هزّتِ الجبالَ أصواتُ انفجاراتٍ بعيدةٍ، كما هَزّتْ روحي نشوة.
من أقصى الشرفةِ من الغربِ، إلى أقصاها من الشمالِ، تمَشّيتُ على بلاطِها الذي مَحتْ لمَعانَهُ عواملُ الطقسِ، على مدى حوالي أربعةِ عقودٍ، ثمانيةَ أمتارٍ جيئةً وذهاباً، عشرات المرّاتِ.
الشمسُ تجمَعُ سنابلَها الذهبيةَ من قِمَمِ الجبالِ والتلالِ، الظلالُ تتمطّى في طَيّاتِها الخضراء، نسماتٌ لطيفةٌ، تتحوّلُ إلى رياحَ غضّةٍ، تداعِبُ حنطةً وَجهي، وتفرقُ خصلاتِ شعري، فتكشفُ عن جذورِهِ البيضاءِ، التي حاوَلتُ إخفاءَها بصِباغٍ بُنيٍّ فاتحٍ، يماثلُ خرنوبَ شعريَ الطفوليّ الذي ضاعَ مني منذ ما يُقارِبُ نصفَ قرنٍ عنيد. ألمُّ بعضَ الخصلاتِ عن وجهي، وعينيّ، وأستنشِقُ الهواءَ القادِمَ عبرَ البحرِ الأبيضِ المتوسطِ، مُحاوِلةً أقناعَ روحي أنها تستنشِقُ الأوكسجين الذي يتكفّلُ بإنعاشِها.
“محمود ” غادَرَ هذهِ الأرضَ المُخضّبةَ، منذ عدّةِ أيامٍ، تارِكاً خلفهُ عَهداً من الأصدقاءِ والأحبةِ بمواصَلةِ طريقِ الخلاصِ، المُعَمَّدِ بعرَقهِ ودِمائهِ، وعرَقِ ودماءِ أهلِهِ ومَن شابَهَهم من الكادِحينَ، المُتشبّثينَ بأرضِهم، وترابها الأسمر.
كم محمودٍ ذهبَ، ولم يذهب.؟!
كفرتُ، منذُ وَعيتُ على الواقعِ، بتلكَ الرُّقُمِ المسماريةِ، التي تحضُّ السوريَّ على تركِ سلاحِه. وكيف لا أكفرُ بها، وأحفادُ قابيلَ يحاصِروننا من كلِّ جهاتِ الأرضِ، وقد تغلغلَ الكثيرُ من قطعانهم في الأعماقِ، ليقتلوا فيها الحياة..؟! كيفَ لا أكفرُ بتلكَ الدعوةِ العمياءِ، وقد نهَشتِ الغِربانُ أجسادَنا، واستباحَ الغريبُ دِماءَنا وأعراضَنا، وانتهَكَ حُرُماتنا، بأعتى أنواعِ الأسلحةِ التي تقذفُ حِمَمَها عبرَ شاشاتِ التلفزةِ، وبوّاباتِ مَواقِعِ التواصُلِ، وعيونِ الأقمارِ الصناعيةِ التي توجِّهُ الغزاةَ والطغاةَ، والغافلينَ المَغسولةِ أدمغتهم، والمدموغةِ بكالِحٍ من ظلاميّةٍ قاتِلة..؟!
تترَقرَقُ أصابعُ الشمسِ بينَ أوراقِ شجرةِ الكينا، يؤرجحُ النسيمُ أغصانَها الغضّةَ، التي نمَتْ حديثاً، بعدَ أن غذّتْ أمها الأرضَ أمطارُ الشتاءِ التي لم ترحل سوى منذ أيامٍ مَعدودة، مُفسِحةً المجالَ لرَديفِها الصيفِ، على أملٍ التجدّدِ باستمرارِ الفصول.
