يدير سائق سيارة الأجرة مؤشر المذياع ليستقر على قناة تبث برنامج فتاوى لشيخ «يطلّق ويزوج» ويعطي نصائح عن الوضوء والصيام والميراث. لينهي المستمعون الاتصال بالشكر والامتنان للشيخ «صاحب المعرفة والفضيلة». ما يفتي فيه الشيخ هي قضايا تمت بصلة مباشرة لقانون سوري موجود منذ عقود، لكنها تُحل بكلمة على الهواء!
المتصلة سمية تسأل عن عدد المرات المتبقية لها كي تبقى على ذمة زوجها وتحاول مع الشيخ إيجاد منفذ لورطتها. تُطلّق على الهواء وتُزوّج وتصبح الحياة حلالا أو لا عبر فتاوى «طائرة»، كثيرون غيرها يلجؤون إلى هذا الشيخ أو غيره للاستحصال على فتاوى تعينهم على حل مشاكلهم. فالسوريون لا يلجؤون للمحاكم في مثل هذه القضايا إلا عندما تستحيل الحياة، فيما تناضل السورية ت منذ عشرات السنوات لتغيير قانون الأحوال الشخصية الحالي. فهل بات هذا المطلب قريب المنال، أم أنها مجرد جرعات من التخدير لهذه المطالب؟!
«كلام جرائد»؟!
قبل أيام، نسبت إحدى الصحف المحلية لمن وصفتها بـ «مصادر في المحكمة الشرعية في دمشق» قولها إنه تم الانتهاء من تعديل قانون الأحوال الشخصية السوري، موضحة أن التعديل اشتمل على الكثير من الأمور منها تعويض المرأة في الطلاق التعسفي سواء كانت فقيرة أم غنية.
وأكدت المصادر نفسها أن التعديل اشتمل على الكثير من الأمور، منها المصطلحات التي تعتبرها منظمات حقوق المرأة ظالمة المرأة. كما تم مراعاة المقترحات المقدمة من المنظمات والجمعيات التي تعنى بحقوق المرأة، لإخراج قانون يتوافق عليه الجميع، مشيرة إلى أنه تم الاستماع إلى الآراء المختلفة في هذا الموضوع لما لهذا القانون من أهمية كبيرة باعتبار أنه «يشتمل على حياة المواطنين من رحم أمهاتهم إلى ما بعد موتهم».
الغريب في الأمر أنه لا المصادر ولا الصحيفة ذكرت أين حدث هذا الاجتماع المهم، والمخصص لتعديل قانون الأحوال الشخصية، وهل كان في ورشة عمل أم عبر لجنة ما تم تشكيلها لمناقشة التعديلات، أم في مجلس الشعب، أم أنه كان سرياً للغاية ولم يعرف به إلا المصدر الذي سرب تفاصيله للصحفي؟!
هرطقة دستورية!
القاضي محمد طارق الخن (العضو في إدارة التشريع) قال لـ «الأيام» إنه على حد علمه لا يوجد تعديلات على قانون الأحوال الشخصية في الوقت الحالي. وأن ما يتم تداوله حاليا في مجلس الشعب، هو فقط نقاش حول مواد معينة ضمن قانون العقوبات تعاقب على الزواج العرفي. والنصوص الموجودة حاليا تعود إلى العام 1949 وهي عبارة عن غرامة تطال على حد سواء طرفي العقد أو الشهود.
إصدار القوانين أو القيام بتعديلها ليس من اختصاص المحكمة الشرعية أو أي محكمة ثانية، كما يقول المحامي عارف الشعال الذي عبّر عن استغرابه من الخبر، معتبراً أنه خبر صادم لا تقبله الأذن القانونية، ومضيفا «منذ متى تتصدى المحاكم لتعديل القانون، ومن كلفها بذلك؟» متابعاً أن المحاكم تطبق القانون، لا تسنّه، ولا تعدله! وهي تفعل ذلك عندما تتصدى للفصل في النزاعات بين الناس.، أما أن تتصدى لتعديل القانون لأنها وجدت فيه عوار ما، وتقوم بتفصيله كما يحلو لها، فهذه هرطقة دستورية جسيمة، واعتداء كبير على السلطة التشريعية!!
