* د. نبيل طعمة
تبنيها التربية الواقعية باعتمادها على تراتبية بناء أهدافها التي تشمل الروح والأخلاق وبناء الفكر العلمي والعملي؛ أي تُخرج الإنسان من بشريته إلى إنسانيته، وهذا يعني أن تبدأ التربية بمفهوم العناية بأجيالها منذ دخولها نظمها، فإن أخذت هذا النهج ووضعته على جدول بناء الوطنية فسوف تنجح في تهيئة منظومة تولد تخصصات قديرة وباحثين إبداعيين، هدفهم الوصول إلى تحقيق الإنجازات والتوصل إلى مختلف المكتشفات، سواء في الميادين النظرية أم في ميادين التطبيقات العلمية والعملية.
ولكننا مع الأسف ابتعدنا عن تربية الضمير أو إيقاظه، ومن ثم شحذه ليميز بين الصح والخطأ، أو بين الخير والشر، وليوجه ما يصل إليه من نتائج علمية ومعرفية وفهمية، لأن الفهم ضرورة أن يرافق العلم وجهات الصح الإنساني، وليقيم من نفسه وضميره حسيباً على تصرفاته وسلوكه في الحياة قبل أن يصل للمحاسبة، وإذا اجتهدت التربية فيما تسعى إليه انتقلت بالجيل من المرحلة البشرية إلى المرحلة الإنسانية الرفيعة، وبذلك يصبح أبناؤها قادرين على أن يمارسوا حياتهم وقيادتهم في مجتمعاتهم على أسس من الفهم الاجتماعي والوعي العلمي والسلوك الأخلاقي، الذي يفرزهم ويظهرهم، فيصبحوا منارات لمن يتابعهم أو يسير إلى جانبهم، أو للقادمين خلفهم.
التربية عندما تكون واقعية تتابع مجتمعاتها كافة ولا تستهدف أبناء التعليم الأساسي فقط؛ إنما تستمر إلى المراحل الجامعية، وبذلك تنجح في خلق ما تصبو إليه الأسرة والمجتمع والدولة، ومن خلالها تستطيع أن تقدم بناة الغد الذين يصنعون من خلال ما وصلوا إليه إنجازات تفيد هويتهم الوطنية، محققين بذلك عدة رسائل أهمها: رسالة الإنسانية التي تعني تقديم العون والخير والإسهام في البناء.
لقد استطاعت الكثير من الأطر التعليمية العالمية أن تخرج البشر من الحيونة لتحويله إلى إنساني مفيد، بعد أن رَبّته ودربته ومن ثم أخذته إلى جانبها مستفيدة مما زرعته فيه، ودائماً ضمن كتاباتي أؤكد على مفهوم بشر الذي يعني( بدء شر وشراهة وشهوة) والبشر بعد مروره بعملية التربية الواقعية والمنطقية من المفترض أن يتحول إلى إنسان، الذي يحول كل الأشياء لخدمته، من خلال علميته وأدبه وأخلاقه، ومن المهم الإشارة إلى دور الأسرة الواعية التي إن نجحت في التأسيس، وفرت كثيراً من الأمور، وأسست لنجاح عملية التربية من خلال تعليمها نظام الحقوق التبادلية، لأن من يخطئ فيها يحاسبه ضميره قبل أن يحاسبه الرأي العام، ولا يحتاج لخضوعه لأي قانون، فإن وصلنا إلى هذا استقام المجتمع وغدا سواده على الطريق الصحيح، رغم بقاء بعض الحالات الشاذة، وعندما يتعامل المجتمع على أساس من العدالة الاجتماعية الخلاقة والتفاهم على ما يجب أن يكون عليه من رقي، يرتقي المجتمع ويستقيم، واسمحوا إلى أن أضرب مثالاً اجتماعياً: عندما يتنمر الطفل على أبيه بحق من الحقوق يخرق حصار أبيه له، ويفقد الأب اعتداده بنفسه ويحمله على التراجع مرغماً كي لا يفقد هيبته، إذاً غاية التربية بناء العقل قبل الجسد وزراعة الوفاء والارتباط للأسرة والمجتمع وللوطن الذي يتفتح ذهنه عليه، هذا الذي يمنحه سمته وصفاته فيغدو له هوية، إن الوفاء الذي يعتبر من أهم ميزات العقل الناطق أخذ يتلاشى من إنساننا، بينما نجده يتطور بسرعة عند الحيوان، صحيح أن الحياة المادية الحديثة حتمت على الإنسان أن يظل دائم اللهاث خلفها، وأخذتً في تحويله إلى النظرية “البافلوفية..سيلان اللعاب” وأخذت من وقته كل فراغ، فأصبح من خلال الفراغ العقلي الأخلاقي في فراغ لا نهاية له، يحجبه عن الآخرين ويحول بينه وبين القيام بواجباته نحو مجتمعه وبلده، ومهما كانت الحياة المادية جرياً وراء مغرياتها لا يجد الإنسان معها نفسه، أو فراغاً لا يعرف كيفية ملئه أخلاقياً والتعامل معها انتمائياً، مع كل هذا يجب أن لا تفقده الشعور بمسؤولياته أو تسلب منه الإحساس بأنه مخلوق مرتبط بأسرته ومجتمعه ووطنه.
من المحزن ألا ننتبه إلى عملية التربية في بناء الإنسان الذي فعلاً أخذ يتحول إلى آلة تدور بلا مشاعر وبلا وعي، أو إلى أداة يتناهبها الصدأ ويفقدها القدرة على العطاء والعمل، وفي الحالتين يصبح المرء عاجزاً عن الوفاء وعن رد الجميل وعن الشعور بمسؤولياته