بانوراما سورية:
أقامت حركة البناء الوطني في مقرّها بدمشق يوم الجمعة الـ7 من أيلول، جلسةً حواريّةً تحت عنوان: “دور الإدارة المحلية في الاستقرار السوري خلال التعافي”.
شارك في الجلسة كمحاورين رئيسيين : د. أيهم أسد عضو الهيئة التدريسية في المعهد الوطني للإدارة العامة، د. جمعة حجازي عميد المعهد العالي للدراسات والبحوث السكانية، د. عقيل محفوض دكتور في العلوم السياسية، د. كريم أبو حلاوة دكتور في علم الاجتماع السياسي، ميسِّر الجلسة المحامي أنس جودة رئيس حركة البناء الوطني، بالإضافة لعددٍ من الأمناء العامين للمحافظات ورؤساء مجالس المحافظات وأعضاء مجالس المحافظات وصحفيين وخبراء، وشخصيات سياسية وناشطين ومهتمين بالشأن المجتمعي والمدني.
تمّ خلال الجلسة مناقشة مخرجات العمل الذي تمّ في العامين الماضيين من جلسات نقاش مركّزة مع مجموعة مختارة من الباحثين والخبراء، وورشات عمل محلية، ودراسات معمقة في البنية التشريعية والتاريخية للإدارة المحلية وخطط التنمية الوطنية وعلاقات المركز المتنوّعة مع الأطراف منذ بدايات تأسيس الدولة السورية.
كما ناقشت الجلسة الحاجة لطرح مشروع وطني لإعادة شمل البلاد وتحديد جذور الاختلالات التنموية، والبحث عن علاقة متوازنة بين المركز والأطراف تعيد توزيع الموارد والصلاحيات، وتشكّل مدخلاً للتعافي بطريقة تضمن عدم حدوث انتكاسات تعيد حالة الحرب، إضافةً إلى التنسيق في التخطيط التنموي بين المستويات المحلية والإقليمية والوطنية، بحيث يمتد إلى التنسيق إلى الأجهزة المحلية، ويتبعه توزيع متوازن للصلاحيات والاختصاصات واستكمال نقل الصلاحيات للمحليات.
وتناولت الجلسة ضرورة تنمية المحليات من الأشد فقراً بما يتناسب مع الإطار الوطني للتخطيط الإقليمي، والأخذ بالحسبان التدرج للانتقال نحو اللا مركزية، مع قراءة الاختلاف بالموارد البشرية والمادية بين المحليات وسياقها التنموي عند منح الصلاحيات والمسؤوليات، وبحثت البنية الإدارية والصلاحيات المالية الضرورية لتعزيز الاستقلالية التنموية في التعافي، مع ما يتطلبه الأمر من قواعد بيانات ومؤشرات تنمية يمكن أن توفرها البنى المحلية (مراصد – بيوت خبرة) من أجل بناء خطط تنمية سليمة.
ودعت الجلسة إلى تعزيز سلاسل القيم الاقتصادية، ومشاركة القطاع الخاص وتفعيل تشاركيته مع المجتمع المحلي والفاعلين المحليين لتمويل مشاريع صغيرة فيها، ما يستدعي توطين الإجراءات الإدارية في المحليات بالكامل وتحريرها من الإجراءات المركزية.
كما دعت إلى تعزيز المشاركة المجتمعية كعنوان لأيّ عمل تنموي، وكمدخل أساسي لبناء الثقة المجتمعية بمؤسسات اتخاذ القرار على المستوى المحلي، وبالتالي تفعيل قنوات التواصل بين المجتمع وإدارته، وبينه وبين السلطة عبر منظمات المجتمع المدني بما فيها من الاتحادات والنقابات، مع الإشارة إلى دور الأحزاب السياسية في تحقيق التمثيل المجتمعي، والحاجة إلى بناء ثقة مع البنى الاجتماعية بعيداً عن الفردية، وخلق بيئة لتوسيع خيارات المجتمع المحلي.
وحول العلاقة بين المحليات والمركز أوضح د. كريم أنّها علاقة مسؤولية مشتركة سواء في حالات النجاح أو الفشل، وعلى المركز أن يعيّ بأنّ نجاح المحليات مؤازر له ودليل على فعاليته والعكس صحيح، وما يبدو أنّ هناك تنازعاً في الصلاحيات إلى جانب افتقاد المعرفة والخبرة والقدرة على المبادرة تضاف إلى الإرباكات المختلفة في بعض المحليات، مشيراً إلى أنّ التنمية تنجح عندما يشعر ويقتنع الجميع أنّ كا ما نقوم به بالمجتمع والقطاع الخاص والحكومة من إيجابيات أو سلبيات ستكون نتائجه ملموسة.
