كثير من الفساد الذي نشهده في بلدنا موجود في معظم الدول والمجتمعات، مع بعض التباين بين بلد وآخر، وهو محطّ شكوى كل مواطن شريف وكل مسؤول نظيف يدرك أن الفساد والإرهاب وجهان لعملة واحدة، لأن الفساد الذي ينخر العظام من الداخل لا يقلّ خطراً عن الإرهاب الذي يُكسِّرها من الخارج، وهناك آمال كبيرة معلقة على معالجته، لكن الإرهاب الذي هجم علينا منذ سنوات، طغى وبغى حتى كاد ينسينا ما نعانيه من فساد، أغلبه مفضوح اقتصادياً واجتماعياً، والمؤسف أن مكافحة أو انحسار بعضه من مكان يوازيه ظهور أشرس لبعضه الآخر في مكان ثانٍ، لأن كثيراً من المفسدين المعهودين والجدد يستثمرون منعكسات الإرهاب لتحقيق المزيد من فسادهم، غير آبهين بالمتضررين الرافضين لأية حجج واهية تعمل لتبرير ضعف معالجته، ولكن لسان حالهم يقول بعض الشر أهون من بعض!!.
هذا الفساد الذي عبرت رائحته الحدود دفع منظمة الشفافية الدولية لأن تعلن غيرتها على سورية وشعبها، وتسلّط أضواءها على وقائع فسادنا، وطلعت علينا بتقرير يصنّف سورية من بين الدول العشر الأولى الأكثر فساداً في العالم، لا بل إن البعض –أكان متأسياً أو شامتاً- قرأه بأنه ينصّ على أن سورية تحتل المرتبة الأولى، وغاب عن ذهنه نهج التسييس المعتمد بل والمتعمَّد في كثير من قرارات وتوجيهات العديد من المنظمات الدولية، ما يستوجب التشكيك بالمصداقية القليلة، وربما المفقودة في الكثير من تقاريرها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وما هذا التقرير إلا نموذج جديد منها، هذه المنظمة –وأخواتها- التي أغمضت عيونها عن الإرهاب المتفاقم منذ أكثر من خمس سنوات، والذي فاق خطره خطر أي فساد معهود، فتقرير منظمة الشفافية الدولية يتعمّد تضخيم الفساد الصغير على حساب تحجيم الإرهاب الكبير!!.
كلنا نجمع على وجود فساد بحجم لا نرضاه، وجمهرة الصالحين أشاروا لكثيره المخزي والمثبت بالحقائق والوثائق، ولكن الفساد القائم لا يمنحنا هذه المرتبة المتقدمة به على المستوى العالمي، ما رسَّخ لديّ قناعة كبرى بضعف مصداقية هذا التقرير، فالصلاح والنعيم الموجودان في مجتمعنا بنسبة غير قليلة، يدحضان المعطيات التي اعتمدتها منظمة الشفافية الدولية، فالدولة موجودة بقوة في جميع مؤسساتها، والخدمات المتوفرة للشعب السوري المقيم في المناطق الآمنة –بل وفي كثير من المناطق الساخنة- باقية في كثير منها على ما كانت عليه قبل الحرب الإرهابية عليها، ورغيف الخبز مؤمّن للمواطن السوري وسعره أخفض من سعر مثيله في جميع بلدان العالم، والخدمة التعليمية المجانية موجودة لجميع أفراد المجتمع السوري، وكذا الخدمة الصحية المجانية، والإعلام –المقروء والمسموع والمرئي- يفسح المجال بدرجة كبيرة لجميع الرؤى الوطنية النقدية البنّاءة، والرأي الحر متاح لكل من يتميّز بالجرأة والمصداقية والموضوعية، ضمن جميع المؤتمرات الصغيرة والكبيرة وعبر منابر المراكز الثقافية، ولو كان الفساد موجوداً بالحجم الذي أشار إليه تقرير منظمة الشفافية الدولية، لما بقيت هذه المكاسب على ما هي عليه، ما يؤكد لكل متمحِّص متمعِّن أن تقرير منظمة الشفافية الدولية تنقصه الشفافية، وهو مسيَّس ككثير غيره من تقارير المنظمات الدولية الأخرى، التي اعتادت أن تقرّر ما يملى عليها من المتحكمين بها، لا ما تستنبطه فعلياً من دراساتها وتحقيقاتها، وهل يخفى على أحد فساد العديد من قرارات مجلس الأمن (المنظمة الدولية الأم) التي كانت تهدف لتدمير بلدنا، لولا فيتو الأصدقاء الكبار، وفساد العديد من تقارير منظمات حقوق الإنسان المنحازة كلية إلى الإرهابيين والاستعماريين، وما نعانيه الآن من القرارات الفاسدة الصادرة عن منظمة حظر استخدام الأسلحة الكيميائية، التي تتجاهل استخدام الإرهابيين لها، وتتعمّد أن توصم الحكومة السورية بها، وهل ننسى الفساد الاقتصادي المفضوح الموجود في المنظمات الدولية الاقتصادية الكبرى (صندوق النقد الدولي– البنك الدولي– منظمة التجارة العالمية) والذي مارسته على بلدنا عبر توجيهاتها لنا وطلباتها منا عقب انتهاجنا سياسة اقتصاد السوق الاجتماعي وتعمَّدت تحويله إلى اقتصاد السوق الحر، بجهود مندوبيها الذين كانوا موجودين في موقع القرار الاقتصادي، ومازلنا نعاني مخاطر ذلك.
ليت منظمة الشفافية الدولية كانت شفافة بمصداقية، وأوردت ضمن تقريرها أن الحقائق والوثائق تؤكد أن سورية من بين الدول العشر -بل الأولى- في العالم التي تقاوم الإرهاب الفاسد المفسد بأخطر أشكاله، وأن الجيش العربي السوري هو الجيش الأول في العالم المتميّز بقدرته القتالية العالية، والصمود في حرب طويلة، تشنّها عشرات الدول ومئات الوكالات الإعلامية، وليتنا نكون نحن أكثر شفافية ومصداقية مع أنفسنا، وأكثر جرأة وسرعة في شنّ حملة على الفساد، لنتجنّب مخاطره ومخاطر تدعيم وتضخيم الآخرين له.
عبد اللطيف عباس شعبان
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية
هذا المقال منشور في صفحة اقتصاد من صحيفة البعث ليوم الأخد العدد / 15701 / تاريخ 27 / 11 / 2016