّة للعمل عنده ،لأنه لم يكن يملك مساحة من الأرض تكفيه ليعيش من خلال إنتاجها مع أسرته، وهو صاحب الأراضي الواسعة.. والأملاك المخبأة في خوابي سريّة.. مخفيّة ، إلا عن شخص واحد في العائلة ، الوحيد الذي يحقّ له امتلاكها،وبأمره وحده يصرف منها ،حيث يرى ذلك مناسبا ً.. وكثيرا ًما كان ذلك المتصرّف ، وريث المُلك يختلف مع إخوته الآخرين ، على حقوقهم من الإرث.. ولايقبل إطلاعهم على كميته ، وأورثوا تلك الأحقاد لأبنائهم ،وأولئك لأبنائهم أيضا ً..كان ذلك يصل بالإخوة إلى حدّالاقتتال.. حتى صار واحدهم لايكره أحدا ًأكثر من أخيه ..لا يتبادلون التحية.. ولا المساعدة في الأعمال .. ولو مات أحدهم جوعا ً، لا يمكن أن يستعير من أخيه لقمة..أو حتى كأس ماء..حتى أدى ذلك إلى عبوس دائم .. بينهم ، وبين الآخرين ..لا فرق.. فاسودّتْ وجوههم ، وهم عن كل ما عدا خصوماتهم غافلون..
خافوا العودة إلى مرحلة الفقر المدقع .. فقتّروا على أنفسهم، وعلى الآخرين .. فماتوا هم، والآخرون .. وبقيت الكنوز مكانها.. لكنها – مع الزمن ، ونتيجة رطوبة الأقبية، تعفنتْ، وتضاءلت قيمتها.. وبقيتْ الأحقاد .. كما بقيت الوجوه العابسة ..
كان ( أبو فاضل ) يبكي وهوعائد محنيّ الظهر ، بعد غروب الشمس..ويتحلق أطفاله حوله.. ناطرين لقمة ًًطيّبة ، كان قد وعدهم بها – دون أن يستطيع الوفاء بوعده –
مرة ً.. أفاقتْ طفلته الصغيرة، بعد منتصف الليل، طالبة ًالطعام .. ولم يكن في البيت رغيف خبز واحد ، أو حتى لقمة ( سليق) أو غَرْفة ًمن أي نوع من الحبوب.. أو حتى أي شيء يؤكل ..
استعطفت أمها، وأباها .. بكتْ..تمرّغتْ في حضن أمها، قبل أن ينهض الأب ويغلي لها كأسا ًمن الزوفا، دون سكر..
تحوّل نحيبه إلى عويل، عندما صاحت الطفلة ، مستنكرة ً، أن ذلك ليس خبزا ً( مَمّا)، ولا ماء ً( مبوّة) ..
في اليوم التالي ، كان عائدا ً ، كالعادة ، مطويّ الجسد، والروح ، شمّ رائحة خبز .. التفت إلى جهة الرائحة، وألقى التحية على امرأة ، وابنتها، كانتا على التنور ..
ردتا التحية ، رحّبت المرأة به ، وسألته عن صحته، وعائلته.. بادلها السؤال عن زوجها ، وأطفالهما..
استسلم لرغبة ظهره المكسور، الذي دعاه للجلوس، وأخذ قسط ٍمن الراحة ..
سألته المرأة عن ( أم فاضل ) والأولاد ، وعن عمله..فشرح لها بانفعال ، المعاملة القاسية التي يتعرض لها ، وحرمانه من الطعام ..
لم تستغرب المرأة..لأنها تعرف ذلك البخيل القاسي ..
– ( اللي ما فيه خير لأهله..مافيه خير لأحد ..) .. ناولته المرأة سطرا ًمن الخبز، وبعض التين(المهبّل) ، وعدد من بيض الدجاج ، وأقراص الشنكليش..
راح الرجل يبكي ، ويدعو للمرأة ، وابنتها..
أسعده كثيرا ً أن الدنيا لايزال فيها خير، ولايزال البعض يشعر بمعاناة الفقراء.. وعاهد نفسه أمام زوجته، وأطفاله.. أنه لن ينسى لتلك المرأة،معروفها مادام حيّا ً..
كان( صالح) الإبن الأوسط لتلك العائلة الكادحة .. وكان شاهدا ًعلى تلك الأحداث المؤلمة، يسمعها،فيتألم أشد الألم ، وينزوي ، صامتا ً،ويبكى دون أن يشعر به أحد ..
فرش أبوه الصرّة أمام العائلة، فأقبلواعليهامثل (عديم ..ووقع بسلة تين) .. كالدجاج الجائع عندما ينثر الحَبّ .. كان صالح أول من حمد الله ، وتراجع عن الطعام .. وحسن ،آخر من بقي يأكل ..
ظل عمه وخالته يطعمانه ،حتى صار كرشه مدلوقا ًإلى الأمام .. مما أسعدهما، وأثار ضحكهما..ابتسم (صالح) سعيدا ً، لسعادتهم .. راح الصغير يركض في السيباط ويزقزق أمام إعجاب العم وزوجته الحنونين ،بكت (أم فاضل)لأن أختها ماتت قبل أن ترى طفلها الوحيد يكبر.. لكن زوجها هدأ خاطرها بأن هذه حال الدنيا، وأن عليهما أن ينتظرا عودة أبيه من الأرجنتين ، وكان قد هاجرإليها واستقرّ في (التوكومان).. بعد أن عرف أن زوجته حامل ، واعدا ًإياها أنه لن يطيل الغياب..وأنه سيرجع فورا ًحالما يستطيع تأمين ثمن ماكينة خياطة ، وعدها بها عندما قبلت الزواج منه ، رغم إغراءات أغنى شباب القرية.. لكنهم لم يَعُد ، بعدما أخبروه بوفاة زوجته ، وأن طفله يعيش في بيت أخيه الأكبر..
كان ( صالح ) يغار من ابن عمه، دون أن يجرؤ على البوح بذلك.. ويتألم للاهتمام المتزايد به، دون أن يستطيع هو أن يلفت نظر أحد على ميزاته .. ضربه أبوه عندما شد حسن من شعره لأن حسن خلصه (كدّوشة) الزيت التي كانت أمه قدقسمتها بينهما.. لكن حسن كان أسرع من ( صالح) بالتهامها.. فسارع إلى تخليص حصة ابن عمه، الذي كان مشغولا ًبمتابعة حركات حسن ، محاولا ًتقليده..
بكى ( صالح) والتجأ إلى أمه، فضربته هي الأخرى بشكل مؤلم،وأنبته على ضربه لذلك الصغير الجميل .. غير عابئة ببكائه.. بل بالعكس.. فقد أبعدته ، واحتضنت ابن أختها، الذي انكسر خاطره ..
طوى ( صالح) ابن الثلاثة أعوام، حزنه ، وخيبته، وانزوى صامتا ً.. يراقب دون أن يجرؤ على الاعتراض .. صار مقتنعا ًأنه أدنى من الجميع ،وينظر إلى تصرفات الأقوياء ، بإعجاب ، ويحاول تقليدهم ، ليُثبت ذاته.. لكنه لم يحظَ بغير الشفقة ..
صار الأهل يدعونه بالعاقل..أو المسكين..لأنه لايبدي أي ارتكاس يذكر لما يجري حوله..بل بالعكس ..صار ينكر ذاته- إن صح التعبير- ويعطي حقوقه للآخرين لينال رضى وإعجاب أهله المجتمع ..
في المدرسة كان أذكى من حسن ..ويأخذ علا مات مثله ، أو أكثر ..لكن ( حسن )كان ينال من المكافأة ، وكلمات الإعجاب ، أضعاف ما كان يناله (صالح) حتى قلّ عنده الحافز.. وصار يدرس ليبقى محافظا ًعلى تلك المكرمة التي كانت تأتي من أهله ، أو المجتمع ( يا عيني .. حسن أخد جيّد جدا ً.. والله وكمان ها لمسكين صالح .. )
تضخمت الأنا عند حسن ، إلى درجة كبيرة.. فصار جريئا ً.. مغامرا ً.. يخطط وينفذ ، بثقة بالغة بنفسه.. إن فشل ، يحوّل الفشل إلى صالحه،أو يحمّل السبب إلى شيء ما ، أو إنسان ما .. المهم أن يدفع تهمة الفشل عن نفسه ، ولا يهم ّ بعد ذلك على من يلقيها..
أما إن نجح .. – وكثيرا ًما كان ينجح – .. فقد كان يزداد تضخما ً، وإعجابا ً بنفسه، وثقته بها ..ويزداد الناس إعجاب به، إلى درجة أنه صارمثلا ًفي النجاح، والتفتّح .. ورمزا ً على الأهل ، والمجتمع أن يقلده ..
* * *
تفاءل/ الشيخ حامد/ كثيرا ًعندما فرجها الله عليه ونال ابنه ، وابن أخيه الغائب ، الشهادة الثانوية بتفوق ..
وصمم أن يحقق أحلامه من خلالهما .. فيشجعهما على الدخول إلى الجامعات ..
فرح الشابان بتلك الفكرة التي كان حسن يخطط لها بالأصل .. بينما لم تكن تخطر على بال صالح ..الذي لم يتولد لديه الحافز ..
تقدّم صالح إلى وظيفة في الدولة تؤمن له راتبا ً..فيكون أول موظف في العائلة .. فاشتغل على أساس الشهادة الثانوية .. وكان ناحجا ً في عمله .. استطاع أن يرفد أهله ببعض النقود التي تساعدهم على العيش .. وساهم بذلك في تعليم حسن .. الذي تخرج في الجامعة .. وسافر إلى عدة دول أوربية .. وإلى لبنان أيضا ً .. حيث كان قد تعرف على ( ميليا ) في باريس .. فتزوجها .. بعد أن كان قد أقام عدة علاقات جنسية مع نساء الغرب .. لكنه فضل الزواج بأخت زميله .. اللبنانية .. التي كانت عذراء .. وقد عرف ذلك من خلال الأحاديث الجريئة معها عندما يكونان وحدهما ..
أعطى صالح جُلّ وقته وجهده للنجاح في عمله .. فنال ثقة الجميع .. واستحق لقب ( أبو العز ) الذي أطلقه عليه مديره الذي كان متأكدا ً أن عِفته ، آتية من نفسه العزيزة ..
_______________