وعن سبب انعدام مستويات المشاركة لدى قطاعات واسعة من المجتمع السوري بيّن د.كريم أنّ التشجيع على ثقافة المشاركة بشكل فعلي ومناقشة قضايا الشأن العام سيجعل المجتمع بالضرورة يشعر بطاقته الكبيرة وأنّه قادرٌ من خلال التنظيم وتقسيم العمل على حلّ مشكلاته، فعدم وصول نتائج التنمية إلى الناس يجعلهم غير معنيين بها.
وأشار د. كريم إلى أنّ الثقة هي نتيجة وليست سبباً لتقييم المجتمع للممارسات العامة ومدى استفادته أو عدمها منها، مبيناً أنّ السوريين عانوا خلال الحرب ومفاعيلها من وجود هويات قاتلة وليست إقصائية أو فرعية فقط، وذلك من خلال التنظيمات المسؤولة عن إصدار حكم الحياة أو الموت وفي تشجيعه خطورة، فالمشكلة ليست بالتنوع بل في إدارة هذا التنوع.
وعن كيفية التعامل مع الهويات المتنوّعة والتمثيل السياسي المناطقي أوضح د. كريم أنّ المجتمع المتماثل هو مجتمع فقير وعلينا الحفاظ على التنوع الموجود لدينا وإغناؤه شريطةَ ألا يحمل في طياته نزعات انفصالية أو تعالياً على الآخرين.
من جهته أشار الدكتور جمعة حجازي في مشاركته إلى أنّ الإدارة المحلية في سوريا لم تنجح على مدار العقود التخطيطية السابقة بتبني نهج اقتصادي تشاركي يقوم على التكامل في مستويات التخطيط الثلاثة الكلي والإقليمي والمحلي، مؤكداً عدم وجود إرادة كافية للانتقال إلى مستويات أدنى من التخطيط الكلي أو المركزي.
وبيّن حجازي أنّ الإدارة المحلية كانت محكومةً بنظام مركزي يأخذ كل شيء ثمّ يوزعّه على المحافظات والأقاليم بالطريقة التي يراها مناسبةً بغض النظر عن الإمكانيات المتاحة لكل إقليم أو محافظة (الطبيعية وغير الطبيعية)، وبالتالي بقيت بعض المحافظات كالمحافظات الشرقية متخلفةً من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، وهذا خلق استقطاباً وفجوةً تنمويةً بين المحافظات.
وعن محددات نقل الصلاحيات إلى المحليات في مختلف المحافظات أوضح حجازي أنّ تعزيز اللا مركزية في العقود السابقة أخذ طابعاً هندسياً تخطيطياً عمرانياً، وتمّ إغفال علم الاجتماع السكاني والاقتصاد والإدارة والكثير من القضايا التي يجب أن تؤخذ بالحسبان، ما أدى لضعف القدرات التخطيططة والإدارية للمجالس المحلية والمدن والبلدات حول التخطيط التنموي وتحديد الاحتياجات وبناء الخطط والاستراتيجيات على المستوى المحلي.
وأكد حجازي أنّ التخطيط التنموي للمجالس والمدن والبلدات ظلّ محكوماً بالهيكل العام المركزي للاقتصاد السوري ما يعني أنّ فعالية المجالس والمدن والبلدات كانت ضعيفةً وغير قادرة على رسم سياسات وبرامج تنموية، ما يؤكد أنّ عدم جدوى المشاركة أحد أسبابه البنية المركزية وعدم الثقة بالمحليات.
وحول تغيير فلسفة الإدارة المالية أشار الدكتور أيهم أسد إلى أنّنا بحاجة إعادة نظر في فلسفة إدارة المال العام في سوريا، بحيث تبدأ من المركز وتنتقل إلى المحليات، مؤكداً أنّ موازنة البنود التي يتمّ العمل وفقها في وزارة المالية هي من أقدم أنواع الموازنات، وقد ظهرت بعدها أكثر من موازنة أفضل كموازنة البرامج والأداء وصولاً إلى أحدثها وهي الموازنة التعاقدية، ويتمُّ من خلالها إدارة المال العام بطريقة متطورة جداً وعصرية.