من جهته، أكد قاضٍ في محكمة الاستئناف «فضل عدم ذكر اسمه» على عدم مشروعية قيام المحكمة الشرعية بتعديل أي قانون (إذا كان الخبر صحيحا)، مضيفاً: يوجد دائرة تشريع وهي المختصة بموضوع التشريعات، فقانون الأحوال الشخصية ترعاه وزارة الداخلية وهي الوزارة المعنية، مشيراً إلى أنه حتى وزارة العدل لا يمكنها القيام بأي تعديل إلا في حال تم الطلب منها المشاركة في التعديل. وبالتالي إما أن تقوم وزارة العدل بإحالة الطلب إلى دائرة التشريع، لتقدم دراستها حول هذا الموضوع أو تقوم بتشكيل لجنة موسعة مهمتها تقديم مشروع يتوافق مع رغبات الجهات التي تطلب التعديل، على ألا تخالف الدستور السوري. مضيفا: لا يمكن التعديل في أي قانون عبر القضاة الشرعيين، فالقاضي يقوم بتطبيق القانون وليس بتشريعه، إلا إذا طُلب من القاضي المشاركة في إحدى اللجان كونهم قضاة من المحاكم الشرعية إلى جانب قضاة من الأحوال الشخصية.
الأحوال الشخصية… الجذور
يعود وجود قانون الأحوال الشخصية في سورية إلى بدايات القرن الماضي، ففي العام 1917 صدر قانون حقوق العائلة في أواخر الحكم العثماني في سورية، وتضمّن أحكاما للمسلمين وأحكاما لغير المسلمين، ويحتوي على 157 مادة توزعت على كتابين: الأول بعنوان (المناكحات) يبحث في الخطبة والأهلية وعقد الزواج والكفاءة والمهر والنفقة، والكتاب الثاني بعنوان (المفارقات) ويبحث في الطلاق والتفريق والعدة، كما يتضمن عدد من مسائل الأحوال الشخصية بالنسبة لأصحاب الديانتين المسيحية واليهودية. وفي العام نفسه صدر قانون أصول المحاكمات الشرعية، ويتميز هذا القانون بأنه وحّد المرجع القضائي في الأحوال الشخصية للمواطنين جميعاً وجعل المحاكم الشرعية في سورية مختصة بالنظر في جميع قضايا الأحوال الشخصية للسوريين (مسلمين وغير مسلمين).
وفي عام 1919 صدر قانون المحاكم الطائفية للطوائف غير المسلمة في عهد الملك فيصل ملك سورية آنذاك، ثم صدر القرار رقم 60 ل.ر تاريخ 13/3/1936 عن المفوض السامي أيام الاحتلال الفرنسي، الذي أكد على قانون المحاكم الطائفية، وتم العودة إلى تعدد الجهات القضائية المختصة بالنظر في المسائل الشرعية. ليطرأ فيما بعد تغيرات على مواد القوانين ليبقى الأصل كما هو.
قانون تمييزي
تقول المحامية والناشطة في حقوق المرأة مها العلي لـ «الأيام»: طوال السنوات الماضية لم يكن هناك تعديلات حقيقية وعادلة في نصوص ومواد قانون الأحوال الشخصية تجاه حقوق النساء. مضيفةً أنه لم يطرأ تعديلات حقيقية على القانون الحالي، حيث تم إضافة مواد جديدة إلى جانب المواد القديمة، كالمادة التي تم فيها تعديل سن زواج الفتاة حيث تم رفع سن الزواج من 13 إلى 17 سنة للإناث وللذكور رفع السن من 15 إلى 18. تقول العلي: «لا أفهم ما هو المغزى من إبقاء فارق سنة بين سن تزويج الفتاة والفتى سوى أنه تمييز واضح بحق النساء». وتتابع: حتى المادة التي تم تعديلها والمتعلقة بحضانة الأطفال لم تلحظ المصلحة الفضلى للطفل والذي هو محور هذه المادة، «مع الأسف قانون الأحوال الشخصية الحالي مليء بالمواد التمييزية كالمواد المتعلقة بالطلاق، فلماذا لا يوجد نوع واحد من الطلاق، لماذا كل هذه الأنواع؟». وتشير المحامية إلى موضوع الميراث أيضاً: «لماذا لا يتم وضع مواد على أساس مواطنيتنا وعلى أساس أننا جميعا بشر نتمتع بالحقوق والواجبات ذاتها. مضيفةً: «يمكننا أن نبقي الباب مفتوحا لمن يريد أن يطبق طقوسه الدينية على اختلافها سواء كان مسلماً أم من الأديان المختلفة. فنحن عندما نطبق هذه المعايير فإننا سنحظى بقانون عادل يرضي الجميع، ويكون معياره الإنسان ولا شيء سوى الإنسان، علينا أن نقوم بتغيير جذري للقانون الحالي وليس اجتزاء مادة هنا أو هناك والعمل على تعديلها».