– عذراء .. كالبنفسج .. قمحية البشرة .. صافية كالشمس.. نقية كالصباح ..
إنها هي .. سأطلبها من خالها .. بل .. بل سأطلب من حسن..لا..لا..سأقول .. سأقول لصديقي .. قريبهم .. أن يطلبها لي .. فأنا أخجل .. ربما.. ربما لم يوافقوا ….
ومن هم حتى لايوافقوا..؟!
من أنتِ أيتها المشاكسة..؟!
ومن الذي علمكِ الاعتراض..؟!
وعلى مَن تعترضين..؟!عليّ أنا..؟!
أنا..أيتها القزمة الصغيرة..؟!
* * *
سألبس الطقم الجديد..
ياه..!! ثنيته تذبح العصفور..
ما أكثر استقامة قامتي وأنا ألبسه..!!ومعه الكرافتة الحمراء.. والبلوزة الرمادية..!!
ألله..!! كم ستكون سعيدة ً.. بل كم سيكون أهلها سعداء ..!!
ستسِرّ أمها للجارة : – /أبوالعزّ/ يريد ابنتي..
ولن تصدّق الجارة.. لو لم تكن / سكينة / هي التي تقول..
___________________


– لا أريده يا أمي ..
– ابن الحلال ، لا يأتي كل لحظة ..
– لكنني أريد أن أكمل دراستي ..
– سوف لن يمنعكِ من ذلك .. سيعوضك عن أبيك .. وعن الدراسة والوظيفة وعن كل شيء .. وحين تنجبين ، ستنسين الدنيا كلها ، وتختصريها لتصبح كل متع الحياة في عيني أبنائك وزوجك .. وداخل بيتك ..
ستحبينه كما أحببتُ أباكِ ..
لا .. لا .. لايمكن لامرأة أن تحب زوجها كما أحببتكَ يا ماجد ..
دغدغت أحاسيس الشابة فكرة أن تكون بحماية رجل .. يعوضها عن فقدان الأب ..
أو يكون بديلا ًعن ذلك الحبيب المغرور الذي كان يتجاهل إيماءاتها .. وكانت أقصى أحلامها ، أن تنال منه كلمة : ” أحبكِ ” لتنسى بعدها الدنيا ومافيها ..وتحلق في عالم من الأحلام الملونة ..
جاء وقت الجدّ يا حبيبة .. فقد يصبح صالح حبيبا ً .. و .. وزوجا ً ..
زو .. زوجا ً .. ؟!!!
يا للرّوعة ..!!!
سيداعبك ِ.. سيدللك ِ .. ستتلوين غنجا ً في حضنه .. و ..
سيفعل معك ِ ذلك ( الحرام ) الذي لايحلّ إلا بالزواج ..
ومع الوقت صارت تحلم أنه يقبلها .. وبعد أن قبلها القبلة الأولى صارت تحلم به يفتح باب الغرفة التي تنام فيها على السرير ، في العتمة .. ودون علم أحد .. يضاجعها .. يبرّد قليلا ً من ذلك الشعور الحارّ الذي بدأ يرافق تحولات جسدها منذ ثلاثة أعوام .. كانت خلالها تشعر بمتعة غامرة حين ترى زميلها في المدرسة يخلع ثياب الفتوة ذات اللون الخاكي ، ويرتدي قميصا ً نصف كم أبيض .. وسروالا ً رياضي قصيرا ً أزرق .. كان يؤرقها الاستمتاع بذكرى مالمحته على جسده من زغب بدأ بالنمو كعشب في بداية الربيع .. وتحلم أن تلامسه .. ويتردّد في أذنيها صوته الذي بدأ يتأرجح بين صوت الرجال ، وصوت الطفولة .. تكتم هذه العواطف التي تزلزلها .. وتشعر بالذنب من مجرد التفكير بها .. كانت تعشق مروان .. وتتمنى أن يبادلها نفس الشعور .. لكنها – رغم ماتبديه من حيوية ظاهرة – غير قادرة على النظر إلى وجهه مباشرة ً .. وبعد سنوات ، راحت تسأل نفسها ماذا كان يعجبها في ذلك الشاب الصغير ..؟! دون أن تدرك شيئا ً .. فلم يكن ذو الشعر الأشعث المائل إلى الحمرة ، والوجه المنمش .. يحرك فيها ساكنا ً بعد تلك المرحلة .. مروان ابن المدينة الشمالية ، الذي التقت معه لأول مرة في نفس الصف ..

– أخيرا ًياماجد ..أخيرا ًسترضى عني روحُكَ الطاهرة.. كثيرا ً ماكنا نختلف ياماجد.. كثيرا ً ماكنتُ أؤنبكَ لأنكَ تفكر بطريقة مختلفة ..
هل كنتَ تدركَ أنكَ سترحل باكرا ً .. لذلك كنتَ حنونا ً إلى هذه الدرجة ..؟!
كانت مريم تغار من معاملتك اللطيفة لسكينة .. وتندب حظها لأنني لاأجاريك في هذه ..
تقارن نفسها بها ..
آه ٍ على شبابكَ ياماجد .. لكن من الآن فصاعدا ً .. ستسامحني روحك يا ابن خالي.. أكيد ستسامحني .. فأنتَ لم تعرف الحقد يوما ًعلى أحد .. فكيف على ابن عمتك ، الذي بكاكَ في الخفاء أكثر مما بكتكَ أمك .. مدّعيا ً أنه رجل .. وأن الرجال لا يبكون ..
الحياة قاسية ياماجد .. و / الفقر بيقاتل / فكيف بالتعبِ المتواصل إذا أضيف إلى الفقر ..؟! كيف بالمسؤوليات الكثيرة التي تحمّلهاابن عمتك العاثر..؟! مسؤوليات ٍ تنوء بحملها الجبال .. فكيف يحملها – وبكلّ أمانة – /عادل / الذي لم يكن قد تجاوز التاسعة عشرة ..؟!
كيف ياماجد ..؟!
لكن ..
فلتطمئنّ روحُكَ في عليائها الآن يا أخي .. فقد شجّعتُ ابنتنا / حبيبة / على الزواج بأبي العز .. دون أن أضغط عليها .. لكن .. والكلام في سرّكَ .. لم تكن سعيدة بهذا الزوج أكثر مني ..
أه .. ليتكَ الآن حاضر ..؟!
ليتَ حبيبة قبّلتْ يدكَ أنتَ .. في حفلة الخطبة .. وليس يدي ..
لكنه القدَر / كلنا على هذه الطريق / .. ألله يرحمك يا ماجد .. على عدد مانزل عليك من حبات تراب ..
وبعد أن يبتعد عادل قليلا ً عن القبر .. يعود إليه مسرعا ً .. في ذلك الليل الحالك .. الذي ينذر بعاصفة :

– ماجد .. لقد قسوتُ على حبيبة .. كما قسوتُ على بناتي وأبنائي .. لقد ربيتهم كما كنتُ أراه أفضل .. لم أقصد إهانتهم يا أخي .. وكيف أفعل .. وهم أملي ، وامتدادي..؟!
أردتُ أن لايعتادوا على التنعّم والكسل والتواكُل .. عملا ً بقول الرسول – عليه الصلاة والسلام – :
/ اخشوشِنوا .. فإنّ النعَمَ لاتدوم ../
لكن .. هل تراني أستطيع أن أكون إلها ً يا أخي ..؟!
يكفيني أنني عملتُ بما أعرف .. وما أقدر عليه..
وما لاأعرفه .. أو مالاأقدر عليه ، ليس مطلوبا ً مني ..:
/ لا يكلف الله نفسا ًإلا وُسْعَها ../ صدق الله العظيم ..
لكن .. اطمئنّ يا ماجد .. فمن الآن فصاعدا ً ستكون ابنتنا حبيبة .. في الحِفظ ِ، والصون .. ستتخلّص من هموم بيت أهلها .. ومشاغلهم المتواصلة .. وقسوة طباعهم .. وقسوة حياتهم ..
ستكون كما تريد لها أن تكون .. بل كما تريد هي أن تكون ..
في نعيم زوجها صالح .. تعيش في ظله .. وفي عِزّه …………
ويعود عادل .. قبل انبلاج الفجر.. ليستلقي على سريره الحديدي .. في غرفته الشرقية .. دون أن يراه الراقدون .. قبل أن ينهضَ مع الجميع .. وينتشرون في الحقول .. وعلى سفوح الجبال ..
___________________