وبيّن د.أسد أنّ نقل طريقة إعداد موازنة المحليات من موازنة البنود إلى الأداء والبرامج، يجعل الإنفاق وفق البرامج ما يجبر المحليات على إعداد برامج تنموية وفق ما خطط له المركز، فتعدُّ موازنتها بناء على خطط، وهنا يتمُّ ربط عملية التخطيط التنموي بعملية إعداد الموازنة.
وأشار د.أسد إلى أنّ العمل على اللا مركزية المالية لا يكون وفق أسلوب واحدٍ فقط، فتحديد نظام عقود مستقل للمحليات –على سبيل المثال- يعفيها من كل الإجراءات البيروقراطية يعدّ جزءاً من اللا مركزية المالية التي تساهم في تعزيز اللا مركزية وتترك للمحليات حرية التعاقد، ومثاله عقود أعضاء الهيئات التدريسية في الجامعات السورية، مؤكداً أنّه دون تحرير مالي ومنح صلاحيات مالية قوية جداً للمحليات لا يمكن إنجاز تخطيط تنموي محلي.
وفي ختام مداخلته أكد د. أسد أنّ الثقة لا تبنى إلا بالتجربة من خلال منح بعض العينات من عدة مناطق محلية صلاحياتها وفق قانون الـ 107 وتقديم الدعم لها ثمّ قياس تجربتها لاحقاً والحديث عن الثقة حينها.
وفي مداخلته أشار د. عقيل محفوض إلى أنّ جعل المركز والأطراف طرفان هي قراءة ضدية تولّد المشاكل، والأولى الاهتمام بالتقاطعات ضمن أفق دولة ومجتمع لتفهّم الفروقات والتناقضات وموازنة هذه الصلاحيات من خلال إنشاء مركزٍ وازنٍ وأساسي لا يميل إلى التسلط، وبالمقابل الأطراف يكون عندها صلاحيات وإمكانات لكن لا تميل للانفصال أو الابتعاد وبالتالي يكون ميزان القوة مشتتاً أو غير متماسك.
وأشار د. محفوض إلى ضرورة وجودة ديناميكية التصحيح وأن يكون هناك قدر من الحذر والتنبه للانزلاقات والشطط بالأفكار، مؤكداً أنّ المطلوب اليوم أن نعيد الإمساك بفكرة دولة أولاً، ثمّ يتمّ توزيع السلطة والموارد وفق توافق وطني، مبيناً أنّ الاقتصاد السوري ريعي في المقام الأول، فالدولة هي التي تنفق على المجتمع وبالتالي الدولة هي ربّ العمل الأساسي الذي يوظف ويوزّع الموارد.
وحول الثقة بيّن د. محفوض أنّه لا يوجد لدينا تاريخ من الثقة، لذلك يصبح المجتمع عاجزاً عن الدخول في شراكات تنموية واقتصادية وحتى عاجزاً عن الدخول بتنظيمات سياسية عابرة للجماعة وللمنطقة، موضحاً أنّ أيّ بلد فيه حياة سياسية فإنّ ذلك يعطي مؤشر صحةٍ وتصويب وإعادة تشكيل وتدوير النخب السياسية ومنافسة بين تيارات سياسية تصعد الأشخاص الأكثر قدرة وكفاءة، مؤكداً أنّ الأحزاب السياسية يجب أن تعمل تحت عنوان دولة ومجتمع.
حول التحديات
بدورهم أشار المشاركون في الجلسة إلى أهم التحديات التي تحدّ من دور الإدارة المحلية ومنها وجود فجوات تنموية كبيرة بين المناطق وعدم وجود خطط تنموية واضحة على المستوى الوطني، إضافةً إلى الفجوات بين الصلاحيات التنفيذية ودور المجالس، ما أدى إلى أزمة ثقة وتدني مستويات المشاركة في العمل الحزبي -لعدم وجود تمثيل حقيقي- والمحلي والمجتمعي والعملية الانتخابية وخاصةً القوانين الخاصة بهذه العلمية.
وأكد المشاركون على وجود تحديات ناتجة عن الهويات الفرعية والانتماءات العشائرية، فبالرغم من أهمية التنوع إلا أنّ محاولة إعادة تنظيم الهوية قد تؤدي إلى خلق نزعات انفصالية وتأثير على النسيج الاجتماعي، مشددين على عدم السماح بالهويات الفرعية والتحذير من التوجّه نحو سياسات طائفية تهدد الوحدة الوطنية.
