في الوداع الأخير كان والدي مُسجى.. ملفوفاً بالكفن, في تابوت خشبي اعتاد حمل الموتى من أهالي قريتي إلى مثواهم الأخير.. في الوداع الأخير كان والدي يسمعنا ويرانا, ويكلمنا لكننا لم نسمعه.. كان يتألم لدموعنا ولم نحسس بألمه .. في الوداع الأخير, كان نحيب أخواتي, ونشيج أمي المخنوق ودموعها المحبوسة في مقلتين يتعذر عليهما رؤية رفيق دربها لعشرات السنين.. في الوداع الأخير, خذلتنا المكابرة أنا وإخوتي وسقطت دموعنا عنوة, بللت وجنتينا اللتين كان والدي يقبلهما في كل مناسبة, في الأفراح والأتراح.. في الوداع الأخير, بقي والدي وحيداً في مستقر أبدي لن ينجو منه إنسان.. حمل معه متاعه وكنوزه, وبقي وحيداً, عمله وإيمانه وصبره ومحبته هي متاعه وكنوزه.. وما أكثرها.. هذه التي عمل على جمعها لأكثر من تسعين عاماً… أسبوعاً كاملاً استمر الوداع الأخير.. وهنا بانت كنوز والدي التي خبأها في ضمائر الناس وقلوبهم, من أعمال الخير والنصح والتوجيه والمساعدة.. مئات القصص التي رواها أصدقاؤه ورفاقه.. تنم عن سيرة عطرة كنا وإخوتي نعلم بعضها فقط.. في هذا الوداع علمنا لماذا لم يكتنز والدي المال .. وعدم تملكه مساحات كبيرة من الأراضي.. كان يعمل طوال حياته لمشهد وداعه الأخير.. بقيت والدتي تسألنا إن كان البرد قد أصابه, أكل أم لا, وتطلب منا أن نسلم عليه ونحتضنه كما احتضنه التراب.. وسيبقى إلى يوم يبعثون..
هكذا هي الحياة, استقبال ووداع.. في الوداع الأخير, تيقنت كغيري ممن فقدوا عزيزاً, أنني لم أعد أراك يا والدي.. فتلك الدار التي وطأتها يتعذر علينا أن نراك فيها إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.. رحمك الله يا أبي.. كنوزك ستغنينا إلى يوم الدين, والمتاع التي تركتها لنا لن ترهقنا, ولن تثقل أيامنا وكواهلنا, ستزيدنا غنى, وثقة ومحبة, ولن نقبل عنها بديلاً.. رحمك الله يا والدي.. لن ننساك.
قوس قزح- تشرين