ظلتْ كل فترة الخطوبة تدرب نفسها على أن تدعوه ( صالح ) بدل ( أبي العز ) قال لها في أول مشوار يخرجانه معا ً بعد الخطوبة التي أصر على الإسراع بها :
– كنتُ متأكدا ً أنكِ ستوافقين.. ولم أرسل لأسألك رأيكِ إلا حرصا ً على التقاليد..
صُدِمت الشابة التي لم تبلغ السادسة عشرة بعد .. فقد كانت تتهيأ لكلمات الغزل التي قرأت عنها في الأشعار المدرسية .. وسمعتها من أغنيات المطربين والمطربات من المذياع .. لكن ذلك لم يحصل طوال فترة علاقتها بأبي العز .. التي تجاوزت ربع القرن ..
– أتعرفين لماذا خطبتك ِ ..؟!
– …………..
– كنتُ جالسا ً على الشرفة أفكر أنه حان وقت اتخاذ قراري بالزواج .. لكن : من التي سأختارها ..؟! أعرف أن عدة بنات تعشقنني .. لكن قلبي لم يمل لأي منهن ..
واحدة فقط – قد تعرفينها – كانت هائمة بي .. وكنتُ أستلطفها قليلاً .. لكنني عدلتُ عن ذلك .. لأن عائلتها مشكوكٌ فيها من الناحية الأخلاقية ..
فكرتُ .. وفكرت .. ولم أدر ِ كيف خطرعلى بالي : لماذا لا أتزوج إحدى بنات عائلة بيت الشيخ مجيد ..؟! وبما أنكِ أكبرهنّ .. فقد قررتُ أن تكوني خطيبتي ..وفي الحقيقة ، لم أكن أنوي الزواج ، لولا إلحاح أهلي .. فقد كنتُ مكتفيا ً بذاتي .. ولا أشعر بالحاجة إلى شريكة .. لكن هذا ماحصل ..
________________________


لكنها استبشرت بعد الزواج ، عندما رأت أفرادعائلتها الجديدة، يمتدحون بعضهم بعضا ً.. ولا يتحدثون عن أفراد أسرتهم إلا بالخير .. ويبررون كل مايقوم به هؤلاء من أعمال .. وشيء من حرية التعبير.. و قلة المسؤوليات التي كانوا يقومون بها..
عمها/ الشيخ حامد / .. و/ زوجة عمها / زهرة / .. كانا أكثر الناس سعادة ً بهذا الزواج ..
وقد حاولا كل مابوسعهما إكرام – كنتهم الصغيرة – ..
وكانت هي تعاملهم بأصلها.. كما كانت / أم فاضل / تردّد .. كلما سألها أحدٌ عن معاملة ابنة المرحوم ماجد..
– والله إنني لا أبدل ظفرها بتلك المغرورة .. ميليا ..
– قال مدنيّة .. قال ..!!
ظل ابننا / حسن / / بو ريمون / يلحّ عليّ أن أذهب إلى العاصمة لأسكن عندهم ..
/ – ألستُ ابنكِ مثل صالح ..؟!/
ف / حْملتْ حْمايلي / وسافرتُ ..
وتخفِض / أم فاضل / صوتها .. حيطة ً .. وتتابع :
– / ألله .. ريتها ماتنعاد / لم أصدّق كيف احتملتُ البقاء شهرا ً كاملا ً .. كانت تبدي قرفاً مني أنا العجوز ..
أنظف من كل عائلتها أنا ..
كانت تحاول أن تلبسني لباس أهل المدن .. كي أقابل به ضيوف ابننا / بو ريمون / كي لاأحرجها .. وكانت تحرص على أن تتبرأ مني .. بادعائها الحرص على الحقيقة :
– هذه العجوزليست حماتي.. بل هي امرأة عمّ / أبو ريمون / .. خالته .. وليست أمه .. أمه – رحمها الله – توفيت من زمان .. وأبوه في أمريكا ..
قلتُ لحبيبة مرة ً عندما سألتني :
– كم من البرغل سنسلق هذا العام يا امرأة عمي ..؟!
– لا أعرف .. / اصطفلوا / البيت بيتكم ياكنة ..
ردّت ابنة الأصل :
– البيت بيتكِ .. من قبل أن أولَد .. ياامرأة عمي ..
كانت تغضب مني إذا لم أجلس مع ضيوفها :
– الضيف الذي يُعيّرني بكِ .. لا أريده في منزلي .. يا امرأة عمي ..
ألله يرحم ترابك يا شيخ مجيد .. ويرحم ترابك ياماجد ..
صحيح / اللي خلّف .. مامات /
بنت طرابلس / ياخيتي/.. ما إلها نفس تحكي يمّا تساير فلاحة متلي ..!!/
كانت تدخل بيتها بوجه عابس .. وأحيانا ً تتناقش هي وابننا حسن .. ألله يحسن أيامه .. لم يكن يجرؤ على أن يردّ لها طلبا ً .. يبدو أنها كانت تعبّر له عن امتعاضها من وجودي .. أو كي لاأظلمها ربما لم تكن تستحسن تصرفاتي .. مع أنني كنتُ أداريها .. وأحاول أن أساعدها في أعمال البيت .. لكنني لم أعمل لها شيئا ً إلا وانتقدته .. لم تقل لي يوما ً :
– ألله يسلم يديكِ ..
كانت تعبس .. وتقول باستنكار:
– هكذا تقطّع الفاصولياء ..؟!
– مَن قال لكِ أن تشعلي الغاز بالكبريت ..؟! ألا تعرفين أنه يشتغل على الكهرباء ..؟!
ولم تقبل يوما ً أن تغسل ثيابي مع ثيابهم بالغسالة .. كانت تغسلها وجبة لوحدها ..
وعندما تنشرها على الحبل .. تنشرها بقرف .. وتخفيها عن المارة .. ولا تكلف نفسها نفض القطعة كي تزيل التجاعيد الناتجة عن عصر الغسالة ..
أما حبيبة.. فقد كانت تعتني بثيابي كأنها ثيابها .. ولا تتقزز مهما كانت الثياب ملوثة من العمل بالأرض..
الست / أم ريمون/ كانت تدعو جاراتها وتخرج معهنّ إلى الشرفة .. يتناولن الشاي .. أو القهوة .. ويحسبن بالفناجين .. وأنا في الداخل ..
وكي لاأظلمها .. كانت أحيانا ً تسألني إن كنتُ أريد كأسا ًمن الشاي .. لكنني كثيرا ً ماكنتُ أرفض .. وأعجز عن ردّ الدمعة .. فأدخل إلى الغرفة .. وأجلس في سريري .. أو أوهمهم أنني نائمة ..
ألله يسامحك ياحسن .. ربيتكَ مثل أبنائي تماما ً .. بل عاملتكَ أحسن من صالح .. كان أملي بكَ أن تعاملني في آخرتي أفضل مما يعاملني صالح ..
وعندما لم أعد أطيق عدم رغبتهم في وجودي .. أخبرتهم أنني مللت المدينة .. وبيوتها العالية .. واشتقتُ إلى القرية .. / الخصيبة / أفضل من أحسن مدينة ..
ورجعتُ .. فاستقبلتني حبيبة .. كأنني أمها .. بكتْ عندما رأتني أبكي :
– ماذا ياامرأة عمي ..؟!
– لاشيء ياابنتي .. كسرة خبز يابسة من يدك .. ولا الرز بالملوخية من عند الست / أم ريمون / .. التوبة يا ابنتي ..
___________________


لكن أحدا ً من أفراد أسرتها الجديدة ، لم يكن لينسى حسنة قدّمها لمحتاج .. ويظل يتكلم عن فضيلته تلك .. في غياب الشخص أو حضوره .. كأنه هو الإله الذي لولا كرمه ، لمات أولئك الفقراء جوعا ً ..
حتى يشعر المحتاج بالذلّ تجاههم .. ويبقى يشعر بأنه مَدينٌ لهم بالكثير ..
لكنهم .. ما إن ينزعجوا من ذلكَ الذي / أحسنوا إليه / أو قدّموا له خدمة .. حتى يفتحوا كل الدفاتر التي يدّخرونها كقنابل موقوتة .. أو كحجارة .. يلقون بها الواحدة تلو الأخرى على رأس ذلك / المغضوب / الذي وقع تحت رحمتهم ..
كانت تراهم ناقصيّ الإنسانية ..فبدأتْ تشعر بالحنين إلى الجذور ..
بل كانت تعتبرهم عنصريون .. وأنهم لايقبلون أن يكون أحدٌ أفضل منهم ..
إلا أن كبار السن منهم .. كانوا يحترمون / الشيخ صالح العلي / ورجاله.. وعلى رأسهم / الشيخ مجيد / .. ويعتبرونهم رموزا ً عليهم هالة تشبه التقديس ..
وحده حسن / أبو ريمون / في تلك العائلة، مَن كان يتجرأ على نقد هؤلاء الرموز.. وإبراز أخطائهم .. ليس للإصلاح .. إنما ليُبرز للمعجبين بجرأته ، أنه يجرؤ على انتقاد أكبررأس في البلد .. وأنه هو أرفع منهم درجة .. فكثيرا ً ماكان يُسِرّ لأصدقائه المعجَبين بجرأته.. كلاما ً يستهزئ به من هؤلاء ، وأمثالهم ..
كان عادل يصرّح أمام الناس ، أنه يحب / صالح / الرزين .. ولا يحب ابن عمه المغرور / حسن / الذي لاتهمه إلا مصلحته الخاصة .. عكس صالح ، المتفاني ..
لكن الخصمين – عندما يلتقيان – كان يجامل كل منهما الآخر ..
بينما صارحسن يواجه حبيبة .. بمناسبة وبدون مناسبة أنه لايحبهم ..
قالت له مرة ً :
– والله ياحسن .. عمناالشيخ حامد طيب ومتسامح وخلوق .. ولم تكن تقصد الدقة في كلامها .. إنما كانت تقلد عائلتها الجديدة بمديح أقاربهم ..
فما كان من حسن .. إلا أن أجابها بوقاحة :
– لكن خالك عادل متسلط ، ومغرور..
هنا كان المفصل الذي وقفت عنده حبيبة :
– يريد المغرور أن يهين أهلي ..؟!
لن أسمح لكَ بذلك ياسيد حسن ..
– وبماذا أنتَ أو أهلك أحسن من خالي أو عائلتي ..؟!
– بكل شيء .. عائلتنا ذكية .. ومتعلمة .. أما أنتم ، فقد عجزأحدكم عن الحصول على أية شهادة عالية ..
وعندما أخبرت زوجها الذي كان على علاقة جيدة مع بيت أهلها ..
عبس في وجهها .. وبرّر لحسن .. وطلب منها ألا تعود وتقف عند هذه التفاهات التي تنكد بها عيشه ..
_________________


