اتفق الأخوة ال”خمسة” قائلين له: يا والدي “صار لازم ترتاح.. بكفيك شغل وتعب طوال هالسنين.. ولي بتريدو بصير” أجابهم: أجادون بهالكلام.. أكيد كل الجدية فيما نقول. عندها نادى يا عبد الحميد هات ورقة وقلم وسجل عندك.. الآن ولد أبو عبد الحميد ولادة ثانية!.
الوديان والبطاح وتلك الصخور المقابلة والمحيطة بالقرية وحتى بعض القرى القريبة شاهدة على صلابته وقوته في مقارعتها وتشهد أيضا على “همة” ما هدأت طوال سنينه البالغة ثمانون عاما…. ارتباط عميق وعلاقة من نوع إستثنائي نشأت بينه وبين الطبيعة الساحرة التي أكسبته سواعد ما عرفت إلا الحلال وما أدخلت لقمة حرام واحدة إلى أحشاء أبنائه ونقاوة نفس “تتجلى” في تعاطفه ومحبته للناس. عراكه مع الطبيعة عراك حضاري دون أن يعي فلسفة الأمر وبعفوية يحاكي الرأي الأممي القائل: “لابد في النهاية من تحول الصراع بين الإنسان وأخيه إلى صراع مع الطبيعة” للإستفادة من خيراتها وتسخيرها لمصلحته (الإنسان). مرارا كنت أصادفه كان هذا في الربيع وبالأخص مع “هلّة” نيسان وما أدراك ما نيسان وسحر نيسان! حيث “البرّية” ملجأ ومكان فسيح وطليق لي وللكثيرين من أبناء جيلي للدراسة المتعذرة أغلب الأحيان في البيوت بسبب ضيق المكان وسيادة منطق الأسرة ذات العدد الكبير والغير منتظمة وهو النمط الغالب في مجتمعات توصف “تلطفا” وأدبا بالنامية إلا أنها في الحقيقة متخلفة ومكّترة!. في إحدى “مشاوير” الدراسة الراجلة والطويلة مررت بجانب إحدى الأراضي التي كان يقوم بفلاحتها استوقفني الرجل -كان أبو عبد الحميد يميل إلى القامة الطويلة نسبيا وما إن يضع يده بيدك حتى تشعر كأنك تصافح قطعة صلبة لايمكنك الإحاطة إلا بجزء منها!- مبتدئا حديثه بكلمات تشجيعية عن العلم والشهادات باعتبارها المخرج لنا إلى حياة أفضل وقياسا لظروفه فما يقوله صحيح لا يشوبه الخطأ وإن كان الواقع يجافي إلى حد ما وجهة النظر هذه….. ومن منطلق المقارنة بين جيلين قال: أتعلم يا أبن “خيي” وهي الجملة التي يخاطب بها شباب القرية أتعلم هناك وأشار بيده إلى مكان يبعد حوالي (مئة متر) تلك بقايا (الحرش) الذي اضطررت فيما مضى للنوم فيه مرات وأخرون فعلوا مثلي وقد سمّى بعضهم…. وما هو السبب؟ أجاب: بسبب خلافات عائلية متكررة مع بيت فلان ليس خوفا “لاوالله” وإنما إتقاءا لشرّهم واقتصار للمشاكل فأي مشكلة كان تعطى طابع عشائري مريض لشحذ الغرائز والعصبيات ولهذا كنا نبتعد عن الأنظار ريثما تهدأ النفوس…….. نعم كان ينام في الحرش الذي “تفنّن” الناس في سهراتهم ولياليهم بسرد القصص المخيفة عنه. بعضهم قائل.. أنه مسكون وآخر فيه وحوش ضارية ولكن الأحراش كانت بالنسبة له أرحم ألف مرّة من (أناس) لم يكونوا ليتوانوا عن قتله لا لشيء سوى استحكام الجهل في الأنفس العاصية والمتكبرة. حقا ما روي عن أئمة العلم من أعطاه الله عقلا ما حرمه شيء, ومن حرم العقل ما أعطي شيء. ربما كان أبو عبد الحميد كغيره ممن يحلم -باليقظة والنوم- بحال و واقع أفضل ويتمنى مع قليل من الدعاء أن تنزل الرزقة “بصرر” من السماء أو أن يكتشف كنزا أثناء الفلاحة! ولكن ذلك لم يثنيه للحظة عن العمل ولم يركن للقنوط والكسل.
سيبقى هذا الرجل (رحمه الله) رمز للكفاح والجلد والتحمل……. أما أسلحته المستخدمة في ميادين الجهاد الأكبر والأصغر (الصمد والنير والفأس وغيره) والتي يحرص الأبناء والأحفاد على عدم التفريط بها….. ما تزال تروي ملحمة عطاء واستبسال قلّ مثيلها.
- الرئيسية
- عيون و أذان, مقالات
- الآن ولدت من جديد…- بقلم كفاح عيسى
الآن ولدت من جديد…- بقلم كفاح عيسى
- نشرت بتاريخ :
- 2016-02-26
- 9:17 ص
Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
Print
تابعونا على فيس بوك