
بانوراما سورية:
أي زيادة حقيقية في الأجور لا يمكن أن تكون مجرد إجراء رقمي، بل عملية تتطلب معالجة جذرية للخلل البنيوي في الاقتصاد السوري. ولتحقيق زيادة حقيقية وفعالة في الأجور، يجب النظر إلى ثلاثة عوامل أساسية تضمن أن تكون هذه الزيادات فعلية غير وهمية وذات أثر إيجابي على حياة السوريين:
أولاً: ربط الأجور بالأسعار، حيث لا يمكن تقييم أي زيادة في الأجور بمعزل عن قدرتها الشرائية في السوق. الأجر الذي لا يغطي احتياجات المعيشة الأساسية ليس أجراً، حتى لو وصلت قيمته الرقمية إلى مليار. لذلك، يجب أن يكون الحد الأدنى للأجور مرتبطاً بتكاليف المعيشة الحقيقية وفق حسابات دقيقة تشمل الغذاء، والسكن، والنقل، والصحة، والتعليم، والاتصالات، والاحتياجات الأخرى الضرورية جميعها. ولا يجب أن يهدف هذا الربط إلى تغطية الحد الأدنى لتكاليف المعيشة فقط، بل إلى توفير مستوى معيشي كريم يضمن للمواطن حياة تتجاوز حد الكفاف.
ثانياً: ربط الأجور بتغيرات الأسعار بشكل دوري، فحتى إذا تم ربط الأجور بتكاليف المعيشة، فإن تأثير هذا الربط سيزول إذا تُركت الأسعار لترتفع بلا ضوابط، مما يؤدي إلى تآكل القيمة الحقيقية للأجور. لذلك، يجب أن يتضمن أي نظام للأجور آلية واضحة وشفافة لتحديث الأجور بشكل دوري يتماشى مع التغيرات في تكاليف المعيشة (شهرياً، أو ربع سنوي، أو سنوياً). وهذه ليست منّة من الدولة أو أرباب العمل، بل يجب أن تكون حقاً أصيلاً للمنتجين السوريين يضمن استقرار قدرتهم الشرائية في مواجهة تقلبات السوق.
ثالثاً: أي زيادة في الأجور تصبح غير مجدية إذا كان تمويلها يعتمد على تحميل المواطنين أعباء إضافية، كما يحدث عند إلغاء الدعم أو رفع الضرائب بطريقة غير عادلة. يجب أن يأتي التمويل الحقيقي لزيادة الأجور من مصادر اقتصادية مستدامة وغير تضخمية، أهمها:
تعزيز الإنتاج الوطني، عبر رفع كفاءة القطاعات الإنتاجية الحقيقية كالزراعة والصناعة، مما يساهم في زيادة الإيرادات الحكومية من مصادر حقيقية وليس عبر الاستدانة والمساعدات الخارجية أو التضييق على المواطنين.
استهداف كبار الناهبين للثروات الوطنية الذين يستحوذون على النصيب الأكبر من موارد البلاد، بينما يعاني 90% من السكان من التهميش الاقتصادي. واجتثاث الفساد الكبير بشكل فعلي يمكن أن يحرر موارد ضخمة لدعم الأجور وتحقيق العدالة على الصعيد الاقتصادي.
فرض ضرائب تصاعدية عادلة تستهدف الثروات الكبيرة والأرباح غير المنتجة، بدلاً من تحميل العمال والمنتجين عبء الضرائب غير المباشرة.
رفع الأجور ليس مسألة تقنية تتعلق بأرقام أو نسب مئوية، بل ينبغي أن ينظر إليه بوصفه أحد أدوات إعادة توزيع الثروة وتصحيح الخلل في بنية الاقتصاد السوري. والنجاح في هذا المشروع يتطلب رؤية متكاملة تستهدف زيادة الإنتاج، وضبط الأسعار، ومكافحة الفساد، بما يضمن أن تكون زيادة الأجور جزءاً من عملية أوسع لتحقيق التغيير الحقيقي في البلاد بعد كل ما دفعه شعبها من أثمان.
قاسيون