كان صالح خامة قابلة للامتلاء ، ولم تستطع زوجته أن تملأ تلك الخامة .. أو أن تؤدي له أية خدمة تذكر .. فلم تكن موظفة .. ولا ذات شهادة عالية .. ولا رزينة .. كما أنه لم يستطع تطويعها لتكون عجينة ً في يده .. ولا أن تتقبل ماكان يجود به حسن ، وزوجته عليهما من ( حضارة ) ..
– سنشتري برّاد بيت ( أبو ريمون ) .. يقول حسن أنه لايزال جديدا ً .. لكن ( أم ريمون ) ترغب بتبديله بماركة أفضل .. سيعطينا إياه بربع قيمته ..
– لا أقبل أن أعيش على الفتات يا صالح .. هل طلبتُ منكَ – يوما ً – شيئا ً يفوق طاقتك َ ..؟!
– أبدا ً ..
– أستطيع أن أعيش معكَ على الحصير .. وبأدنى مقوّمات العيش .. لكن .. بكرامة ..
– سنذهب إلى دمشق .. بيت ( أبو ريمون ) يدعوننا .. سيستضيفوننا عندهم عدة أيام.. ( أم ريمون ) تستضيف أهلها .. و( حسن ) نحن أهله .. سيكون فخورا ً بنا ..
– لن أذهب .. لن تنطلي عليّ هذه الحيلة .. إنها تريد أن تزوجكَ أختها العانس ( دلال ) .. وأنتَ ترغب بذلك .. فهي معلمة مدرسة ..
– أنتِ حمقاء .. حمقاء .. هل تتهمينني بالعُهر أيتها المجنونة ..؟!
– أعوذ بالله من الظن يا صالح .. لكنكَ تهجرني .. وتهينني أمامهم .. وتتودد لهم كثيرا ً .. وهم لايحترمونني ..
– أنت تكذبين .. ( أم ريمون ) دائما ً توصيني بكِ .. وتحتجّ على قسوتي معكِ .. هي تشفق عليكِ ..
– لا أتقبّل شفقتها .. ولا أن تحضّرني .. فأنا أملك من الحضارة ما يختلف جذريا ً عن حضارتها ..
أقول لكَ للمرة الألف : أنا لاأنسجم معهم .. هذه النماذج من الناس ، لا أستطيع العيش معها ..
فيسافرأبو العز من دون زوجته .. يختلق لهم الأعذار :
– إنها مريضة .. هي هكذا .. تبقى مريضة ..
– ألله يساعدك يا أبو العز .. كيف تستطيع الصبر عليها كل هذا الوقت ..؟!
______________


كثيرا ً ماقال لها زوجها :
– ماهذا الوجه المغبر.. ؟!!
لاتعرفين .. ولا تقبلين مَن يعلمك ِ ..؟!
انظري إلى ( أم ريمون ) .. أقسم أن حسن لايعرف لون وجهها ..
– لن أقبل أن أظهر إلا بلون وجهي الحقيقيّ ..
____________________


– – كيف استطاعوا إقناعنا أننا مخلوقاتٌ ناقصة ..؟!
وأن علينا أن نعمل عمليات تجميل كي نصبح، مقبولين ( عولميّا ً) ..؟!
أو أن نضع الأصباغ ، والماكياجات .. لنكون أسواقا ً نستهلك – بكثير من حمى تعويض النقص .. عطورهم ، وأصباغهم الكيماوية ، السامّة.. ومن ثم ّ، أدويتهم .. لمعالجة أمراضنا الناجمة عن استعمال تلك السلع
(الضرورية) ..؟!
يالنا من بشر ٍ، هشة ٌمبادؤنا..!!
________


