” ما…أشقانا
عندما
لا نستطيع
أن نُقدّم لشهدائنا
غير دقيقةٍ
من
الصمت..!! ”
ذلك ما صار ” جملة ” أمي الحزينة، التي تُرددها كصلاة، أمي التي صارت شرفة البيت المطلة على مفارق طرقٍ عدة، مرصدها، تترقب قوافل الشهداء من ثباتها الذي وضعتها الأيام المنهكة فيه .
في شرفة أمي تلك، أسست ما يُشبه وكالة أنباء متخصصة بشؤون الشهداء، تعرف بجنازة الشهيد قبل حضورها، تتحضر له بما يليق ب ” عرس الشهيد “، عدتّها في ذلك لا يُستهان بها: دموعٌ سخيّة، وزغاريد، ويدين لا تكفان عن التلويح، ووقوف وانتظارٌ طويلين، ذلك ما تفرغت له أمي مؤخراً، و.. ذلك ما تركت لها الأيام من فعالية .
أمي التي تركت شوؤن المنزل، وكل بقية الأعمال، تصرُّ عليّ أن آتي لها بطلباتٍ قليلة، لكنها أثيرةٌ لنفسها، كقداسة: الأرز الذي لن تضبخه أبداً، وتوصية أحفادها بقطف أكبر كميةٍ من ورد الجوري، والبخور، البخور يا ولدي، أرجوك ألا تنسى البخور.. !
تلك ” الحاجيات ” التي لاتكف عن الإصرار على إحضارها، و.. كأنّ كل ذلك هو ما تطلبه أمي من هذه الدنيا، لم تعد تذكرني ب ” حبوب الطغط ” ولا ” النص حبة ” لمرض القلب، التي كانت تأخذها يومياً، ولم تعد تذكر دواء ” الباركنسون ” للتخفيف من حركة يدها اليمين ..، تركت أمي كل تلك ” الرفاهية ” و” البطر ” واقتصرت طلباتها على تلك الحاجيات، و.. لا تُسامح بنسيانها .
أمي اليوم، تريد للشهيد أكثر من وفقة ” دقيقة صمت ” إجلالاً لقداسته، وقد فرحت كثيراً، عندما علمت أن كل ضيعة خصصت في مقبرتها مكاناً للشهداء فقط، هكذا كان عليها أن تحملَ بخورَها الصباحي، لتزور أكبر عددٍ من أضرحة الشهداء، تمشي بخشوعٍ مفرط، و.. قد خلعت حذاءها، تمشي حافة كل صباح بين القديسين والشهداء، تُشعل بخورها، وتزرع آسها، قبل أن تعود انتظار احتفالاتِ بوافد شهيد جديد، يطرد العتمةَ من المقبرة .. !
منذ ما يُقارب من خمس سنوات، لم تزل أمي. لا تبرح مكانها شاهدةً على الموت، والخيبة، والخذلان، الذي هجم على سوريا، و.. حارسةٌ أبديّةٌ لمفارق الطريق العديدة تنثر أرزها، وورق الورد على الجنازات المقدسة جنود الله في الميدان .. !
أمي التي صارت ” سجلاً ” أرشيفاً لتارخٍ من الشباب أبّت رجولتهم أن يُدنس سيفها، تحكي أمي عن الشهيد الذي كا خاطباً، أو ذلك المتزوج من فترة قريبة، أو الشهيد الذي ترك ثلاثة أولاد أكبرهم في العاشرة، تحكي عن شهيدٍ لم يوارى الثرى، فقد أخذ الأعداء جثمانه الطاهر، و.. تطلب أمي أن أحكي لها، و.. قد انتبهت أنها لم تترك لي مجالاً للحديث، فأحكي لها عن أمهات، و.. عن ” أمومة “:
” قبلَ
أن يغرزَ الإسلامويُّ الداعشيُّ نصلَ ساطوره في أحشاءها
توسلتّه برجاءين:
الأول: أن يتركَ عينيها مفتوحتين، فهما تبحثان عن ابنها المقاتل في أرض الميدان منذ زمن .
و.. الثاني: أن لا يلتهم فؤادها
لأنّها
تُخبئُ فيه حبّاً عارماً لسوريا . ”
بحرقةٍ تبكي أمي، وتطلب مني حكايةً أخرى قبل أن أتركها مع بخور شرفتها، وورق الورد، فأحكي عن تلك الأم التي كانت بحاجةٍ لقبر فقط:
” غيابه كان مهولاً
شلالاتٍ من الدمع سفحتها باستشهاده
لكن ما أحزنها طويلاً، فقدها لقبرٍ له تبكي عليه
و..عندما عجزت عن ذلك
قررت أن تدفنه بصدرها . ”
صحيفة الثورة -علي الراعي