القاضي حسين محمد الحسن يكشف في دارسة أعدها حول قانون الأحوال الشخصية، أن القانون الحالي مليء بالمواد المتناقضة، إلى جانب أن عددا كبيرا من مواده هي مواد تمييزية ضد النساء، وأورد القاضي مثلا موضوع الزواج، فيقول: ونحن في القرن الواحد والعشرين ما زلنا في سورية نطبق القانون الذي سن في عام 1953، ولا يخفى على أحد التطور الحضاري في شتى أمور الحياة الذي حصل في هذا العالم، والقفزات الحضارية التي مرت على العالم منذ صدور هذا القانون، ولكن من المفارقات أنه ما زال في القانون الذي يطبق حاليا، على الرغم من التعديلات البسيطة التي طرأت عليه، هفوات وتناقضات تجعلنا نستغرب وقد تثير لدينا السخرية، ويذكر القاضي بعض المشاكل على سبيل المثال لا الحصر:
نصت المادة 16 على أنه (تكمل أهلية الزواج في الفتى بتمام الثامنة عشرة وفي الفتاة بتمام السابعة عشرة من العمر)، في حين نصت المادة 18 على أنه (إذا ادعى المراهق البلوغ بعد إكماله الخامسة عشرة أو المراهقة بعد إكمالها الثالثة عشرة وطلبا الزواج، يأذن به القاضي إذا تبين له صدق دعواهما واحتمال جسميهما) أو (إذا كان الولي الأب أو الجد اشترطت موافقته).
كما نصت المادة 162 على أن (القاصر هو من لم يبلغ سن الرشد وهي ثمانية عشرة سنة كاملة).
ويتبين مما سبق – كما يقول القاضي الحسن – من المواد الثلاثة المذكورة أنه يوجد تناقض واضح بينها، فنلاحظ أن المادة 16 حددت سن أهلية الزواج في الفتى الثامنة عشرة، والفتاة السابعة عشرة، وتعود المادة 18 لتعطي هذا الحق للمراهق الذي بلغ الخامسة عشرة والمراهقة التي بلغت الثالثة عشرة، وتعطي الحق للأطفال بالزواج بمجرد صدق أقوالهما بأنهما بالغين أو بمجرد أن جسميهما يحتملان ذلك، وطبعا يعتمد على الظاهر من جسميهما. وهذا يتعارض أيضا مع اتفاقية حقوق الطفل، التي وقعت عليها الجمهورية العربية السورية والتي تنص في المادة الأولى منها على أن «الطفل هو كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة ما لم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق عليه». فأي زواج لفتاة في الثالثة عشر من العمر وزوج في الخامسة عشرة من العمر، وهم ما زالوا بحاجة إلى رعاية من الأهل، وهل هؤلاء يمكن أن يؤسسوا أسرة ويتحملوا مسؤولية الزواج النفسية، والعاطفية، والجسدية، والمادية وهم ما زالوا بحاجتها. ويتابع القاضي استعراض المواد المتعلقة بقانون الأحوال الشخصية للروم الأرثوذكس رقم 23 لعام 2004 ويقول:
– ورد في المادة 6 الفقرة ب على: (ويجوز إقامة الخطبة بين قاصرين لم يبلغا سن الرشد على أن يتمتعا بحرية الإرادة والتصرف، وألا يكون الخاطب دون السابعة عشرة من العمر، والخاطبة دون الخامسة عشرة مع مراعاة حال البنية والصحة وبموافقة) وتعود المادة 13 لتؤكد ذلك، وهنا أيضاً يعطي المشرع الحق للقاصرين والأطفال بالزواج.
– المادة 57 تنص (للمحكمة بمحض تقديرها أن تحكم بالهجر حتى ولو لم يطلب إليها ذلك).
وهنا نلاحظ أن المشرع تجاوز إرادة الزوجين التي هي أساس الحياة الزوجية.
– المادة 69 تنص (يعد بحكم الزنى تطبيق أحكام المادة /68/ بناء على طلب الزوج وذلك على سبيل المثال لا الحصر) فقرة د (إذا عليها حكمت المحكمة بأن تتبع رجلها إلى محل إقامته ورفضت، أو بالدعوة إلى بيت الزوجية فامتنعت، من دون عذر مقبول عن تنفيذ الحكم خلال المدة التي حددت لها لذلك) لا يمكن أن نعتبر مجرد عدم اتباع الزوجة لزوجها في محل إقامته زنى.