حياتهما تسير من رتابة إلى رتابة .. زوجته تحاول كسر هذه الرتابة بافتعالها المرض والضعف .. وكان يسارع إلى علاجها بكل مايملك من قدرة مادية ومعنوية .. لكنه ندم أشد الندم على زواجه منها .. بعد أن اكتشف عجزها عن أن تكون زوجة صالحة لصالح الحمدان .. أبي العز .. لكنه كان يحرص أشد الحرص على أن يخلق مبررا ً كافيا ً ليتخلص من هذه النقمة .. لكن كيف ..؟! وهي اليتيمة .. التي عاهد الله ، وهو يضع كفه في كف خالها عادل أمام القاضي .. وأقسم كل منهما على استلام وتسليم الأمانة .. كيف يجد لنفسه مخرجا ً من هذه الورطة دون أن تتأذى مكانته في أنفس الآخرين ..؟! وزاد الطين بلة .. أنه سمع منها وأخذها إلى الطبيب النسائي في العاصمة .. أصرت – بعنادها – على أن تخضع لكل الفحوص والتحاليل المخبرية .. والصور الشعاعية لتكشف العيب الذي يمنعها من الإنجاب .. لم يكن أي منهما يشك يوما ً أنها هي السبب .. بل كانت حبيبة على ثقة بأنها هي العاقر .. لأنها كانت قد فقدت الثقة بنفسها تماما ً .. أكدت لصالح أنها ستخضع لكل أنواع العلاج لتنجب .. فهو لم يكن يفصح عن حاجته إلى طفل .. لكنها كانت متأكدة أنه يتحرق لذلك .. رفضت أن يجري زوجها تحليلا ً لسائله المنوي ، رغم تأكيد الطبيب على أن الحاجة إلى تحليله أولا ً أكثر أمانة وأقل جهدا ً وعناء من الناحية المادية والمعنوية .. لكنها أصرت على ألا يخضع زوجها إلى هذا الكشف .. فمن أين لأبي العز ، زوجها المكتمل من كل النواحي .. من أين له النقص ..؟! لا .. أنت ِ الناقصة في كل شيء ياحبيبة .. أنت قصيرة القامة ، وهو طويل .. أنت سمراء البشرة .. خشنة الملامح .. وهو حنطي بعينين عسليتين واسعتين .. وكتفين عريضين .. من أين له النقص أيتها الحمقاء ..؟!
لكن الطبيب أكد لها أن مابها من نقص لا يمنع الإنجاب إلا لعدة أشهر .. تتكفل أربع حقن ٍ من الهرمون بإصلاحه .. عندها فقط أصرت عليه أن يجري التحليل .. ولم يكن مستعجلا ً أبدا ً :
– قلتُ لك ِ مرات كثيرة ياحبيبة أنني لم أتزوجك ِ لتنجبي لي .. أنا أريدك ِ كما أنت ِ .. لكن مطيعة .. لكنك عنيدة وكبيرة الرأس .. وهذا الرأس سأكسره يوما ً ..
– لن تستطيع أن تكسره ياصالح ..لن أخضع لغير خالقي .. الذي أستمدّ منه العزة .. فهو العزيز الحكيم ..
” ليس الشديد بالصرعة ..إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب “..
– وتتفقهين أيضا ً ..؟! لا ينقصنا إلا هذا ..
استخدمت كل الحيل حتى استطاعت إقناعه بالكشف على نفسه .. حزنت عليه كثيرا ً عندما تغير وجهه وارتجفت أوصاله .. لأول مرة ترى زوجها الحبيب في حالة تشبه حالة الانهيار التي كانت تداهمها كثيرا ً.. حاولت ألا تنظر في عينيه كي لاتشعره بالحرج وهو لايكاد يصدق الطبيب الذي كان يؤكد له بقسوة :
– الأمر منك أكثر مما هو من زوجتك يارجل .. تدارك نفسك .. مع أن الأمل ضعيف ..
– الحمد لله .. الحمد لله ..
( ليست الرجولة في القدرة على الإنجاب .. إنما الرجولة في التعامل بإنسانية )
قالتها وهي تحاول أن تتأبط ساعد زوجها وهما خارجان من العيادة .. لكنها لاحظت أنه يصرّ على أن يفلت يدها .. رافضا ً أن تكون بجواره تلك اللحظة بالذات ..
– أتشمتين بي ..؟!
قالها بصوت لايشبه صوته الأصلي ..
فاجأتها لهجة العنف الذي وصل ذروته تلك اللحظة .. ليمتد بعدها عقودا ً كانت كفيلة بأن تجنن حبيبة .. وتجعلها تترك المنزل وتهرب إلى الحقول والغابات .. مبتعدة عن كل أنسيّ ..
– لا والله ياحبيبي .. لم أقصد ذلك أبدا ً .. إنما قصدتُ أننا سنبقى من الآن فصاعدا ً معا ً .. ستبقى لي وحدي ياصالح .. لن أغار عليك بعد الآن .. لن أخاف أن تخطفك مني امرأة أخرى ياحبيبي .. لولا هذا النقص البسيط .. البسيط جدا ً ياصالح ، كنتُ سأخاف عليك من الموت .. لأنك مكتمل ياحبيبي .. ويقولون أن الإنسان يموت إذا اكتمل .. لكن هذا النقص البسيط .. البسيط جدا ً كما ترى ، هو وحده ضمانتي أنكَ ستبقى قربي .. ومعي .. ولي وحدي يا صالح ..فكيف أعيش بدونك ياحبيبي ..؟! أنتَ أبي وأمي وإخوتي .. أنت أهلي وأسرتي كلها ياصالح .. لو بقيتَ مكتملا ً كما كنتَ .. كنتُ سأغار من نسمة الهواء إذا لامست جبيبك .. كنتُ سأغار من كل نساء العالم أن تختطفكَ مني ..هل فهمتَ سبب حمدي لله تعالى ياحبيبي ..؟! من الآن فصاعدا ً سوف نبني حياتنا المشتركة على الحب وحده .. الحب .. والحنان .. والعطف .. والحياة الهادئة المستقرة .. هذا ماسوف نعيش به منذ هذه اللحظة .. وهذا مبرر فرحي وسعادتي الغامرة ..
الشماتة ..؟! وهل يمكن لإنسان أن يشمت بإنسان ياحبيبي ..؟! لاياصالح .. الشماتة غريبة عن أخلاقي .. لم أسمع بها حتى هذه اللحظة .. فكيف أشمت بحبيبي ..؟!
لكن صالح كان قد أسقط في يده أكثر بكثير مما كانت تتوقعه زوجته التي كانت قد أتمت الحادية والعشرين عاما ً قبل شهرين .. تضاعف شعوره بالدونية .. كما تضاعفت قسوته على زوجته .. التي تحولت اضطراباتها النفسية إلى زلازل من الانهيارات العصبية المتكررة .. عندما عانت كل أنواع العسف والحرمان والهجر واستثارة غيرتها وإذلالها الدائم إن لم تخضع لكل مطاليب زوجها .. بل إن لم تتقبل بصدر رحب لايكل ولايمل ولايتذمر ، كل تقلبات مزاجه .. صار يحرمها من كل مايمكن أن تبدو من خلاله أقوى منه .. وكانت تتودد إليه وتستعطفه إما بالتمارض .. أو بالمبادرة إلى طلب الجنس منه عند إلحاح الحاجة .. أو عندما يختصما .. لم تكن تجد سبيلا ً إلى التخفيف من العنف الدائم في منزلها إلا بادعائها الحاجة الملحة إلى زوجها .. فتنال النذر اليسير من حقها الزوجي .. في مقابل ازدياد غطرسته حين يشعر أنها تحتاجه .. فيزداد هو تضخما ً حين يراها ضعيفة .. وتزداد هي انهيارا ً وتأزما ً حين ترى أن جهودها كلها وتنازلاتها التي لاتنتهي عن حقوقها الطبيعية ، لا تحقق الحد الأدنى من الحياة الكريمة في ذلك المنزل الذي ماكان يوما ً بيتا ً .. فتسقط .. وتسقط .. ويضيع حقها في الحياة .. صارت تراه أكثر مايكون سعادة ، عندما يراها تحتاج إليه ، وتئن تحت سياطه .. وكان سعيدا ً عندما يحيطه الناس بالتقدير والاحترام لصبره على علاجها .. كما أن خالها عادل كان ينظر إليه بمنتهى الاحترام والتقدير لذلك .. فهو لايعرف معاناة ابنة أخته.. كان ينهرها دائما ً ويظن أنها تستغل اهتمام زوجها بها لتتقاعس عن أداء واجباتها الزوجية .. محتمية بمكانة عائلة أهلها في عيون الناس .. حتى أنها حين أرادت مرة أن تشرح له بعضا ً من معاناتها مع أبي العز .. لم يتقبل .. بل بالعكس .. فقد فاجأها قبل أن تبدأ الكلام بقوله :
– أقسم ياابنة أختي أن الأمر لايتعدى أنك ِ تريدين أن تتعالين على هذا الإنسان المحترم .. لأنه لاينجب .. ولأنك ِ يتيمة.. وابنة أخت عادل الشيخ مجيد .. لاتحاولي إقناعي بغير ذلك ياسيدة حبوب ..
– هل تقول ذلك مقتنعا ً ياخالي ..؟!
بل أقسم بشرفي ومعتقدي أنها الحقيقة ..
وخرجت حبيبة من بيت خالها .. الذي لم تعُد إليه بعدها .. وقررت حل مشاكلها بنفسها .. لكنها عاجزة .. فالتجأت إلى الغابات .. كانت تقضي أغلب النهار في الحقول ..
كانت تهرب من أيّ إنسان تراه .. فكيف لا تهرب من زوجها ..؟!هي التي كانت تخافه أكثر من الموت .. وأكثر من الحرب .. أو أكثر من كلّ المخيفات ..
يحاول أن يعيدها وهو يبكي :
– لاتبهدلينا يا حبّوب ..
فتجيبه وهي تقاوم العودة :
– دعني .. فلا أريد أن أبهدل أحدا ً .. أريد أن أعيش في مملكتي ..
كان يعرف ماتعنيه .. لكنه ينظر إلى ( أخيها صالح ) بأسى .. ويقول :
– تظن نفسها ملكة ..
فتردّ عليه :
– دع المُلكَ لكَ ولأمثالك .. لا أعني ماتقول .. لا تصدّقه يا أخي ..
وبالقوّة يعيدها الاثنان إلى منزلها .. وهي تسبهم جميعا ً .. وتبصق في وجوههم ..
كان ( أبو العز ) يتمنى في أعماقه أن تموت ( حبوب ) .. ليخلو له الجو ، كي يستمتع بزوجته وأم أطفاله ( دلال ) .. التي أنجبت له (حامد ) الذي أصرّت على أن تسميه على اسم جدّه لأبيه .. ليرثه حتى بالاسم .. وكان (حامد ) قد استعجل المجيء إلى أحضان العائلة أكثر من الجميع .. فقد ولدته ( دلال ) بعد زواجها بأبي العز بستة أشهر وعدة أيام .. لكنها كانت تُصِرّ أنها أكملت السبعة ، وزادت عدة أيام ..
وبعد أقل من عام ، ولدت طفلا ً آخر .. تركت لأبي العز أن يسميه .. فاختار له اسم (شاكر) جده لأمه .. لكن ( دلال ) أم حامد ، لم ترضَ .. وخيّرت زوجها بعتبٍ لطيف :
– أليس من الأفضل أن تسميه ( ماجد ) أو ( عادل ) ..؟! أليس من العدل يا أبا العز أن يشعر عمّك الأوّل ، أنكَ لا تزال تحبه وتحترمه .. ؟!ثمّ .. ثمّ .. قد .. قد يساهم ذلك في تهدئة ( رفيقتي ) حبيبة ..
ضحِكَ أبو العز- بإعجاب بالغ – بذكاء وإنسانية زوجته ، ومرونة طبعها .. وكان لها ما أرادت ..
خلال أقلّ من خمس سنوات ، كانت ( دلال ) قد أنجبت لأبي العز ما كان يحلم به من أبناء ..
لم تكد ( دلع ) تبلغ عامها الأول حتى سأل أبو العز زوجته – وهما في الفراش – .. لماذا لم تحبل حتى الآن ..؟! وهل تتناول خفية ً عنه حبوب المانع ..؟!
مما جعل ( أم حامد ) تضحك من كل قلبها وتداعب شاربيه ، قائلة ً :
– كفانا يا حبيبي .. هل تريد لجسد امرأتكَ أن يترهل قبل أوانه ..؟! حرام عليك ..
فأجابها على الفور :
– معكِ حق يا أم حامد .. ( خيرة الذرّية .. صبيين ، وبنيّة ) .. وقام ليستحمّ .. لكنها تعلقت بسراله قائلة ً :
– ليس قبل أن نتبادل القبَل ..
ضحكَ أبو العز .. وشرد ذهنه في لفتة مقارنة بين (دلال ) ذات الطبع المرح .. و ( حبّوب ) التي جبلتْ على النكَد ..
تنهّد بارتياح .. وتابع عمله ..
كان يعتقد أن الحاضر والمستقبل بيده وحده .. وأن كل أمر في أسرته أو عمله ، يجب أن يحمل توقيعه أو موافقته المعلنة والمضمَرة .. وأن على الآخرين أن يقتنعوا بهذه المسألة .. لاأن يوافقوا فقط ..
لكن تشرّد زوجته .. أو جنونها ، كان مبررا ً كافيا ً له أن يتزوج بدلال .. التي أرسل لها عادل الشيخ مجيد هدية ثمينة .. ليعبر لها عن مباركته لهذا الزواج .. وأن مكانة صهرهم أبي العز كبيرة عنده أكثر مما تتصور .. فلا تظنن بعد ذلك أنه يعتبرها إلا أعز من ابنة أخته حبوب .. التي لم تستطع أن تكون زوجة لائقة بأبي العز ..
**************************
كان عادل متحمسا ً في شبابه للنضال من أجل الوطن .. فانتسب إلى ( الاتحاد القومي ) مخالفا ً وصية أبيه بعدم التحزب .. ثم جاء الانفصال .. فانتكست أحلامه الوطنية والقومية .. دون أن يدرك لماذا حدث ذلك الانفصال ..
ثم حلت نكسة حزيران ..
لكن انطلاق العمليات الفدائية على أطراف الأرض المحتلة ، كانت تأتيه من المذياع الصغير الذي يعمل على البطارية ، كبلسم شاف ٍ ، يبشر بقرب التحرير..
أخذ يحث الناس في القرية ، على التبرّع للقضية .. كما تبرعوا سابقا ً للجزائر .. لم يكن أحدٌ يبخل .. لكنه كان أكثر المتحمسين .. وأكثر المتبرعين ..
تبرّعت ( جميلة ) بكل مالديها من ذهب .. هدية زواجها ..
وتبرعت ( فداء ) ب ( الكردان ) الوحيد الذي بقي في رقبتها ..
تبرّع ( أبو محمد ) بثلاث مئة ليرة .. كل ماتبقى له من عمله في لبنان ..
أما ( مريم ) فلم يكن بحوذتها سوى ( التراكة ) والمحبس .. تبرّعت ب ( التراكة ) ولم تستجب لطلب زوجها بالتبرع ب ( المحبس ) ..
بكت سكينة .. لكنه أنبها :
– التبرّع ليس بالمال فقط .. أنت ِ تبرّعت ِ بزوجك ِ .. اتركي المحبسين ، للذكرى ..
لكن عادل ، لم يرغب بالإعلان عن مقدار ماتبرّع به .. مع أن الجيران سمعوا الموظفين الذين يستضيفهم في بيته يشكرونه كثيرا ً ..
انزوى ( صطوف ) الذي لم يكن لديه مايتبرع به .. لاحظ ذلك عادل .. فناوله – خفية ً – بعض النقود .. رماها بدوره في الصندوق ..
لكن ..
ماذا يجري في البلاد ..؟!
وجاءتهم أخبارأيلول الأسود .. وانقسام الفلسطينيين ، الكارثة ..
و يوم موت عبد الناصر ..
والتفاؤل .. المشوب بالحذر، والترقب .. عندما قامت الحركة التصحيحية ..
– لماذا يسجلون أسماء المجاهدين ، والمجاهدات ..؟!
– ستعطيهم الدولة راتبا ًشهريا ً .. أو تعطي أراملهم .. وتؤمّن للعجائز من يرعاهم ..
لماذا لم تسجل اسم أبيك يا أبو صالح ..
– لم يجاهد أبي .. كما لم يجاهد أمثاله طمعا ً بالمال ..
– لكن أمكَ عجوز .. وحالتكم المادية مزرية .. !!
– حتى ولو ..
وراح عادل يردّد قول( الشيخ صالح العلي ):
{ بني الغرب ، لا أبغي من الحرب ثروة ً ولا أترجّى نيل َ جاه ٍ ومنصِب ِ
ولكنني أسعى لعِزة موطن ٍ أبيّ .. إلى كل النفوس مُحَبّب ِ
تريدون – بسم الدين– تفريق أمة ٍ تسامى بنوها فوق دين ٍ ومَذهَبِ
فما شَرْعُ /عيسى/ غيرشرْع ِ/ محمّد ٍ/ وما الوطنُ الغالي ، سوى الأم الأب ِ}