وفي التوصيات
وفي نهاية الجلسة الحوارية خرج المشاركون بعدد من التوصيات أهمها تقديم إطار للحوار مع التأكيد على أهمية مشاركة المجتمعات المحلية في العملية التنموية، وضرورة قراءة الاختلاف بين قدرات المحليات وسياقها التنموي، وتأثير البنية المركزية على التخطيط المحلي والمشاركة الفعالة، والدعوة للتوازن بين الهوية الوطنية والهويات الفرعية.
• فمن الناحية المالية أكد المشاركون على ضرورة تغيير فلسفة إدارة المال العام في سوريا، والحاجة إلى إطار مالي جديد لإدارة اللا مركزية، وضرورة الانتقال إلى موازنات متوسطة المدى، والعمل بأحدث الأنماط في إدارة المال العام (الموازنة التعاقدية)، وتحسين آلية التخطيط التنموي وارتباطه بعملية إعداد الميزانية، وأخيراً تحرير توزيع الموازنات بناءً على عدد السكان ومحددات أخرى.
• وفي مجال الإعلام دعا المشاركون إلى تطوير قانون الإعلام بما يتيح للمجالس المحلية فضاءً أكبر للتعبير وتقديم اقتراحات لتحسين التشريعات المتعلقة بالإعلام المحلي، وتطوير وسائل الإعلام المحلية لتعزيز الوعي والمشاركة المجتمعية، مؤكدين على ضرورة الشفافية في نشر المعلومات المتعلقة بالموازنات والميزانيات.
• وحول اللامركزية دعا المشاركون إلى توضيح إطار اللا مركزية لتكون الرؤية مشتركة حولها بين السوريين، للرغبة الكبيرة في الانتقال إلى التخطيط المحلي بعد عقود من المركزيّة، مشيرين إلى ضرورة استخدام التكنولوجيا في تحسين التخطيط المحلي وتطوير مؤشرات لتقييم اللا مركزية وأثرها في التنمية، وكذلك إعادة تنظيم العلاقات بين الكيانات الحكومية مع توزيع الصلاحيات والموارد بين المركز والأطراف، مؤكدين ضرورة وجود تجربة فعلية -تطبيق اللا مركزية في مناطق معينة- لبناء الثقة بين الأطراف المختلفة، وأهمية وجود حياة سياسية وحزبية لتعزيز الثقة والمشاركة.
• وفي الشأن الانتخابي و صلاحيات المجالس المحلية، بيّن المشاركون إلى أنّ تنظيم انتخابات عادلة يتطلب: ضماناتٍ لتكون نزيهةً، وإنشاءَ معايير لاختيار أعضاء المجالس المحلية، وتوضيحَ صلاحيات المجالس المحلية وعلاقتها بالتخطيط، مشيرين إلى حاجة المجالس المحلية للتمكين ثم المساءلة وتطوير أو تعديل القانون 107 لدعم إنشاء مشاريع على مستوى المحليات، وتغيير النظرة لنسبة الإنجاز وربطها بالإنفاق، ووجود معايير مثل القدرات البشرية للمجالس المحلية.
• وفي التخطيط التنموي أكد المشاركون أنّ عدم وجود خطط تنموية واضحة على المستوى الوطني، وكفاية التشريعات الحالية بشأن التخطيط الإقليمي، وغياب الرؤية، أدى لعجزٍ عن بناء إدارة محلية فعّالة وتحديد الفجوات التنموية بين المناطق، مشيرين إلى مشكلة التواصل بين الهيئات التخطيطية المختلفة، فالتخطيط يحتاج إلى تسلسل واضح بين المستويات المختلفة للتنمية المحلية، داعين إلى التركيز على التخطيط الجيد وتطبيق اللا مركزية الفعّالة، وتوزيع الصلاحيات بين الوزارات والجهات المحلية والتنسيق فيما بينها.
• وحول الأدوار الاجتماعية والمشاركة أكد المشاركون عّلى إيجاد حلول عملية لتعزيز المشاركة المجتمعية الفعالة في اتخاذ القرارات، وتحديد الأدوار المفترض أن تلعبها الفئات المختلفة في المجتمع مثل النساء والشباب، مع التأكيد على أهمية دور المجتمع المدني في تعزيز الحقوق والمشاركة، وتعزيز الشفافية وإتاحة المعلومات للناس.