رغم وجود آلاف المحلات التجارية المغلقة، أكانت معدّة لغاية استخدام صاحبها أو لغاية المتاجرة بها، ما زال كثيرون يلحظون وجود محل تجاري، بل طابق (تجاري) كامل في كثير من الأبنية التي يشيّدونها، ليضاف إلى ما هو متراكم سابقاً، وسعر متر المربع لبناء المحل التجاري (ريفاً ومدينة)، يقابل أضعاف أسعار مثيله في البناء السكني، وخلافاً للمنشآت الصناعية والزراعية التي يفتقد كثير منها أجواء العمل المريح صحياً ونفسياً، فكثير من المحلات التجارية تُجهَّز بديكور يكلف مبالغ طائلة، وغالباً يتجدّد عند انتقال المحل إلى تاجر آخر، فقبل قرابة خمس سنوات رأيت في إحدى المدن متجراً مساحته بحدود /80/م2، مجهزاً (ديكور) بشكل جيد جداً، وأمامه رصيف يزيد على مساحته، مستثمر لبيع السيارات، وبعد مدة رأيت إخلاء المحل والبدء بإجراء تعديلات في الديكور فقط، تطلبت الكثير من التكسير والتغيير والتجديد، وبكلفة عالية جداً، فتوقعت أنه يتم تجهيزه لعمل آخر يتطلب كل هذا التجديد، ولكن واقع الحال أظهر أن المحل أُعِدَّ أيضاً لتجارة السيارات، ولكن لتاجر جديد؟!..
العمل التجاري (جملة ومفرّقاً، استيراداً وتصديراً) يشهد إقبالاً متزايداً أكثر من الأعمال الأخرى التي تشكو عزوفاً عنها، فأغلب المنتجات الزراعية الفائضة قد تجد من يصدّرها أكثر من الذين يعملون على تصنيعها، ومعظم المنتجات الزراعية والصناعية التي يحتاج إليها البلد، تجد من يعمل على استيرادها أكثر من الذين يعملون على إنتاجها، نظراً للأرباح الكبيرة التي يحققها العمل التجاري، قياساً إلى الأعمال الزراعية والصناعية، فضلاً عن الجهد الأخف.
وإضافة إلى ما هو قائم من آلاف المحلات التجارية، عمدت جميع بلديات المدن وبعض بلديات الريف إلى نشر الأكشاك التجارية على كثير من الأرصفة والساحات بشكل كثيف، وسمحت (أو غضّت النظر…) بانتشار البسطات التجارية الثابتة والمتنقلة على الأرصفة، وضمن حرم الشوارع والساحات، والجوالة في الأحياء والقرى، وتتابع ذلك رغم وجود آلاف الهكتارات الزراعية التي تشكو من ضعف استثمارها كلياً أو جزئياً، وأيضاً كثير من الحرف والمنشآت الصناعية متوقف، كل ذلك بسبب الدخل الأكبر الذي يتحقق عبر العمل التجاري وبجهد أقل، قياساً إلى الدخل الأقل والجهد الأكبر بالنسبة لكثير من الأعمال الزراعية والصناعية، فمن المجمع عليه والواضح لكل ذي بصيرة أن تاجِرَي الجملة والمفرّق يربحان في كيلوغرام الخضار في يوم أو يومين (ودون أية مخاطر تذكر) أضعاف ما يربحه المزارع من هذا الكيلوغرام خلال عمله في موسم يستغرق أشهراً عديدة، وربما سنة كاملة، فضلاً عما يتعرّض له من مخاطر كثيرة، وأيضاً يربحان ما يقارب ذلك على أي منتج صناعي (الألبسة– الأحذية– المفروشات….)، ما أدّى إلى اندفاع كثيرين نحو التجارة والانكفاء عن الزراعة والصناعة، فكثير من الأماكن تشهد وجود عشرات المحلات التجارية التي تبيع المادة نفسها في سوق واحد أو أسواق متجاورة، تفتح أبوابها كل يوم ساعات عديدة، وتنتظر قدوم المتسوّق بين وقت وآخر، ولكن جميع المحافظات تشهد وجود آلاف الحقول والمنشآت التي لا يعمل بها أحد.
كل ذلك تسبّب في خلق بطالة ظاهرة (جزئية أو كلية) في كثير من الحقول والمنشآت، التي تفتقد مَن يعمل بها في كثير من ساعات النهار، وخلَقَ بطالة مقنّعة لدى كثير من التجار الذين يجلسون في محلاتهم، طوال النهار وفي جزء من الليل، ينتظرون قدوم متسوّق بين ساعة وأخرى، بالنسبة إلى تجار الحاجات الشخصية وربما بين يوم وآخر بالنسبة إلى تجار الحاجات المنزلية، وربما أسابيع لباقي الحاجات الأخرى (مثال ذلك تجارة السيارات)، ولكن هذا التاجر مقتنع وراضٍ بذلك، نظراً لما يحققه من ربح كبير في كل سلعة.
فإن كان ذلك مزيداً من الاتجاه نحو التجارة شطارة من وجهة نظر شخصية، إلا أنه يرتب خسارة كبرى من وجهة نظر وطنية، ما يستوجب أن تعمل السلطات المعنية على إعداد المزيد من التشريع والاعتماد بخصوص فرض المزيد من القيود على توسُّع العمل التجاري الحر، المترافق مع مزيد من حضور الدولة في هذا الميدان، وبربح قليل يزاحم الربح الكبير الذي يحققه التجار، بغية دفع الكثير من التجار إلى العودة باتجاه الزراعة والحرف والصناعة، استفادة من التشريعات المتوجب صدورها واعتمادها، والتي تقضي بالقليل القليل من القيود على العمل الحرفي والصناعي والزراعي، بل يجب أن يترافق ذلك مع مزيد من الإغراءات المشجّعة.
*هذا المقال منشور في صحيفة البعث تاريخ 6-5-2015 رقم العدد
15307