وعندما قامت حرب تشرين التحريرية .. وسمع عادل كلمة رئيس البلاد ، من المذياع الوحيد في غرفته الشرقية :
/- لسنا معتدين .. ولم نكُ – قط – معتدين .. / نحن لا نريد الموت لأحد.. إنما ندفع عن أنفسنا وشعبنا القتل والتدمير ../
شعر بالحياة تبعَث فيه من جديد .. وعاد التفاؤل ليغمر كيانه .. والفرحة تكاد تبعثه من جديد .. كاد يستعيد توازنه .. تمنى لو أن الله حقق حلمه بإنجاب سبعة شباب .. لينذرهم للوطن ..
ردّد في نفسه :
– اليوم يومك ياعادل .. في الثلاثينات من هذا القرن .. في تشرين الأول ولدتكَ أمكَ / فاطمة / فردا ً .. جسدا ً .. وفي تشرين الأول .. في السبعينات .. ستولدُ روحا ً .. ياعادل ..
لكن أحلام عادل انكسرت.. عندما رأى محاولات التطبيع مع العدو الصهيوني .. والاعتراف ب/ إسرائيل / كدولة .. وليس ككيان غاصب .. ومحاولة عمل / سلام / معها .. / سلام الذئب والغنم / سلام الثعلب والدجاج / ..
كان إحساسه بالذل والهوان .. لايمكن أن يوصَف .. تمنى لو أنه مات قبل أن يرى حاكم أكبر، وأهم قطر عربي في هذه الأمة .. يضع يده في يد قاتليّ أهله .. وأبناء وطنه .. قاتلي الأطفال والنساء والشيوخ والشباب ..
صرخ صرخة ً قاتلة من الداخل وإلى الداخل :
/ – هل تعرف على مَن تسلم أيها المنتشي / بالتجديد/..؟!
هل تعرف ما معنى أن يقتلوا الأطفال ..؟؟!!
الأطفال .. هم مستقبل هذا الوطن وأمل هذه الأمة ..
والشيوخ .. هل تعرف مامعنى قتلهم ..؟!
إنه قتل ذاكرة الأمة .. ذاكرة الوطن ..
وقتل الشباب.. هل تعرف مامعناه ..؟!
إنه قتل طاقات هذه الأمة .. قدراتها .. حاضرها ..
وقتل النساء ، هل تعرف مامعناه..؟!
إنه قتل الأرحام .. والأجنة في الأرحام .. و إمكانية ولادة أيّ طفل في هذه الأمة ..
وتضع يدكَ في يدِ قاتليّ كل هؤلاء أيها الظالم ..؟؟!!
هل تدري ماذا فعلتَ بهذه الأمة .. في هذه اللحظة بالذات .. ؟؟!!
أنتَ تباركُ بفعلتكَ هذه .. قتلة َ كل هؤلاء.. بل تساهم معهم في تلكَ الإبادة ..
وتخرج من صدر عادل .. كما تخرج من صدر كل حرّ في هذا الوطن والعالم .. أنّة ٌ .. طويلة ٌ .. طويلة .. تشبه العويل .. عويل أمّ قتلوا كل أطفالها .. وكل ذويها .. وكل ماتملك ..
فيصبح أكثر مايكون حدّة ً مع عائلته .. ومسار سخرية الجاهلين .. وغير المكترثين بما يحدث .. الذين لايعنيهم الحدث إلا كخبر عاديّ تنقله محطات الإذاعة .. يتفق على صوابيته من يتفق .. ويختلف من يختلف .. فلتباد الأمة .. وليباد الوطن .. بمافيه ومن فيه .. لكن .. لاتمَسّ مصالحهم الخاصة ..
والذي قضى أو كاد يقضي على عادل .. هو رؤية القادة الفلسطينيين يصافحون الصهاينة ..
عندها انعقد لسانه .. بقي دون كلام .. ودون طعام .. ودون نوم .. أكثر من أسبوع .. استدعى أقاربه له الطبيب .. أعطاه عدة حقنات من الفيتامينات / ب 1 – و ب 6 /.. وأوصاه أن يتناول العصير .. واللبن الرائب .. وليقلل من الحليب الذي يسبب له نفخة الأمعاء .. وأن يشرق بيضة بلدية – دون سلق – كل يوم .. وليستعين بكأس من الزوفا .. أو البابونج .. كل مساء .. لتساعده على النوم .. لكن ..
من أين لكَ النوم ياعادل ..؟!
من أين يأتيكَ ياابن الكرام ..؟!
أين كرامتكَ ياعادل ..؟!
أنتَ الذي يستمد كرامته من كرامة الوطن ..!!
كيف تستطيع أن تسكت ياعادل ..؟!
ومن يسمح لكَ بالكلام ..؟!
فقد انقسم الوطن .. كما انقسم المجتمع ..
قسمٌ تعب من الحرب .. ويريد السلام .. الذي أطلق عليه أتباعه / سلام الشجعان / ..
وقسمٌ لايقبل أن يتساوى الجلاد مع الضحية .. ولا يؤمن بسلام ٍ بين قطعان الغنم .. وقطعان الذئاب .. ويعتبره استسلام الضحايا لأنياب الذئاب ..
صاح عادل .. صرخ صرخته الأخيرة :
/ – مات الوطن .. سقط الوطن .. ضاعت الحقوق أيها الظالمون ../ ..!!
لم يعد عادل يثق بأحد .. لا بنفسه .. ولا بقادته .. ولا بالوطن ..
لولا أن أيقظته صورة أبيه المجاهد / الشيخ مجيد .. يقف جنبا ً إلى جنب مع الشيخ صالح العليّ / وأوراق قديمة .. عاد لقراءتها من جديد .. في دفاترأبيه العتيقة ..
**********
يقولون : / التاجر المفلس .. يعود إلى دفاتره القديمة ../
هكذا كانت تسخر ميليا من حبيبة .. عندما حفظت هذه المقولة من العاصمة دمشق .. وكانت سعيدة بترديدها بين وقت وآخر .. كمقولة ً جديدة .. لم يعرفها أحدٌ من أبناء المنطقة/ الفلاحين /.. فالتجارة لم تكن تعني إلا عدّة أشخاص منهم .. لم يكونوا موثوقين .. لكنهم يتسلطون على رقاب الشعب .. بقدرتهم المادية .. فيستغلون حاجة الفلاحين إليهم .. ويُغرقونهم بالديون .. فيقعون بين فكيّ ذلّ الطلب .. وذلّ النظرات المتعالية من تلك الطبقة التي لاتملك من العلم إلا ما يساعدها على إتقان العمل التجاري .. والتلاعب بالأسعار .. واحتكار المواد التموينية .. وحجبها عن المواطنين أيام الحاجة .. ليبيعوها لهم بأسعار مضاعَفة .. وبالتقتير .. يوهمونهم أنها قطعٌ نادر هذه الأيام .. فيقبِل عليها المحتاجون .. ويشترون كل ما يستطيعون وما لايستطيعون دفع ثمنه .. خوفا ً من فقر أدهى وأمرّ .. ومن أيام حاجة لايستطيعون فيها تأمين لقمة عيشهم أو حاجاتهم الضرورية ..
فيقنعهم البائع .. أنه يستطيع أن يسلفهم إياها..لأنه يثق بهم .. لكن .. بأسعار مضاعفة .. لاتلبث أن تتضاعف .. وتتضاعف ..
لم تكن ميليا ترى في مقولة / التاجر المفلس .. يعود لدفاتره العتيقة / إلا مقولة ً حفظتها قبل غيرها من أبناء العاصمة .. الذين ترتفع بعلاقتها بهم وانتمائها الجزئي إليهم درجة عن الفلاحين .. أبناء القرى .. الذين تنكرت لهم ..
لكن حبيبة .. ابنة الجبال التي لم تستطع أية قوة غاشمة .. محلية .. أو عالمية .. أن تجعلها تتخلى عن هويتها .. وعن انتمائها لتلك الأرض الطاهرة .. ولهذه الجبال والوديان التي تكسّرت على قممها وسفوحها وبين أوديتها رؤوس وأقدام الغاصبين ..
فكرت حبيبة كثيرا ً في هذه المقولة .. كيف تأخذ منها عِبْرة ..؟!
وكيف تفهم هوية الآخر .. الذي قالها ..؟!
فرأت أنها تعني .. أن الإنسان عندما يفشل في عمل .. عليه التأني .. والرجوع إلى الخلف .. إلى دراسة التاريخ .. بشكل أكثر دقة ً .. وأكثر واقعية .. ليدركَ مواطن الأخطاء .. فيتجنبها والإيجابيات .. فيأخذ بها ..
أفضل بكثير .. من أن يُصِرّ على المتابعة في الإفلاس .. أو الفشل .. دون أن يستضيء بسلبيات .. وإيجابيات الماضي ..