القرى الموجوعةُ الكادِحةُ تستعِدُّ لحكاياتٍ الليلِ، وأوجاعِهِ، ودموعِهِ الحارِقةِ، على “محمود ” راحَ، و “محمود ” فُقِدَ، و “محمود ” جُرِحَ، وخوفٍ، وقلقٍ على باقي المَحمودين، يحدوها أملٌ بولادةِ الفجرِ القادِمِ، حامِلاً معهُ راياتِ انتصاراتِ حُماةِ الوطنِ، وتضحياتِ أبنائهِ البرَرَة.
“عَكّارُ ” يلوِّحُ بقامَتهِ العاليةِ منَ الجنوبِ، تزنّرُ خصرَهُ لفائفُ الضبابِ الرقيقةِ الناعِمة، وتعلو قِمَمَهُ ثلوجٌ مُقيمةٌ، تصمدُ رغمَ حرارةِ الصيفِ الحارِقة، يذوبُ معظمُها في طبقاتِ الأرضِ، ليعيد تشكُّلَ الحياةِ فيها، كما تفعلُ دماءُ الشهداءِ الطاهرة. حتى الأبخِرةُ المُتصاعِدةُ نحوَ السماءِ، تعودُ في فصلٍ جديدٍ، على شكلٍ خيوطٍ من بشائر، كذا هيَ أرواحُ أبناء هذهِ الأرضِ الطيبة.
في الرأسِ ملايينُ الخلايا تعملُ بأقصى طاقتِها، صورةٌ تروحُ، وصوَرٌ تحضرُ، حتى تتشكّلَ لوحةٌ ملوّنةٌ لوطنٍ جميلٍ، مُخضّبٍ بالعرَقِ والدماء، هو جزءٌ من هذهِ الكُرةِ التي يعيشُ فوقها ويموتُ، قابيلُ وهابيلُ، منذُ مئاتِ الملايينِ منَ السنين، وربما أكثر.
أما آنَ لقابيلَ أن يُدركَ أنهُ لن يفوزَ برحمةِ الأرضِ والسماءِ، إن لم يقبلْ حقيقةَ أنّ قتلَ أخيهِ غيرَةً، وطمعاً، لم، ولن تمنعَ عنهُ النهايةَ المَشينة..؟! أما آنَ لهُ أن يجدَ طريقةً أكثرَ نجاعةً، ليحظى بمثلِ ماحظيَ بهِ أخوه..؟!
ثِبْ إلى رُشدِكَ، يا قابيلَ العصر.. واقبَلْ أن تتقاسَمَ الخيرات مع أخيكَ، دونَ قتلٍ، ودونَ إراقةِ دِماء.. واحذرْ دَعوَةَ المظلوم.. فهيَ مُستَجابة.
طنينٌ مُمَيّزٌ يُعلِنُ استلامي رسالةً عبرَ جهازيَ الخلوي :
(سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى في صوفِ “داعش ” بينهم قيادي ميداني، ومحاولات فاشلة من قبل المسلحين لسحب جثث قتلاهم من مناطق الإشتباكات الخلفية شرق جرود رأس بعلبك في منطقة السمرمر وقرنة المذبحة، فيما تمكنت المقاومة من أسر عدد آخر من الجثث، وقد انفجرت عبوات ناسفة بمسلحي التنظيم كانت المقاومة زرعتها في وقت سابق. )
أتنفسُ بعمق.. وأحمد الله.. وأبتهِل…………
____________________________________________________
فاطمة صالح صالح
المريقب/ السابعة إلاّ ثلاث دقائق، عصر الثلاثاء التاسع من حزيران 2015م
- الرئيسية
- ثقافة
- من شرفةِ منزلي.. العالية – الأديبة والشاعرة فاطمة صالح صالح
من شرفةِ منزلي.. العالية – الأديبة والشاعرة فاطمة صالح صالح
- نشرت بتاريخ :
- 2018-06-20
- 7:06 ص
Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
Print
إقرأ أيضامقالات مشابهة
تابعونا على فيس بوك