– تنص المادة 90 (يتولى البطريرك تشكيل محكمة الاستئناف من رئيس ومستشارين، ويعين معهم رئيساً رديفاً ومستشارين ملازمين) نلاحظ أن البطريرك هو من يقوم بتعيين القضاة مما يجعلنا أمام تعدد المرجعيات القضائية وتعدي على اختصاص مجلس القضاء الأعلى.
– المادة 109 تنص: (جميع الأحكام الصادرة عن المحاكم الروحية الأرثوذكسية تصدر باسم الكنيسة الأرثوذكسية الانطاكية المقدسة). بينما جميع الأحكام في المحاكم السورية تصدر باسم الشعب العربي السوري.
تغيير جذري
روحية القانون من وجهة نظر المحامية رولا بغدادي تقتضي أن يتم إلغاء قانون الأحوال الشخصية الحالي، والذهاب نحو قانون مدني يضبط الأحوال الشخصية للمواطنين والمواطنات على أساس مواطنتهم.
الناشطون والناشطات في مجال حقوق المرأة ممن استطلعت «الأيام» آراءهم ركّزوا على عدد من المطالب ممن يعتبرون أنها حل للعديد من القضايا العالقة على عتبات المحاكم. ويلخص الناشطون والناشطات مطالبهم في عدد من النقاط أبرزها:
1 -جمع تشريعات الأحوال الشخصية في قانون واحد يكرس مفهوم المواطنة في الدولة مع الحفاظ على خصوصية الديانات والمذاهب. وهذا يمكن أن يتم من خلال وضع مواد قانونية عامة لجميع المواطنين ومواد قانونية تخص كل ديانة أو مذهب، أما الطقوس الدينية البحتة يمكن إخراجها من القانون وترك أمر ممارستها للأطراف مع رجال الدين على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم. فمثلا في عقد الزواج يمكن للمحكمة أن توثق العقد بعد التأكد من صحة أركانه وشروطه وفقا للقانون، أما طقوس الإيجاب والقبول أو صلاة الكنيسة أو صلاة الإكليل الخاصة بالخطبة والعقد، يمكن أن تتم خارج المحكمة ويكفي الإقرار بها أمام المحكمة. وهذا لا يعد خروجا عن الطقوس الدينية لكل دين ومذهب، ولا يخالفه.
2 – إصدار قانون أصول المحاكمات أمام محاكم الأحوال الشخصية يراعي خصوصية هذه الدعاوي وخاصة لجهة السرعة في البت بها.
3 – توحيد المرجعيات القضائية وبناء قضاء مختص بالأحوال الشخصية، ويكون على درجتين تحت إشراف مجلس القضاء الأعلى.
4 – تحديد سن الزواج بثمانية عشرة عاماً، وإلغاء مسألة الولاية على الزوجة. وفرض عقوبات شديدة، تصل إلى السجن أو غرامات مالية عالية لمخالفته، على الزوجين والأولياء والشهود ومنظمي العقد.
5 – فرض عقوبات شديدة قد تصل إلى السجن أو غرامات مالية عالية على الزواج خارج محاكم الأحوال الشخصية، للحد من ظاهرة الزواج خارج المحكمة، أو تعدد الزوجات بدون الضوابط التي ذكرها القانون. والعقوبة تشمل أيضا الزوجين والشهود والأولياء ومنظمي العقد، الذين يقومون بدور في الزواج.
6 -الاعتماد على الخبراء والمحكمين ذوي الكفاءة العالية من قبل المحاكم. وخاصة من حملة الإجازة في الإرشاد النفسي والتنمية البشرية، وليس على «المشايخ» ورجال الدين.
7 -اعتماد الوسائل العلمية واستغلال التطور العلمي في إجراءات المحاكم بما فيها اختبار الحمض النوويDNA لإثبات النسب بدل قاعدة الولد للفراش.
8 – مراعاة حق الطفل في موضوع الحضانة قبل حقوق والديه. وإيجاد حلول أكثر صحة لمسألة الإراءة ومكانها.
9 – احترام حقوق المرأة لجهة النفقة والسفر والعمل.
10 – إحالة المسائل المالية البحتة إلى القانون المدني، وإخراجها من نطاق قانون الأحوال الشخصية وجعل الاختصاص للمحاكم المدنية، مثل الوصية والإرث والوقف وغيرها.
يأمل السوريون والسوريات ألا يطول انتظارهم لحين رؤية قانون أحوال شخصية عصري يعتمد المواطنة معياراً وحيداً ويحقق المساواة للجميع وفقاً لما نصّ عليه الدستور السوري.
بانوراما طرطوس- نسرين علاء الدين- الأيام