******************************************************************
هل ياترى سنبقى نستيقظ على زقزقات العصافير.. في هذا الوطن..؟!أم سوف يأتي يوم ننام فيه ونستيقظ على أزيز الرصاص.. وأصوات القنابل /الذكية/ وأنين الجرحى.. وحشرجات القتلى.. وصراخ الأطفال ..؟!
نعود إلى زمن مضى عليه قرن من الزمن ..عندما كانت جدتي تنقل أطفالها اليتامى من حرش إلى حرش.. ومن جفنة إلى جفنة ..
هاربة بهم من قريتنا التي أ حرقها العثمانيون .. ومن بعدهم الفرنسيون.. عدة مرات .. ولاحقوا أهلها ..؟!
أو كما يستيقظ أهل فلسطين والعراق .. وغيرهما من العالم..؟!
أم سوف تأتي قنبلة ذرية..أو هيدروجينية أو جرثومية..
تحرق الأخضرواليابس.. وتقتل .. أو تشوّه البشر، والحيوانات ، والطبيعة كلها ..؟! حتى الجراد..الجراد ستقتله أيضا ً..
وتبقى أرضنا محروقة.. يستحيل العيش فيها آلاف السنين..؟!
فيحترق الواقع والأحلام ..؟!
حتى الحيوانات الوديعة وغير الوديعة .. كلها تقتل وتحرق ويُمَثلُ بها ..
وتستخدَمُ جثثها لذوي المصالح الخاصة.. أصحاب الشركات العالمية الكبرى .. ذات التفكير المادي النفعي البحت ..؟!
طيب.. لنفترض أن قوى الشر والاستكبار هذه حصلت على كل شيء مادي في هذه الكرة التي شاخت .. وتقتل فيها الحياة بكل أشكالها .. بشكل فردي وجماعي.. وبمختلف أنواع القتل وأفظعه.. واستلم أصحاب الشركات / المادية/ هذه الثروة المادية الباقية كلها.. من أقصاها إلى أدناها ..
فماذا سيفعلون بها بعد أن أبيد الإنسان .. وقُضِيَ على الحياة في أغلب بقاع هذه التي كان اسمها / معمورة/ ..؟!
هل سيبنون على رمادها عروشهم التي / وعدهم بها إلههم المزعوم/ .. ويعيشون بسلام ..؟!
أم سيأكل بعضهم بعضا ً.. ويفتك بعضهم ببعض بطريقة أشرس من الأولى .. وأفظع تدميرا ً..؟!
فأصحاب التفكير المادي البحت .. أصحاب المصالح الخاصة..لايستطيعون أن يعيشوا بدون أن ينصّبوا عدوّا ًيقتلونه.. وإن لم يجدوا .. سوف يقتلون بعضهم .. وإن أفنى بعضهم بعضا ً.. من أجل قطعة أرض .. أوأي شيء مادي .. سوف يقتلون أنفسهم حين يجدون أنفسهم وحيدين في هذا العالم ..
سينتحرون كما انتحر الطغاة من قبل ..
النهاية :
( – استيقظت مرة ، ولم أجده ..
خمّنت أنه أفاق باكرا ً، وذهب يتنشق هواء الغابة الصباحي و أكسجينها المنعش .. قبل أن يعود إليّ ببعض الفطر، أو الهندباء ، أو العسل، أو أي شيء يؤكل .. لنؤمّن طعام النهار الجديد ..
لملمت الأعشاب اليابسة النديّة ، التي تبعثرت على جانبيّ الفراش العشبيّ الذي كان يضمنا.. تمطيت قليلا ً، قبل أن أفكر كيف سنقضي هذا الصباح ..
غرّدت عصافير الكناري ، وتقافزت فوق الأغصان قبل أن تطير محلقة في السماء الزرقاء وتغيب خلف الأغصان الكثيفة ..
لم يأتِ سعدو ..
سرّحتُ شعري ، وعقدته بملقط في منتصف رأسي من الخلف ..
ذهبت إلى النبع .. علي أجده هناك .. دون جدوى ..
جلست على حافة الساقية التي تترقرق في صلاة دائمة ..
انسجمت مع خرير المياه العذبة التي توحي بالنقاء ..
أطلقت صوتي :
( على الله ..
على الله تعود بهجتنا ولفراح ..
وتغمر دارنا البسمة ولفراح ..
قضينا العمر ..
قضينا العمر .. ولف طل ، وولف راح ..
وضاع العمر هجران وغياب .. )
توقّعتُ أن يأتي سعدو عند سماع صوتي .. على مهل .. ويغمض لي عينيّ من الخلف .. فأبتسم .. ونتعانق ..
لكنه لم يأتِ ..
قلقتُ بعض الشيء ..
رحتُ أسلي نفسي بمراقبة ضفدعين كانا ينقان طوال الليل ..
هاهما الآن ينسجمان في عقدهما الزوجيّ الفطريّ دون أن يستأذنا / المأذون / ويجاهرا بذلك غير عابئين ببقية المخلوقات .. حرّكتُ قدميّ الغارقتين حتى منتصف ساقيّ، في تلك البحيرة الصغيرة .. مما أجفلهما .. فانفرط ذلك العقد .. وهرب كل منهما باتجاه ..
تقطع قلبي ..
– لماذا وحدنا نحن البشر مَنْ نقلق الأحياء الآمنة ..؟!
وبأيّ حق ٍ اعتديتُ – أنا الحمقاء- على حقكما .. أيها العاشقين الجميلين..؟!
هل أثرتما في نفسي غيرة ًما .. دون أن أدري ..؟!
وازداد قلقي ، عندما رأيت الشمس تكاد تتوسط السماء، دون أن يعود..
توغلت داخل الغابة بدون حذر.. ورحت أناديه صارخة بأعلى صوتي :
– سعدو.. و.. و.. و ..
ولا من مجيب ..
هربت السناجب خائفة مني ..وتقافزت الأرانب من أمامي ، بشكل أرعبني .. دون أن أتوقّف ..
توقّفتْ زقزقات السمّان ، وصراصير الصيف التي كانت تنط من أمامي كلما اقتربت من أماكن تواجدها ..
سكنت الغابة .. ولم يبق إلا صوتي يعربش ، ويقلق سكونها الموحش .. كوحشة قلبي ..
عدتُ ، بين الأدغال راكضة..عله يكون قد سبقني إلى مكان مرقدنا ..
لكنني كدت أدوس فوق حيّة رقطاء كانت تتشمّس فوقه .. فصرختُ عندما نفختْ في وجهي ، قبل أن تنسل زاحفة إلى وكرها ..
راحت الظنون تنوشني ، قبل أن أستلقي على تلك الكومة التي مهّدناها سويّة ًمنذ أيام .. ونمنا عليها ملتحفين السماء ..
دون أن يمسّنا سوء من عدو ، أو صديق .. حيوان ، أو إنسان ..
غنيتُ بصوت ٍ مسموع :

/ بتندم ..
وحياة عيوني بتندم ../
لا أدري إن كنت قد غفوتُ .. عندما رأيتُ ما يشبه الحلم ..
رأيتُ سعدو يركب حصانا ً أبيض .. يمسك بلجامه ويلكزه ، مطلقا ً صوتا ًيحسّه على الإسراع .. دون أن يلتفت خلفه ..
كان الحصان يجمح ، مباعدا ًما بين قائمتيه الأماميتين ، والخلفيتين .. كأنه يكاد يخترق السماء ..
قفزتُ ، صارخة ً، عندما غاب عن ناظريّ خلف الهضاب ..
صرختُ به :
– سعدو.. و.. و.. و..
وردّد الكون الصدى .. سع .. ع .. ع .. دو.. و.. و.. و ..
كنتُ أخبّئ لكَ مفاجأة ً ستسعدكَ ياسعدو ..
قلتَ لي مرة ً :
– أنا مثلكِ .. عقيم ٌيا حبيبة ..
كنتَ ستطير من الفرح ، عندما يؤكد لك هذا البطن المتكوّر أنكَ لستَ عقيما ً..
أنتَ خصيبٌ ياسعدو ..
خصيبٌ ياحبيبي ..
كلانا خصيبٌ ياسعدو ..
سعدو.. و .. و.. و .. و …
مات سعدو ..
مات سعدو يا أمي .. فأين أنتِ ..؟!
أمي.. ي .. ي .. لماذا أنجبتِني ..؟!
هل كانت حياتك جميلة وسعيدة إلى درجة أنك خلفتِني وراءك لأرث ذلك الجمال ، وتلك السعادة ..؟!
لماذا أورثتِني الشقاء يا أمي ..؟!
لماذا لم تتجرئي وتجهضي نفسك قبل أن أولد..؟!
لماذا ..؟! لماذا..؟!
هربتِ من مسؤولياتك ، إلى ذلك القبر.. وامتزجتِ بذلك التراب .. لا لأنك تعشقين التراب الذي ضمّ أبي .. كما كنتِ تدّعين ..
إنما – فقط – هربتِ كي لا تسمعينني وأنا أصرخ في وجهكِ ، سائلة ً:
– لماذا ..؟!
لم أر سعدو ، منذ ذلك الحين ..
لم أصدّق إلا أنه مات ..
لكن ، كيف ..؟! لا أدري ..
لم أصدّق أنه يتركني ( عالموت) ..
كما تعاهدنا ..
رغم كل ما سمعتُ من الناس ..
حيث أخبرني أحدهم أنه رآه يهرب مع امرأة أخرى .. أجمل مني .. وأكثر شبابا ً.. وحيويّة ً..
أو أنه غادر البلاد إلى جهة ٍغير معروفة ..
لكن إحداهنّ أكدتْ لي أنه كان مطلوبا ً..
وأن رجالا ًاختطفوه إلى جهة ٍ غير معروفة..
وأقسمتْ أنها رأت ذلك بأم عينها ، وهي ذاهبة ٌلزيارة ذلك المزار الذي تحيط به تلك الغابة العملاقة.. بعد طلوع الفجر بقليل ..
لكنني لم ، ولن أصدّق أحدا ً.. يا سعدو ..
لا يا حبيبي ..
فأنتَ وعدتني أنكَ سوف لن تتركني ( عالموت ) ..
والرجل عند كلمته ..
أليس كذلك يا حبيبي ..؟!
أيها الحب الأول ، والأخير..
لن أصدّق إلا أنك تبخّرتَ.. كقطعة ثلج ٍ، في شمس كانون ..
أوأن الموت اختطفكَ ..
وأقسم ُ..
أنني لن أعشق غيرك
( عالموت ).. يا حبيبي ..
ستجفّ روحي بعدكَ ياسعدو ..
ستعود إلى التصحّر ..
سأموتُ .. إن علمتُ أنكَ من نسج الخيال .. )
* * *

( – بطني يكبر بسرعة ٍ ياسعدو ..
فمتى سترجع ياحبيبي ..؟!
متى ستعود .. وتعتذر عن فِعلتك تلك ..؟!
بعد أن يترجم جسدي ما تشعر به روحي ..؟!
بعد أن يصبح جسدي – مثل روحي – المدفونة في طياته اللينة ..؟!
لن أقْبَلكَ – عندها – ياسعدو ..
جثة هامدة .. لا تتأثر بما يجري حولها .. يا سعدو ..
جثة هامدة .. وروح عائمة .. متهالكة .. مُرهقة .. مكسورة .. منهزمة ..
ماذا ستفعل إن أتاها من يحاول إيقاظها ..؟!
ولماذا تستيقظ ..؟!
وماذا تعنيها اليقظة بعد ذلك يا سعدو ..؟!
ماذا ستفعل إن استيقظتْ ..؟!
ماذا ستجني من يقظتها تلك ، يا سعدو ..؟!
بقيّة ُ ألم ، وأنين ..؟!
لا …. فلأبقَ هكذا .. شهيدة ً .. لا حية ً .. ولا ميتة ..
لكنها شاهدة على الظلم .. على القتامة ..
كما هي شاهدة على منابع الضوء ..
منابع النور التي انبثقت من هذا الشرق العريق ..
ولا بدّ أن تحضن الكون ، في يوم ما ..
في تاريخ ما ..
سيرسم عالما ً جميلا ً ، حرا ً .. متحابّا ً .. متكافلا ً ..
تعبَقُ فيه أنسامُ الحرية ، والتجدّد .. واحترام الحقوق .. والعدل .. والسلام ..
لمنْ تتركني..؟!
لستُ مراهقة..
فلقد نضجت مشاعري..وصرتُ أعرف ما أريد..ومَنْ أريد..
قلبي غيمة ٌ حالمة..
لاتبدّدْ أجزاءها بالرحيل..
أنتَ..أيها العابر..المقيم..
أيها المتربّع على عرش روحي..
الذي لم يدخل فردوسه إلاك..
ولن يدخل..
لن يكتمل حضوري بدونك..
فلماذاالرحيل..؟!
وهل لدينا- بعدُ- متسَعٌ للقلق..؟!
وتقول لي: – ليس هنالك من أفق..؟!
مَنْ يبتدعُ الآفاقَ..ياحبيبي..؟!
أليس الإنسانُ وحده من يستطيع رسمَ آفاقه كما يريد..
بالواقع..أم بالحلم..؟!
لا ترحل .. فلستُ أحتملُ الوداع..
أيها العابر المقيم الجميل الرقيق..
قلتُ لكَ – فقط- أمطرني بالقبل..
لم أعهدكَ بخيلا ً ياحبيبي..
فماذا جرى..؟!
يا برقي..ويا رعدي..
يا خصوبة َأيامي..
ياحبيبي..
يا حقل ربيع ٍفاجأني..عندما فتحتُ البابَ على مصراعيه..
لأهربَ من جحيم العواصف..
ألا تعلم أنكَ قد جعلتَ أغصان روحي تهتزّ بقوة ٍنورانيّة ٍ..ساحرة..عندما همستَ في أذني :
– أحبكِ..؟!
فتساقطتْ ثمارُها اليانعة..في سلال الأيام..؟!
ألا تعلم أنكَ عمّقتَ في نفسي إحساسي بوجودي..وكينونتي الروحية..؟!
أنكَ دغدغتَ زغَبَ عاطفةٍ كانت تسبح في بحر العَدَم من زمان..فأوقدْتَ فيها شعلةَ الحياة..؟!
أنكَ رسمتَ- بكلماتكَ الرقيقة الصادقة- دربَ حلم جميل..لا أعرف إن كنتُ سأميّز بين حقيقته،أو سرابه..؟!
إذا لم ترجع يا سعدو ، سأحقد عليكَ إلى الأبد ..
أو ..!! لا ، لا .. مهما حصل .. ولو كان سبب غيابكَ مايكون ..
يكفيني لأحبكَ مدى العمر.. أنكَ منحتني طفلا ً..
لابدّ أن يعترف الناس ، عاجلا ً ، أم آجلا ً ..
أنه ابن حلال ..
فالزمان صديقٌ للحقيقة ..
لكنني لا أريد أن يعيش طفلي يتيما ً ..
فقد ذقتُ مرارة اليتم .. ياحبيبي ..
فأين أنتَ ..؟!
*******************
– لا أدري إن كان ذلك حلما ً أم شيئا ً آخر ..
كنتُ أعوم في تلك الزرقة ، لكنني صحوتُ لأجد نفسي أسقط من بين ساقي أمي .. على فرشة من العشب الناعم ..
فتحت ساعديها ، واحتضنتني .. ضمّتني إلى صدرها .. ألصقت خدي بخدها .. وراحت تتلمس كل ذرة من جسدي .. غير مصدقة أنها أنجبت .. لكنني لم أفهم لماذا كانت تبكي بهذه الغزارة ..
صاحت بصوت ردّدته الجبال :
– أنا امرأة ٌ خصيبة ٌ ، يا رجال ( الخصيبة ) ..
******************************************************************
انتهتِ الرواية

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
Print

إقرأ أيضامقالات مشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

تابعونا على فيس بوك

مقالات